إنهـاء أزمـة لوكـربـي
1999/05/25م
المقالات
2,153 زيارة
منذ سنوات أخذت قضية «لوكربي» منحىً تصعيدياً إذ استطاعت أميركا أن تسوق مجلس الأمن لاتخاذ قرارات ظالمة بمقاطعة ليبيا جوّاً وجرّت معها أوروبا ودول العالم وحتى دول المسلمين، وجيران ليبيا. كما أنها اتخذت من جانبها إجراءات أحادية لمنع التعامل مع ليبيا فيما يتعلق بشؤون النفط.
وتحت ذريعة تنفيذ قرارات مجلس الأمن أحكمت الحصار على ليبيا في كل ما يتعلق بالطيران المدني من وإلى ليبيا، من قطع الغيار والصيانة والتجديد والتدريب. وفي كل ما يتعلق بالسلاح بجميع أنواعه، شراءً وتدريباً وقطع غيار.
وهذا النجاح الأميركي بقدر ما كان مضراً بالنظام الليبي إلاّ انه قد ألحق ضرراً فادحاً بعمليات تجارة السلاح مع ليبيا والمتضررون هم: فرنسا وبريطانيا وروسيا، لأن مصادر السلاح الليبي في مجمله هذه الدول الثلاث.
ومع مرور أكثر من ثماني سنوات واستمرار العقوبات استطاع النظام الليبي التعايش معها وتكييف أوضاعه بحسبها ـ فقد تخلى عن كثير من الخدمات للناس ـ بحجة الحصار ـ فاستطاع توفير مبالغ هائلة من المال كانت تذهب لصناديق الدول والشركات المنتجة للسلاح وقطع الغيار وبعض السلع المستوردة التي منعت من الدخول إلى ليبيا، واستطاع أن يستعيض عن الكثير من المستورد بإنتاجٍ محلي أو بما يمكن أن يدخل عبر المنافذ البرية المفتوحة حول ليبيا. هذا بالنسبة لتعايش النظام الليبي مع العقوبات الدولية.
وإذا كان من المسلمات عند السياسيين الواعين أن القذافي أتت به بريطانيا في انقلاب وقائي لقطع الطريق على رجال عبد الناصر للوصول إلى الحكم. إلا أنه بممارسته لسياسة دعم ما يسمى بالإرهاب لسنوات طويلة أصبح حاجة أميركية ضرورية في المنطقة والعالم، ـ شأنه في ذلك شأن صدام حسين في العراق الآن ـ فهي لم تسعَ للإطاحة به طوال ثلاثة عقود من الزمـن. لمـا يوفـره لهـا مـن ذرائـع الـتدخـل والعمل في أفريقيا وبعض مناطق العالم بحجة مكافحة (الإرهاب) الليبي.
وقد قيل إن ريغـان كـان يحلم بخصم من هذا النوع، فالخطابات النارية لعقيد ليبيا كانت تقدم المبررات اليومية لريغان من أجل إيصال موازنة الدفاع الأميركية إلى مستوى خرافي ومن أجل تعزيز سـياسـتـه الهجومية وتجييش الأصدقاء، في معركة ضد الإرهاب، والذي هو في شطره صناعة أميركية.
ولم يكن من خاسر في عملية العقوبات والحصار غير بعض الشركات الفرنسية والغربية عموماً وبعض الشركات الأميركية أيضاً التي كانت لها عقود عمل في ليبيا، وظهرت الضغوطات من بعض الشركات الكبرى الغربية على حكوماتها في ضرورة وضع حدٍ للمسألة.
وزاد في تحريك الأمر تحرك أهالي الضحايا في حادث (لوكربي) مطالبين بالإسراع في معالجة المسألة والانتهاء منها. وبدأت العقوبات تتآكل، وأخذ الكثير من الدول الإفريقية يخترق الحصار الجوي، كما قامت ليبيا نفسها بتحدي الحصار في إرسال طائرات تنقل الحجاج إلى الديار المقدسة.
إزاء ذلك كله بدأت المحاولات والاتصالات للبحث عن مخرج، وبادرت فرنسا لفصل قضية إسقاط الطائرة الفرنسية (ايوتا) ـ المتهم فيها جهاز الاستخبارات الليبي ـ عن قضية (لوكربي) بعد أن كانتا قـضـيـةً واحـدةً وسـارت فيها قضائياً باعتبارها قضية جنائية ضد أشخاص وليست قضية دولية، وبالتالي اتخذت فيها أحكام قضائية (غيابية) ضد أشخاص ولم يجر ربـطـهـا بسـياسـة النظـام الليـبـي، وكـان مـن نتيجة ذلك تخفيف الضـغـط علـى النظام الليبي من الجانب الأوروبي.
