بقلم: أحمد ف.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه بإحسان إلى يوم الدين.
يقول الله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
وقال عزّ من قائل: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
إن هذه الآيات الكريمات هي من الآيات التي حوت دلالات عظيمة، شاملة لمجموعة من المعاني تلخص مسيرة الحياة البشرية منذ نزول الإنسان على هذه الأرض وصولاً إلى يوم القيامة. حيث يتوزع الناس قسمين: قسم آمن بالله وخضع له وسيّر أعماله حسب أوامر الله ونواهيه في الدنيا فكان مآله إلى رضوان من الله وجنات النعيم، وقسم كفر بالله تعالى وأعرض عن طاعته وسار في حياته الدنيا على غير هدى من الله، فكان مصيره إلى سخط من الله تعالى وعذاب في جهنم وبئس المهاد.
وإذا دقننا في هذه الآيات الكريمات استفدنا منها مجموعة من الحقائق الجوهرية التي ترتبط بعيدة الإسلام ومفاهيمه الأساسية. من أهم تلك الحقائق:
1- أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يجب أن تتجلى فيه العبودية لله خالق السموات والأرض سبحانه وتعالى، فيكون خاضعاً كل الخضوع لأوامر الله سبحانه معرضاً عما نهاه عنه وحرمه عليه، مسيّراً أعماله كلها وفق أوامر الله ونواهيه، جاعلاً الحلال والحرام مقياساً لأعماله مسلّماً لله تعالى في كل حكم من أحكامه متوكلاً عليه في كل أموره، لا يلتفت إلى تلقي الهداية والأوامر والنواهي من سواه سبحانه. قال عزّ وجلّ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، وقال سبحانه: (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)، وقال عزّ من قائل: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). وهذا ما تلخصه الشهادة الأولى التي يتوقف عليها الدخول في الإسلام «لا إله إلا الله».
2- أن الهداية إلى سبيل الرشاد في هذه الدنيا التي جعلها الله تعالى مرتعاً للإنسان، إنما هي من غير الله خالق الإنسان والحياة والكون، ومن غير هداية الله تعالى للبشر لا هداية لهم. وفي هذا المعنى العديدُ من الآيات القرآنية الكريمة، مثل قوله تعالى: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)، وقوله سبحانه: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)، ومثل قوله عزّ وجلّ: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى). وبالتالي فلا يحق لأحد سوى الله تعالى أن يدعي أنه يملك الهداية للبشر فيشرع الأنظمة والشرائع، لأنه لا أحد سوى الله يملك القدرة الحقيقية على ذلك. لذلك قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، وقال عزّ وجل: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ).
3- أن اهتداء الإنسان بأوامر الله ونواهيه هو الذي يؤدي به إلى الارتقاء والسعادة والأمن والطمأنينة: (
فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى). والمعنى نفسه ورد في مواضع أخرى من كتاب الله تعالى، قال سبحانه: (وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وقال عزّ وجل في رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ). وهذا يعني أن مصلحة الإنسان إنما هي باتباع شريعة الله والتزام أوامره ونواهيه، فحيثما كان الشرع كانت مصلحة الإنسان، ولا يمكن للإنسان أن يهتدي إلى مصلحته من غير شريعة الله سبحانه وتعالى، ولولا شرع الله لما تعرف الإنسان على مصالحه التي تنجيه في الدنيا والآخرة.
4- إن إعراض الإنسان عن طاعة الله تعالى وعن أوامره ونواهيه من شأنه أن يؤدي بالإنسان إلى الشقاء والتعاسة في الدنيا فضلاً عن الآخرة، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا). فلا يجوز للمسلم أن يغترّ بما يحيط بكثير من الكافرين والفاسقين من النعيم فيظن أنهم سعداء، ذلك أن السعادة ليست باستحواذ النعم والملذات المادية وزخرف الحياة الدنيا، إنما السعادة هي الطمأنينة الدائمة، وهذه لا تتأتى إلا من الشعور برضوان الله سبحانه وتعالى، وهذه نعمة لا يشعر بها الكافرون والفاسقون من أهل الدنيا.
