أولـو الأمــر
2016/09/26م
المقالات
2,053 زيارة
أولـو الأمــر
قد تتعدد آراء المجتهدين في المسألة الواحدة، وقد تختلف آراء المفسرين للنص القرآني الواحد، لكن المعنى العام يتراوح بين قطعي الدلالة وظنيها. وبين يدينا الآن مجموعة من الآراء (الأفهام) وردت في بعض مراجع التفسير، أو في شرح الحديث، أو في كتب الفقهاء حول المقصود بأولي الأمر، والجماعة والطاعة والإمارة، ويلاحظ من خلال هذه الآراء مدى ارتباط هذه الكلمات ببعضها، حتى إن بعض الفقهاء وهم يتحدثون عن إحداها ينتقلون تلقائياً إلى الأخرى ودون مقدمات تمهيدية.
نبدأ بالحديث عن أولي الأمر الواردة في القرآن الكريم لنرى ما يقول المفسرون في معناها، ثم نرجع إلى مراجع أخرى غير كتب التفسير سعياً وراء المزيد من الإيضاح.
(أُوْلِي الْأَمْرِ): يقول القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن): “قال سهل بن عبد الله التُّستري: أطيعوا السلطان في سبعة: ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام، والحج، والجمعة، والعيدين، والجهاد. وقال ابن خويز منداد، وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية، ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة، وإقامة ذلك على وجه الشريعة. وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم”.
ويُكمل القرطبي “وقال جابر بن عبد الله ومجاهد: (أُوْلِي الْأَمْرِ) أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالك رحمه الله. ونحوه قول الضحاك: يعني الفقهاء والعلماء في الدين”(1).
“أما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ[ فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة. ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجباً، وامتثال فتواهم لازماً، قال سهل بن عبد الله رحمه الله: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفّوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم”(2).
وفي تفسيره للآية 83 من سورة النساء: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) يقول القرطبي: “أي لم يحدثوا به، ولم يفشوه، حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه. أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه، عن الحسن وقتادة وغيرهما، السدي وابن زيد: الولاة، وقيل أمراء السرايا: ( لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي يستخرجونه، أي لعلموا ما ينبغي أن يُفشى منه وما ينبغي أن يُكتم. والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء: إذا استخرجته”(3).
أما ابن كثير فقد ذكر أن آية إطاعة أولي الأمر: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فقال لهم (لمن معه وتحت إمرته): أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فاجمعوا لي حطباً فادخلوها. قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال لهم: «لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً إنما الطاعة في المعروف».
وعبارة (إنما الطاعة في المعروف) تشير إلى الحدود التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطاعة، وهي (في المعروف) والمعروف اسم لكل فعل حسَّنهُ الشرع، وهو خلاف المنكر، أو هو ما عُرف بأدلة الشرع أنه من أعمال البر، سواء جرت به العادة أم لا. وفي قول الشوكاني: المعروف ما كان من الأمور المعروفة في الشرع لا المعروفة في العقل أو العادة.
وقد أورد ابن كثير ما يلي: “قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية: (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني العلماء، والظاهر ـ والله أعلم ـ أنهـا عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم”(4).
وفي تفسيره لآية: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ) يقول ابن كثير: «إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع». وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال، أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين. وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بئس مطية الرجل زعموا» وفي الصحيح: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»(5).
أما سيد قطب فيعلق على آية: (وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) بقوله: “أي من المؤمنين الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحدّ الإسلام المبين في الآية ويفسر آية: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إن كان معهم، أو إلى أمرائهم المؤمنين، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة، واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة، والملابسات المتراكمة.
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم الذي يقوده أمير المؤمنين ـ بشرط الإيمان ذاك وحدِّه ـ حين يبلغ أذنيه خبر، أن يسارع فيخبر به أميره، لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه، أو بين من لا علاقة لهم به، لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر – حتى بعد ثبوته ـ أو عدم إذاعته.
