كلمة الوعي: أزمة تفتيـش العـراق
1998/10/26م
المقالات, كلمات الأعداد
1,957 زيارة
الأزمات تحاصر أهل المنطقة الإسلامية ودولها من الداخل والخارج، فمن أزمات التموين إلى أزمات المياه إلى الأزمات الاقتصادية، إلى البطالة ونقص السيولة النقدية، إلى القهر السياسي وكمّ الأفواه، والزج في السجون والمعتقلات، هذه الأزمات الداخلية، سببها الحكام وأنظمة الحكم، والقوى المسيطرة على المنطقة، وهي تأكيد قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، وهذه لا أمل بالخروج منها كلها إلا باستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة التي تطبق شرع الله الذي فيه شفاء ورحمة للمؤمنين.
أما الأزمات الخارجية، فهي وإن كانت بين دويلات المنطقة في معظمها، إلا أنها ناجمة عن فترة الاحتلال العسكري المباشر، أو ما بعدها من السيطرة الثقافية والسياسية والاقتصادية. فالأزمة بين طالبان وإيران، كانت في أوجها، حين انفتحت أزمة بين سوريا وتركيا. ولم تكد تهدأ هذه الأزمة حتى تفجرت أزمة حادة بين أميركا والعراق بشأن لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل وتدميرها. وهي الأزمة الخامسة في سياق الأزمات المتلاحقة بين العراق وأميركا منذ انتهاء العدوان الأميركي على العراق عام 91. وقد نشأت الأزمة الأخيرة بعد أن أوقف العراق تعاونه بشكل كامل مع الأونسكوم حتى يعاد تشكيلها بشكل متوازن، وتحديد مهمتها بشكل يضمن عدم تسرب المعلومات عن الوضع العسكري للعراق إلى أميركا وإسرائيل أو غيرهما، وإلى أن تجري مراجعة شاملة لعمليات التفتيش والتدمير والمراقبة، يكون من نتيجتها رفع الحظر على تصدير النفط العراقي.
وقد جاءت هذه الأزمة بعد ثلاث محطات هامة: أولاها: قرار مجلس الأمن، بتحريض من أميركا، وقف المراجعة الدورية للعقوبات الاقتصادية على العراق إلى إشعار آخر؛ وثانيتها: رفض ربط الفقرة 22 من قرار مجلس الأمن رقم 687، والتي تنص على رفع الحظر النفطي عن العراق، مع المراجعة الشاملة لعمليات نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وذلك بإصرار أميركي أكيد؛ وثالثتها: ما سمي بقرار (تحرير العراق) الذي أقره الكونغرس الأميركي، والذي تم بموجبه رصد 97 مليون دولار لمساعدة المعارضة العراقية لإسقاط صدام، وتم رصد المال اللازم لبث برامج موجهة إلى شعب العراق من تشيكيا عبر إذاعة أوروبا الحرة.
هذه المحطات الثلاث، مضافاً إليها إحساس العراق الأكيد أن أميركا لا تنوي رفع العقوبات الاقتصادية على العراق في المستقبل المنظور، وأنها تفتعل المشاكل والأزمات من أجل ديمومة هذه العقوبات. ثم كانت هناك القراءة الخاطئة من قبل العراق، لواقع اتخاذ القرار في أميركا، ولمواقف الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وبخاصة فرنسا وروسيا، ومواقف دول الجوار العربي، ودول الجامعة العربية ككل. فالعراق أقدم على خطوته قبل الانتخابات النصفية لمجلسي الكونغرس بأيام قليلة، ظناً من القيادة العراقية أن نتيجة الانتخابات ستكون تعزيزاً للسيطرة الجمهورية على حساب الديموقراطيين، ما يعجل في محاكمة كلينتون وعزله؛ فكانت نتيجة الانتخابات نصراً للحزب الديموقراطي الحاكم ولأول مرة منذ 34 سنة، فتقلّص الفارق بين الجمهوريين والديموقراطيين في مجلس النواب، وإن بقي الجمهوريون يمتلكون الأكثرية، وبذلك تضاءلت فرص محاكمة كلينتون وعزله، لأن نتائج الانتخابات عكست رضا شعبياً أميركياً عن كلينتون وأدائه.
أما روسيا وفرنسا، فكان موقفهما واضحاً مع وجوب تعاون العراق مع الأونسكوم، وأن عدم تعاونه ليس مقبولاً، وأن لا بحث في رفـع العقوبـات قبل عودة التعاون الكامل مع الأونسكوم، ورفضت كلاهما القيام بأية مبادرة ديبلوماسية لنـزع فتيل الأزمة. وكذلك تصرف أنان سكرتير عام الأمم المتحدة، فقد صرّح من المغرب، أنه لا ينوي زيارة بغداد، وبذلك نأى بنفسه عن التورط من جديد في الأزمة، بعد أن كانت مبادرته في شباط سبباً في إنهاء الأزمة حينذاك، والتي انتهت بتوقيع الاتفاق بينه وبين طارق عزيز، والذي يُتهم العراق بعدم تنفيذه.