هذه الحقائق الثابتة هي التي تحكمت بحياة المسلمين في عصور نهضتهم، فصاغت تفكيرهم وعقليتهم، وصاغت سلوكهم وطراز عيشهم ونمط حضارتهم ولون مجتمعهم، فجعلت منهم أرقى مجتمع عرفة التاريخ، وأميز حضارة شهدتها البشرية، وأقوى دولة شهدتها الساحة الدولية، وأعظم أمة عايشتها الشعوب. ذلك أن الأمة الإسلامية كانت المجتمع الوحيد من بين سائر المجتمعات التي سيّرت حياتها ومجتمعها ودولتها بالوحي الذي نزل من عند الله تعالى، وبنت حضارتها عليه. فكان الوحي الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- قرآناً وسنة هو هوية تلك الأمة وذلك المجتمع، ومنه أخذت طراز عيشها ووجهة نظرها في هذه الحياة.
فلقد كانت شهادة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» قاعدة حقيقية لفكرهم وضابطاً فعلياً لسلوكهم ومبدأ محكماً لانبثاق أنظمتهم.
ذلك أنهم فهموا أن شهادة أن لا إله إلا الله تعني أن المشرّع هو الله وأنه سبحانه هو الحاكم على أفعال العباد، وأن على المسلمين أن يترجموا هذه الشهادة سلوكاً في حياتهم، بأن يكونوا مجتمعاً يسير وفق أوامر الله ونواهيه، كما أن كل المخلوقات الأخرى تسير وفقاً للنظام والسنن التي أودعها الله تعالى فيها، (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). وإذا كانت تلك الكائنات غير مخيرة في التزام النظام الإلهي، فإن الإنسان نال شرف الثواب والجنة بأن اختار النظام الإلهي طائعاً خاضعاً لله تعالى بملء إرادته واختياره.
وفهم المسلمون من شهادة «أن محمداً رسول الله» أن النظام الذي ارتضاه الله تعالى للبشر إلى يوم القيامة، إنما هو النظام الذي أرسل به سيدنا محمداً -صلى الله عليه وسلم-, فباتباع الشريعة التي أتى بها محمد خاتم النبيين عليه وآله الصلاة والسلام، يكون الإنسان قد انتقل من الإقرار بوحدانية الله إيماناً واعتقاداً إلى ممارسة ذلك عملياً على أرض الواقع والحياة. فهو يفرد الله تعالى بالألوهية ويفرد محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالاتباع: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ). ذلك أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- لا ينطق عن الهوى إن هو إذا لا وحي يوحى، قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ).
من هذا المنطلق، فإنه لا يصدق إيمان المؤمن حتى يحكّم الشريعة التي أتى بها محمد -صلى الله عليه وسلم- من عند ربه ويسلم لها تسليماً مطلقاً دون أن يُقحم عقله وعبقريته في تقويم الأحكام التي أتى بها. قال عز وجل: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
وحاصل الكلام أن الأمة الإسلامية إنما تميّزت باتباعها الوحي واستفادة شرائعها منه واستنباط أحكامها منه وبناء مفاهيمها عليه. وكل التاريخ شاهداً على أنها كانت ناهضة وراقية بقدر ما كانت ملتصقة بذلك الوحي، وكانت تنحط وتنخفض بقدر بُعدها عنه ومجافاتها له.
من هنا رأينا الفقهاء في عصر الإسلام الذهبي يضبطون حياة الأمة بأن يحصروا الحكم الشرعي في خطاب الله، حيث عرّفوه بأنه «خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد». والشارع أي المشرّع هو الله سبحانه وتعالى. وبالتالي حصروا مصادر التشريع فيما جاء به الوحي، والمتمثل في الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس المبني على علة من النص.
وإذا دققنا في تلك المصادر نجد أنها في حقيقة الأمر تعبير عن الوحي الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-.
أما الكتاب، وهو القرآن الكريم، فلا يماري أحد من أهل التوحيد في أنه كلام الله الموحى إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- باللفظ والمعنى. وبالتالي فهو المصدر الأول للتشريع.
وأما السنة، وهي ما صدر عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، فهي أيضاً وحي من الله وتعالى، وإن اختلفت عن القرآن بأنها أوحيت بالمعنى وعبّر عنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- بلفظه أو فعله أو إقراره.
