وصول رابين إلى رئاسة حزب العمل في إسرائيل مؤشر على أميركا استعملت نفوذها ضمن هذا الحزب لتنحية بيريز والإتيان برابين. ذلك أن بيريز ليس من رجال أميركا وإن كان يسايرها، أما رابين فهو من رجالها. وصار المتوقع أن تستعمل أميركا نفوذها في انتخابات حزيران القادم لإنجاح حزب العمل وتنحية الليكود عن الحكم.
وعرف شامير نيّة أميركا فصمّم أن يلعب لعبة تستقطب الناخبين إليه ليكسب هو الانتخابات ويبقى في الحكم رغم تدخل أميركا لمصلحة خصمه. ولعبة شامير هي عملية عسكرية (نوعية وكبيرة) في لبنان يحتك فيها بسوريا ويحقق فيها مكاسب على الأرض. وتتحدث الصحف عن أن هذه المكاسب هي عبارة عن توسيع للشريط الحدودي واحتلال مناطق جديدة في إقليم التفاح بحجة منع المقاومة. وهذه العملية يخطط لها شامير قبل تدمير سفارته في الأرجنتين. والهدف الأساس من زيارة الأسد إلى القاهرة هو البحث مع مبارك لمنع إسرائيل من عمليتها أو لمواجهة هذه العملية. ثم جاءت حادثة تدمير سفارة إسرائيل في بوانس ايريس فصار شامير يخطط لاتخاذها مبرراً إضافياً لعمليته موجهاً اتهامه لسوريا وإيران في دعمهم لـ “حزب الله”.
وقد لوحظ أن سوريا نقلت قسماً من قواتها في لبنان إلى مواقع جديدة وإلى الجولان، وهناك أجواء حرب في سوريا. وانتقلت بعض قوات الجيش اللبناني إلى البقاع الغربي لتمنع أي عمل من هناك ضد إسرائيل كي لا تتخذه إسرائيل ذريعة للهجوم.
ونتساءل: هل كانت استقالة ليفي من وزارة الخارجية الآن لأنه غير موافق على العملية العسكرية؟ هذا هو الأرجح لأن أميركا غير راضية عن مثل هذه العملية، وليفي هو من رجالات أميركا داخل الليكود. فهل يساوم شامير أميركا ويتراجع عن العملية (النوعية الكبيرة) ويكتفي بعملية صغيرة كرد على عملية تدمير السفارة؟ قد يحصل هذا إذا رأى شامير أن عمليته غير مضمونة النتائج.
ونحن نرجح أن ما أعلنته أميركا عن شحن صواريخ سكون إلى إيران وسوريا هو موجه إلى اليهود خاصة، ليفهموا أن ما ينوي شامير القيام به ليس مجرد نزهة بل هو مغامرة عواقبها وخيمة، من أجل أن يضغطوا على شامير للإقلاع عن مغامرته. وقد اتّسم خطاب الأسد في 12 آذار بالصلابة والتحذير لإسرائيل.
ولكن علامَ الخلاف بين أميركا وشامير حتى تعمل لإقصائه عن الحكم؟
أميركا (بوش وإدارته) ليس ضد إسرائيل، بل هناك خلاف بين بوش وشامير، ليس خلافاً شخصياً بل خلاف على بعض المسائل السياسية:
فمثلاً أميركا لها مصالح عند العرب، وقد صار كثير من حكام العرب محرجين أمام شعوبهم من سيرهم مع أميركا وتأمينهم مصالح أميركا في الوقت الذي لا تعطيهم أميركا أي مقابل وتغدق العطاء على عدوهم: إسرائيل. أميركا تريد أن تعطي لهؤلاء الحكام شيئاً يحفظ ماء وجوههم ويحفظ الضفة والقطاع لسنة أو لبضع سنوات. ولكن شامير رفض بعناد. مع أن هذا المطلب الأميركي لا يضرّ بإسرائيل لأنه مسألة تجميد الاستيطان لفترة قصيرة لتوهم شعوب العرب وحكام العرب أنهم قد حصلوا على شيء مقابل ذهابهم للتفاوض مع إسرائيل والاعتراف بها والتنازل لها عن الأرض. ولكن شامير (ومعه الصقور) ينطلق من تجربته مع أميركا، فكارتر وريغان كانا يقولان بأن الاستيطان عقبة في سبيل السلام كما يقول بوش الآن. وشامير يقول: لو رضخنا لكارتر وريغان لما كنا بنينا مستوطنات، وها أن ما بنيناه أو أرسينا أسسه حتى بداية عام 1992 اعترفت به أميركا وصار شرعياً، وما نبنيه الآن ستعترف به أميركا. وهو لا يريد أن يعطي سابقة للرضوخ، ولو لفترة قصيرة، في مسألة الاستيطان تعتبر من عقيدة اليهود.