ودخلت الجامعة العربية ومصر في محاولات إيجاد مخرج لحل المسألة، وكان هذا مؤشراً على أن أميركا صارت تبحث عن حل يحفظ ماء الوجه للجميع، خشية أن تصبح العقوبات غير فعالة.
فجـاءت الـمـبـادرة هذه المرة من جنوب إفريقيا في شخص الرئيس منديلا الذي يتمتع بصدقية عند النظام الليبي وعند الغرب على حدٍ سواء، أما أميركا فكان بندر بن سلطان ممثلها في المبادرة، التي تقضي بمحاكمة الليبيين المتهمين في هولندا أمام القضاء الاسكوتلندي، وتجاوب النظام الليبي مع المبادرة ـ بعد أن أعطي بعض الضمانات بأن لا تذهب المحاكمة إلى حد اتهام النظام بأنه يقف وراء إسقاط طائرة لوكربي ـ وفي سياق ذلك اشترط القذافي على الوسطاء عدم قيام المخابرات الأميركية والبريطانية بالتحقيق مع المتهمين فوافق الأطراف على ذلك، ويبدو أن هذا الشرط هو الذي كان يؤخر حل أزمة لوكربي.
وكان لا بد للقذافي من الاستجابة لمبادرة «نلسون منديلا» لاعتقاده بأن هذه الضمانات التي أعطيت له هي أقصى ما يمكن الحصول عليه في وقت يشهد العالم وبإرادة أميركية تجفيف منابع الإرهاب وملاحقة المتهمين به وقد سارت أميركا في هذا الصدد شوطاً بعيداً بعد تسليم كارلوس من قِبَـل السودان إلى فرنسا وخطف عبد الله أوجلان وتسليمه إلى تركيا ومطاردة ابن لادن وتوقيف بينوشيه في بريطانيا تمهيداً لتسليمه إلى القضاء الإسباني، ومحاكمة مجرمي البوسنة الصرب في محكمة «لاهاي» وإصدار مذكرات توقيف بحقهم.
وفي سياق سير القضية لا بد من الإشارة إلى أن القذافي استدرج إلى القبول بتسليم الشخصين المطلوبين بعد أن تم الانتهاء من قضية الطائرة الفرنسية وإصدار أحكام قضائية غيابية في حق عناصر ليبية ولم توجه التهمة إلى النظام الليبي، غير أن ملابسات القضيتين مختلفة الواحدة عن الأخرى ففرنسا لا تسعى إلى الإطاحة بالنظام الليبي وليس هناك خصومة ولا عداء معه بل هناك مصالح لفرنسا في ليبيا مضمونة.
ومن جهة أخرى فإن النظام الليبي بدأ منذ مدة في فك ارتباطاته وعلاقاته بالمنظمات التي تعتبرها أميركا والغرب منظمات إرهابية مظهراً بذلك تخليه عن سياسة دعم الإرهاب، وبالتالي قطع أغلب معوناته وإمداداته للمنظمات المسلحة في العالم، بل وأكثر من ذلك فهو قد عمل على الغدر بها وتسليم المعلومات المهمة التي لديه عنها للأنظمة الغربية التي تلاحقها. كما فعل بمنظمة الألوية الحمراء في إيطاليا ومنظمة بادرماينهوف الألمانية، ومنظمة الجيش الإيرلندي ومنظمة مجاهدي مورو الفلبينية، وقيامه مؤخراً بتسليم أعداد من شباب جبهة الإنقاذ الجزائرية إلى السلطات الجزائرية. وبذلك قدم أعظم خدمة للدول الأوروبية في القضاء على أخطر مشكلة تعانيها هذه الدول.