وأما إجماع الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، فلقد أوضح العلماء أنه ليس دليلاً شرعياً لذاته، أو لأنه يحق لمجموع الصحابة أن يشرعوا. وإنما اعتبر مصدراً تشريعياً لكون يكشف عن دليل خفي عنها، أي يكشف حكماً شرعياً استفيد من قول أو فعل أو تقرير من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم نطلّع عليه. ذلك أن الصحابة الذين أثنى الله تعالى عليهم في كتابه الكريم وتوقف عليهم نقل الشريعة إلى سائر الناس لا يمكن أن يجتمعوا على حكم لا مستند له من الوحي فهم أولى الناس باتباع الرسول والتوقف عند الدليل الشرعي.
وأما القياس، فهو ليس – كما يفهمه كثير من الناس – قياساً عقلياً أو استخراجاً للحكم الشرعي من العقل. وإنما هو – كما عرّفه علماء الأصول – إلحاق فرع بأصل لاشتراك بينهما في العلة. والعلة ليست علة عقلية وإنما هي العلة الشرعية التي دل عليها الوحي قرآناً كان أم سنة أم عير الإجماع. وبالتالي فإن الحكم الشرعي المبني على القياس إنما بني على العلة الشرعية وهذا يعني أنه استنبط من الوحي.
أما بقية المصادر الفرعية، فإن علماء الإسلام ومجتهديه لم يطرحوها على أنها مصادر إضافية احتاجتها الشريعة بسبب نقصها، وإنما اعتبروا أن النصوص الشرعية من قرآن وسنة هي التي أرشدت إليها، سواء وافقنا كلاً منهم على المصادر التي أخذ بها أم لم نوافقه.
فالعلماء الذين استدلوا بالمصالح المرسلة، والاستحسان، ورأي الصحابي، وشرع من قبلنا، وإجماع الأمة ما بعد الصحابة، وإجماع أهل المدينة، وما سواها من المصادر المختلف عليها، هؤلاء العلماء لم يعتبروا هذه الأدلة مصادر ملحقة فرضها قصور الشريعة ونقصها، وإنما اعتبروها مصادر أرشد إليها كل من القرآن والسنة، حتى أن كثيراً منهم عدّ هذه الأدلة راجعة إلى الاستدلال بالقرآن والسنة. بحيث تكون هذه الأدلة فرعاً عنهما، كمن ينظر إلى المصالح المرسلة على أنها أحد مسالك العلة التي عليها يتم القياس، ويرون أن القياس هو نوع من الاستنباط من القرآن والسنة، وكمن نظر إلى الاستحسان على أنه نوع من أنواع الترجيح بين الأدلة، وكمن ينظر إلى الاستدلال بشرع من قبلنا على أنه استُمد من القرآن الكريم الذي يأمر بالاقتداء بالأنبياء السابقين: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ)، وكمن ينظر إلى رأي الصحابي على أنه تعبير عن سنّة سمعها أو رآها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكمن ينظر إلى إجماع الأمة على أنها دليل لأن الأمة لا تجمع على ضلالة.
وفي أي حال من الأحوال، فإنه مهما كان رأينا في مدى موافقة تلك الأدلة للوحي وتعبيرها عنه أو مفارقتها له، فإن الأحكام التي بنيت على هذه الأدلة الفرعية كانت من القلة بحيث أن الذين أرادوا إعطاء نماذج عنها لم يزيدوا فيها عما يحصر بعدد أصابع اليدين. وإذا نظرنا إلى هذه النماذج من الأحكام لوجدنا أن نسبة كبيرة منها أرجعه كثير من العلماء والمجتهدين إلى أحد المصادر الأربعة أي القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس.
وبناء على ذلك، يمكننا القول: أن البنيان التشريعي الذي كان يعمر ذهن المسلمين ويوجه سلوكهم ويصوغ طراز عيشهم في عصور نهضتهم هو بمجمله مستمد من المصادر التشريعية التي نزل بها الوحي على سيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
إذا نظرنا إلى الأبحاث التي جعلها الأصوليون الأفذاذ أساساً لدراساتهم في علم أصول الفقه وجعلوها في مقدمات كتبهم ومصنفاتهم بحيث بنوا عليها كل آرائهم وكتاباتهم نجدها تؤكد على تلك المعاني التي أوردناها وتجعلها من المسلمات الإسلامية التي لا جدال فيها.