رغم عناد شامير فإن أميركا لم تتخل عن إسرائيل، فهي ما زالت تدفع لها المبلغ السنوي: ثلاثة مليارات دولار، بل جعلت المبلغ هذه السنة حوالي أربعة مليارات بدل الثلاثة. وقد أعلن صندوق النقد الدولي عن منح إسرائيل 250 مليون دولار أيضاً هذا الأسبوع. وقد أمّن بوش لإسرائيل اعتراف دول المنطقة وتطبيع العلاقات معها من خلال المفاوضات متعددة الأطراف قبل حصول أي تقدم في المفاوضات الثنائية. والقسم الأكبر من يهود إسرائيل ويهود أميركا والعالم مقتنعون بأن إدارة بوش مخلصة في خدمة إسرائيل على أسس عملية، ولذلك فهم يؤيدون إستراتيجية بوش في خدمة إسرائيل أكثر مما يؤيدون إستراتيجية شامير. والحق أن حكام أميركا كلهم مخلصون في خدمتهم لدولة إسرائيل ولكنهم يريدون مع ذلك خدمة مصالح أميركا.
كيسنجر (اليهودي) أثناء رحلاته المكوكية بين إسرائيل والدول العربية كان يتظاهر أنه حصةُ العرب، وكان حين يذهب إلى إسرائيل يوعز إلى المخابرات الأميركية لتسيير مظاهرات في إسرائيل ضده فيطمئن العرب إلى إخلاصه ونصحه لهم. والآن فإن بوش وبيكر مرتاحان لاطمئنان العرب إليهما، فهجوم زعماء يهود وصحافة اليهود عليهما تقنع العرب (السذج) أنهما مخلصان للعرب ومخاصمان لليهود.
في مقابلة لرابين مع وكالة رويتر في 04/03/92 قال كلاماً ثم تراجع عنه في 18/03/92. في 4/3 ذكر بأنه سيعطي الفلسطينيين خيارين إذا شكل حكومة. الخيار الأول «سيضم قطاع غزة وجزء كبير من الضفة الغربية إلى الأردن في إطار كيان أردني – فلسطيني مستقل له حكومة واحدة وعاصمة واحدة هي عمّان». الخيار الثاني: «نوع من الاتحاد بين كيان فلسطيني وإسرائيل في إطار فريد» وقال بوقف إقامة جميع المستوطنات باستثناء تلك الواقعة على خطوط المواجهة في وادي نهر الأردن ومرتفعات الجولان.
وأما في 18/3 فقال: «لدى الفلسطينيين الآن إدراك لواقع أنهم لن يرغموا إسرائيل على أي تنازل يتعلق بالأراضي أو تنازل سياسي غير تعهد بالتوصل إلى اتفاقٍ معهم على حكم ذاتي كامل» فيما يتعلق بشؤونهم الداخلية.
أي أنه تراجع عن الخيار الأول. ويمكن فهم هذا من تصريحه الأول الذي قال فيه باستمرار إقامة المستوطنات في وادي نهر الأردن.
ولكن هل أميركا تريد سلخ الضفة والقطاع (أو أكثرهما) عن إسرائيل وربطهما باتحاد مع الأردن؟ هذا ما تتظاهر أميركا بجعله خياراً أمام الفلسطينيين، ولكن إذا دققنا في المسألة نجد أن نوايا أميركا هي إبقاء الضفة والقطاع تحت سلطة إسرائيل ولا تتمتع بأكثر من حكم ذاتي ضعيف. وهذا يمكن فهمه من أمور كثيرة منها تصريح بيكر في 24/02/92 في مجلس النواب أمام لجنة الاعتمادات حيث اشترط على إسرائيل تجميد النشاطات الاستيطانية في مقابل الحصول على ضمانات عشرة بلايين دولار «واستثنى من الشروط المطروحة المنشآت العسكرية».
فهو يستعمل كلمة «تجميد» وهذا يتضمن أنه تعليق مؤقت. وهو يسمح بأن تقيم إسرائيل «المنشآت العسكرية» في الضفة والقطاع ولا يشملها التجميد، وهذا يتضمن أن الضفة والقطاع ستبقى تحت حكم إسرائيل.
ومن باب التضليل لقادة الفلسطينيين تقترح أميركا عليهم أن يطالبوا الآن بإعادة ربط الضفة بالأردن باتحاد كونفدرالي من أجل إعطاء المفاوض الفلسطيني موقفاً أقوى أمام المفاوض اليهودي فيزداد الفلسطينيون قناعة بجدية أميركا في عملها لسلخ الصفة عن إسرائيل وربطهما بالأردن.