كما يجب أن يسجل عليه أنه طوال فترة 30 عاماً من حكمه لم يقم بأي عمل حقيقي ضد مصالح الغرب أو ضد دولة اليهود في فلسطين، بل إن كل أعماله السياسية ومشاريعه كانت إما للتخريب على المصالح الأميركية أو لضرب مقومات الأمة، ولذلك كانت سياساته ومشاريعه بالغة الخطورة على الأمة الإسلامية، فهو درج على بذر الخصومات والشقاق في الأمة تحت شعار الـوحـدة فكـانـت الـنـتـائـج وضـع الـعـوائـق والصعوبات في وجه الوحدة الحقيقية. فضلاً عن أنه في سياق تعامله مع قضية لوكربي لم يعمل على استغلال حادثة إسقاط الطائرة الليبية فوق سيناء في العام 1972م باعتداء سافر على المدنيـيـن في طـائـرة مدنية تابـعـة للـخـطـوط الليبية راح ضحيتها كل الركاب وهم من خيرة شباب ليبيا من أمثال مسعود صالح بو يصير وعدد من طلاب الطب والهندسة في الجامعات المصرية ويومها ظهر وكأن هناك تواطؤاً على إسقاطها مع اليهود. كما لم يحرّض الإيرانيين على إثارة موضوع الطائرة الإيرانية المدنية التي أسقطت بفعل صاروخ أميركي من البحر، وكان ضحايا الجريمة يفوقون ضحايا «لوكربي» عدداً. فقد كان بالإمكان استغلال ذلك كله في المحافل الدولية وإدانة أميركا على ذلك وخصوصاً أن إسرائيل وأميركا معترفتان بالحادثين. وذلك من علامات الفساد والتقصير لدى النظام وعدم أهليته لحكم العباد، كما هي سمة غيره من الأنظمة في البلاد الإسلامية.
ففي جميع القضايا والأزمات مع الغرب تكون النتائج الخسارة المضاعفة التي تدفعها الأمة من مالها ورجالها يضاف إلى ذلك ما أشيع من أن القذافي دفع مبالغ ضخمة لذوي الضحايا عن طريق وسطاء احترفوا عمليات النصب من أمثال شقيق الرئيس الأميركي الأسبق كارتر ورجل الأعمال اليهودي (نمرودي) من دون أن يؤدي ذلك إلى إنهاء المسألة.
يبقى السؤال الملح كيف يمكن أن يكون سير القضية وكيف يمكن أن تنتهي المحاكمة.
أما كيف يمكن أن يكون سيناريو سير القضية؛ فهذا يعتمد على إمكانية استغلال أميركا لهذه المحاكمة في المستقبل. فهي نظراً لانشغالها في الوقت الراهن في قضايا أكثر أهمية وحيوية بالنسبة لها في العالم من مثل قضية البلقان وقضية العراق والشرق الأوسط قد تعمد إلى إطالة أمد المحاكمة إلى وقت تستطيع فيه استغلالها ضد ليبيا. بعد أن تنضج الظروف اللازمة لجعلها محاكمة للنظام الليبي فيأخذون أحكاماً بتجريم القذافي نفسه وتبدأ أميركا العمل لإقصائه أو إلى جره إلى مواجهة تنتهي بالإطاحة به أو تدمير البلاد حتى يسهل لهم النزول فيها كما يخططون الآن للعراق. ولهذا قيل إن المحاكمة قد تدوم سنتين، وإن كانت بريطانيا تعمل للتطبيع مع النظام الليبي، ولتسويقه دولياً، فقد صرّح مؤخراً وزير الخارجية البريطاني روبن كوك أن ليبيا، بعد تسليم المتهمين في حادث لوكربي، سيكون لها دور في الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية، كما أن شركة الخطوط الجوية البريطانية قررت استئناف رحلاتها إلى ليبيا. وقد لوحظ نشاط سياسي واسع لعقيد ليبيا، إذ عمل على التوصل إلى وقف لإطلاق النار في الكونغو، رحب به الطرفان المتحاربان، كما جمع الرئيس السوداني البشير، والرئيس الاريتري أفورقي في محاولة لإنهاء حالة التوتر في العلاقات بين البلدين، والتي تتمثل في قطع العلاقات الدبلوماسية، ودعم كل من الطرفين المعارضةَ المسلحةَ ضد الطرف الآخر، ويبدو أن قطر تواصل الآن مهمة إنهاء القطيعة بين البلدين حيث يزورها أفورقي. وينتظر وصول البشير إليها أيضاً. كما جمع القذافي المعارضة السودانية من أجل مصالحتها مع النظام السوداني، ووقف الحرب الدائرة في جنوب السودان. ولكن، يبدو أن أميركا لا تزال تتربص بليبيا، فقد طالب عدد من أعضاء الكونغرس الرئيس كلينتون بعدم رفع العقوبات عن ليبيا لضمان تعاونها في موضوع لوكربي .
1999-05-25