أما دول الجوار ودول الجامعة العربية ككل، فقد أحست أن أميركا جادة في توجيه ضربة قوية ومدمّرة للعراق في قوته العسكرية الممثلة في الحرس الجمهوري والحرس الرئاسي، وللبنى التحتية في العراق، ولهذا ناشد حكامها العراق أن يرجع عن قراره، وأن يتعاون مع الأونسكوم، وقد تجلّى ذلك واضحاً في البيان الصادر عن مؤتمر وزراء خارجية دول إعلان دمشق (دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وسوريا) المنعقد في قطر، الذي حمّل القيادة العراقية مسؤولية أية تداعيات تنشأ عن قراره وقف التعامل مع الأونسكوم، ولم يطلبوا من أميركا العمل على حل ديبلوماسي للأزمة.
ولهذا أخطأ العراق في قراءة الواقع، وصار مؤكداً أن تقوم أميركا بضرب العراق، وحشدت لذلك القطع البحرية والطائرات القاذفة، وكانت على وشك أن تبدأ القصف حين تراجع العراق عن موقفه دون شروط، في مذكرة سلمها مندوبه الدائم في الأمم المتحدة إلى أنان. وبذلك توقفت الضربة الأميركية، وأحس كلينتون بزهو النصر، فأخذ يملي شروطه المذلة على العراق من جديد، وطلب منه تسليم ما عنده من الوثائق للأونسكوم، وتسهيل مهمات المراقبة والتفتيش، وأنذر العراق أن عدم التجاوب يؤدي إلى ضربه دون تأخير. وقد وجد كلينتون الجو مناسباً ليعلن أن الحل الدائم لأزمات التفتيش يكون بإيجاد حكومة جديدة في العراق تمثل شعبها وتحترمه، وتحترم حقوق الإنسان وتكون منتخبة ديموقراطياً، وتقبل العيش بسلام مع جيرانها. وهو موقف لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقات بين الدول، أن تعلن دولة، مفروض فيها أن تحافظ على القانون الدولي، أنها ستعمل على تقويض نظام دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة.
إن صداماً كان يتوقع أن لا يتمكن كلينتون من ضرب العراق بسبب وضعه الداخلي المهتز وبسبب الرأي العام العالمي الذي لا يرى مبرراً لضرب العراق، باعتبار أن العراق قد سار طويلاً مع الأونسكوم، وأن عمليات التفتيش تجاوزت أكثر بكثير نصف المهمة، وأن دول الجوار العربي ومصر وشعوب المنطقة لا تسمح بضرب العراق، وتعتبر أن العراق قد نال أكثر مما يحتمل من العقوبات، وتنتظر بفارغ الصبر رفع العقوبات عن شعب العراق المستضعف.
وكان يرى صدام، أنه لو أخطأت حساباته وتقديراته، فإنه لن يخسر الكثير، فالضربة الأميركية لن توقع من الخسائر أكثر مما توقعه العقوبات، وهو يرى فيها، إن حصلت، فرصة ذهبية للخروج من دوامة التفتيش وتدمير الأسلحة، آملاً أن تقوم الشعوب بكسر المقاطعة، ورفع العقوبات بشكل عملي.
إلا أن المؤكد أن أميركا غير مأمول أن تخفف من سيطرتها في الخليج وفي المنطقة فهي تعلن أن صداماً يخفي أسلحة، وأن أسلحته التدميرية تشكل خطراً ليس على الخليج، وإنما على أوروبا أيضاً، واعتبر كلينتون أن العراق قادر على أن يعود مالكاً لأسلحة الدمار الشامل خلال بضعة أشهر من رفع العقوبات. ووقف التفتيش والمراقبة، ولهذا يتوقع الكثير من المراقبين أن تكون هذه آخر حلقة في مسلسل أزمات التفتيش.
بقي سؤال وهو: هل إن أميركا حسمت أمرها، وحددت كيفية صياغة العراق قبل أن تصوغ منطقة الخليج بأكملها؟ المعروف أن أميركا هي سبب الأزمات في الخليج، وأنها كانت تقدّم صدّاماً على أنه فزّاعة الخليج، ومن قبل كانت ترى في إيران تلك الفزّاعة، من أجل توطيد دعائم نفوذها في منطقة الخليج والسيطرة على مواردها النفطية ومدخراتها النقدية. فهل يعتبر قانون «تحرير العراق» مؤشراً على أن أميركا ستبدأ بصياغة العراق قبل اكتمال هيمنتها على الجزيرة العربية وإعادة صياغتها بحيث تبقى في الجزيرة العربية ثلاث دول: السعودية، اليمن، وعُـمان كما نشر في مجلة ميدل إيست بولسي في عدد نيسان الفائت.
يبدو أن ذلك أصبح مرجحاً، بعد الاتفاق الكردي الذي رعته واشنطن، والذي تضمن إنشاء سلطة ذاتية وحكومة مؤقتة ومجلس منتخب في شمال العراق.
هذه الأزمات وأمثالها لا يمكن حلّها والقضاء على مسبباتها إلا بتحرير المنطقة من أي نفوذ للدول الكافرة، وتوحيدها في دولة واحدة، تعرف موقفها في العالم بأنها خير أمة أخرجت للناس، وتحمل رسالة السماء إلى البشرية التي تئن تحت هيمنة قوى الطغيان والكفر، لتحررها من شقائها، وتنشر عليها راية العدل والرحمة والخير.
1998-10-26