وهكذا كان القرآن يربي، فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة، ويعلم نظام الجندية في آية واحدة بل بعض آية، فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ بالأمن أو الخوف، فيحمله ويجري متنقلاً مذيعاً له من غير تثبت، ومن غير تمحيص، ومن غير رجعة إلى القيادة. ووسطها (الآية) يعلم ذلك التعليم، وآخرها (الآية) يربط القلوب بالله في هذا ويذكرها بفضله، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته”(6).
أما في صحيح مسلم بشرح النووي فقد ورد ما يلي: “وقد ذكر الخطابي في سبب اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بشأن الأمراء، حتى قرن طاعتهم إلى طاعته، فقال: كانت قريش ومن يليهم من العرب لا يعرفون الإمارة ولا يدينون لغير رؤساء قبائلهم، فلما كان الإسلام ووُلّيَ عليهم الأمراء، أنكرت ذلك نفوسـهم، وامتنع بعضهم من الطاعة، فأعلمهم صلى الله عليه وسلم أن طاعتهم مربوطة بطاعته، ومعصيتهم بمعصيته، حثاً لهم على طاعة أمرائهم لئلا تتفرق الكلمة… قوله: وعلى أن لا ننازع الأمر أهله: أي لا نخاصم ذوي الإمارة في إمارتهم، ولا نطلب نزعها منهم، وهو تقرير وبيان لقوله: «وعلى أثرة علينا» لأن ترك المنازعة معناه الصبر على الأثرة… قوله صلى الله عليه وسلم من خلع يداً من طاعة…الخ أي طاعة إمام ونكّر الطاعة ليُشعر أن المقصود أي طاعة كانت، قليلة أو كثيرة، وكنّى بخلع اليد عن الخروج عن طاعة الإمام، ونقض بيعته، لأن اليد كناية عن العهد وإنشـاء البيعة، لجري العادة بوضع الـيد على اليد حال المعاهدة”(7).
كل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر:
أما ابن تيمية فله رأي متميز في هذا المجال فيقول: “وأولو الأمر: أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان وكل من كان متبوعاً فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله “(8).
ويقول ابن تيمية: إن الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، “وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها إما بمعروف وإما بمنكر… وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعداً فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين، كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة”(9).
أما في كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) فإن ابن تيمية يقول: “فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» [رواه أبو داود]. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم»، فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع”(10).
وعن السلطان والجهاد يقول ابن تيمية: “وهاتان السبيلان الفاسدتان ـ سبيل من انتسب إلى الدين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبَـل على السلطان والمال والحرب، ولم يقصد بذلك إقامة الدين – هما سبيل المغضوب عليهم والضالين. الأولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود … فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات، لم يؤاخذ بما يعجز عنه، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار”(11).
بقيت الإشارة إلى تعريف ابن تيمية للقاضي فهو يقول: “القاضي اسم لكل من قضى بين اثنين وحكم بينهما، سواء كان خليفة أو سلطاناً أو نائباً أو والياً أو كان منصوباً ليقضي بالشرع أو نائباُ له، حتى (من) يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا (أي احتكموا إلى الرجل ليرى أيهم خيرٌ وأحسن خطاً) هكذا ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ظاهر”(12) .
إعداد: مهدي شاكر
الهوامش:
(1) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج5/ص259.
(2) المرجع نفسه ج5/260.
(3) المرجع نفسه ج5/291.
(4) ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج1/ص518.
(5) المرجع نفسه، ج1/529،530.
(6) سيد قطب، الظلال، ج1/691،724.
(7) صحيح مسلم، ج6/13، 16،22.
(8) ابن تيمية، الحسبة، ص117.
(9) المرجع نفسه، 115.
(10) ابن تيمية، السياسة الشرعية، ص161.
(11) المرجع نفسه، ص166،167.
(12) المرجع نفسه، ص15،16.
2016-09-26