مع القران الكريم
علاقة العبودية بالحاكمية(1)
أصل العبودية: الخضوع والتذلل، والعبادة: الطاعة. وهي بصفة عامة عبارة عن الفعل الذي يؤتي به لغرض التعظيم، وهي لهذا لا تليق إلا لمن صدر عنه غاية الإنعام، وهو الله سبحانه: “فهي أعلى مراتب الخضوع، فلا يجوز شرعا ولاعقلا فعلها إلا لله تعالى، لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياةوالوجود وتوابعهما، ولذلك يحرم السجود لغير الله سبحانه، لأنه وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء”. فبصرف العبادة لله سبحانه وتعالى وحده تتحقق العبودية، وبالعبودية يتحقق التوحيد. وهي أشرف المقامات بعد تحقيق التوحيد، ولهذا قال الله تعالى لموسى عليه السلام:( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري) طه14. قال الرازي: ” فأمره بعد التوحيد بالعبودية: لأن التوحيد أصل والعبودية فرع، والتوحيد شجرة، والعبودية ثمرة، ولا قيام لأحدهما إلا بالآخر، فالمقامات محصورة في مقامين: معرفة الربوبية، ومعرفة العبودية، وعند اجتماعهما يحصل العهد المذكور في قوله تعالى:( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) البقرة 40. فالعبودية هي العهد، وهي الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض في قوله تعالى:( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) الأحزاب72.
ولما كانت العبادة هي الطاعة والعبودية هي الخضوع للأوامر والنواهي، كانت دعوات الرسل جميعا متوجهة إلى عبادة الله، إذ المقصود من إرسال الرسل طاعة المرسل التي لا تحصل إلا بامتثال الأوامر واجتناب النواهي. ولا عجب بعد ذلك أن نرى الدعوة الى العبودية هي الدعوة الاولى في القران.
-
فهي دعوة الله تعالى الى الناس جميعا:
قال سبحانه:( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) العنكبوت 56
وقال:( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) البقرة 21
وقال:( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيءا) النساء 36
وقال:( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56
-
وهي دعوة الرسل جميعا:
قال تعالى:( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) الأنبياء 25.
وقال:( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل 36
وقد قام الرسل صلوات الله وسلامه عليهم جميعا بأداء الدعوة كما أمروا.
-
فهذا نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه بهذه الدعوة( فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) الأعراف 59.
-
وهذا هود عليه السلام أرسل بنفس الدعوة إلى قوم عاد:( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) الأعراف 65
-
وهذا صالح عليه السلام أرسل إلى قوم همود آمرا إياهم بذلك:( وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) الأعراف 73
-
وشعيب عليه السلام أرسله الله إلى أهل مدين ليأمرهم بالتوحيد والعبودية:( وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) الاعراف 85
-
وإبراهيم عليه السلام ينهى قومه عن الإخلال بالتوحيد، أو بالانتقاص من العبودية فيقول لهم:( أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) الأنبياء 66-67.
-
ويعقوب عليه السلام يقول لبنيه:( ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا) البقرة 133
-
وموسى عليه السلام، أخذ الله الميثاق على قومه بالعبودية لله وحده( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) البقة 83
-
وهذا عيسى عليه السلام يتبرأ من كل دعوة تتنافى مع التوحيد والعبودية لله:( ما قلت لهم إلا ما أمرتين به أن اعبدوا الله ربي وربكم) المائدة 117.
-
وهي دعوة الرسالة الخاتمة:
فهذا خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه يأمره ربه بأن يخلص العبودية لله ويدعو الناس إليها:( قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به) الرعد 36.( قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) الزمر 11.
-
ويقوم عليه الصلاة والسلام بإبلاغ هذه الدعوة إلى قومة خاصة( ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير) هود 2
ويدعو إليها أهل الكتاب:( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) آل عمران 64
ويبلغها للناس كافة:( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهمكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) الكهف 110
وعندما يستجيب الناس لهذه الدعوة، فإنهم يحققون العبودية الخاصة التي وصف أهل الكمالات من الخلق بها، إذ العبودية نوعان – كما يقول ابن القيم: – ” عبودية عامة، وعبودية خاصة، أما العامة فهي عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك، كما قال تعالى:( إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتي الرحمن عبدا) مريم 96. أما النوع الثاني، فعبودية الطاعة والمحبة واتباع الأوامر – كما في قوله تعالى( فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الزمر 17-18.
فالخلق كلهم عبيد ربوبيته سبحانه. وأهل طاعته وولايته: هم عبيد الهيته”. وإن التحاكم إلى الأوامر الشرعية، ومن ثم الحكم بها في خاصة النفس وفيمن يلي الإنسان أمره، إنما يقصد إلى تحقيق هذه الغاية: العبودية الخاصة، ولا تكمل العبودية ولا الإيمان أبدا عند قوم لا يتحاكمون إلى شريعة الله، بل لا تنعقد أصلا ولا تقبل، كما قال عز وجل:( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) النساء 65.
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن الغاية من بعثته والمقصد من رسالته: تعبيد الناس لله تعالى وحده، فقال ” بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم” رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمر. وهو صلى الله عليه وسلم يفصح في هذا الحديث عن حقيقة هامة هي أن تعبيد الناس لله وحده: رسالة أمة ومسؤولية دولة، تفدى بالدم بعد الكلمة ويضحى لها بالروح بعد المال، فقوله عليه الصلاة والسلام: بعثت بالسيف، يعني أن الله بعثه داعيا إلى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إلى التوحيد بالقران بالحجة والبيان دعي بالسيف…
إن مهمة تحقيق العبودية لها وجهان في المسؤولية، وجه يتحقق في النفس بالتحاكم إلى شريعة الله قلبا وقالبا، ووجه ينفذ في الأرض بتحكيم شريعة الله في دنيا الناس.
ولهذا فإننا نرى بين العبودية والحاكمية في آيات القرآن الكريم أواصر من القربى، ووشائج من الشبه، واقترانهما في الذكر كثيرا يعطي هذا الانطباع.