فبحث «الحاكم» الذي نجده في مقدمات معظم كتب الأصول يؤكد على أن الحاكم على أفعال العباد من حيث الحسن والقبح، أو من حيث الحل والحرمة، والوجوب والندب والكراهة إنما هو لله وحده، وأنه ليس للعقل أن يحكم على أفعال العباد من هذه الحيثية.
وكذلك قاعدة «لا حكم قبل ورود الشرع» تؤكد على أن أفعال العباد لم يكن لها حكم شرعي قبل نزول الوحي بالشريعة.
وكذلك تعريفهم للحكم الشرعي أكد على هذه الحقيقة، حيث قالوا في تعريفه: «خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد»، فحصروا الحكم الشرعي فيما هو خطاب للشارع أي المشرع وهو الله سبحانه وتعالى، فما لم يكن خطاباً من الله فليس حكماً شرعيا.
أما الاجتهاد بمفهومه الصحيح، وهو «استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية»، فقد كان الباب الذي ينفذ منه الذهن المسلم من أجل استفادة حكم الله في القضايا والمسائل المتجددة. فإن الطريقة الشرعية التي التزمها المسلمون خلال العصور الأولى، عصور نهضتهم، في معالجة المشاكل والقضايا هي دراسة المشكلة أو المسألة على ارض الواقع دراسة عميقة دقيقة تؤدي إلى فهم حقيقة المشكلة وجوهر المسألة، وهذا ما يسمى بتحقيق المناط؛ ثم العودة النصوص الشرعية أي إلى الأدلة التفصيلية المتعلقة بذلك الواقع لاستنباط الحكم أو الأحكام التي ترشد إليها تلك الأدلة، ومن ثم تطبيقها بعد ذلك على الواقع بحيث تحل المشكلة أو تعالج المسألة من خلال الوحي الذي نزل على الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.
ولم يكن دور العقل حين بحثه في المعالجات أن يكون حكماً أو مصدراً، ولو جزئياً، للأحكام التي يراد معالجة الواقع بها، وإنما كان مجرد أداة تستخدم لفهم الواقع ولفهم مراد الله من النصوص التشريعية التي نزل بها الوحي، بحيث ينطلق المجتهد مع الأدلة الشرعية بحسب مدلولها اللغوي ومدلولاتها المفهومة والمعقولة إلى حيث ترشده حتى تصل به إلى الحكم الشرعي، دون أن يكون له رأي مسبق فيما يجب أن يكون عليه الحكم الشرعي، فالنص هو الدليل وليس العقل. والعقل يتبع الدليل وليس الدليل تابعاً للعقل لأن الله تعالى و الحاكم وليس العقل (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ).
لقد كان إغلاق باب الاجتهاد في العصر العباسي – والذي امتثل له كثير من العلماء المسلمين – مؤذناً بانحطاط المسلمين، ذلك أنهم أغفلوا أمام وجوههم الباب الذي ينفذون من خلاله إلى معرفة حكم الله في القضايا المتجددة، وإلى معالجات المشاكل المستجدة. واكتفوا بإحياء الاجتهادات والأحكام التي استنبطها العلماء السابقون لمسائل ومشاكل كانت قائمة في عصورهم ولم يطّلعوا على المشاكل المستقبلية التي جدّت من بعدهم. وبذلك كان العلماء عقب إغلاق باب الاجتهاد كثيراً ما يطبّقون على المسائل والقضايا المستجدة أحكاماً ومعالجات لا تنطبق عليها وليست من شأنها. مما يعني أن المشاكل في حياة المجتمع الإسلامي لم تعد تعالج المعالجة الصحيحة والوافية. وكانت المشاكل والأزمات كفيلة بأن تتفاقم مع مرّ الأزمان والعصور دون أن تجد من يتصدى لها، مما كان يؤذن بانحطاط المجتمع، فإن تفاقم المشاكل في مجتمع ما وفقدان المعالجات والحلول لها هو المؤدي إلى تراجع ذلك المجتمع وانحطاطه مهما كان نوعه وأياً كان الأساس الذي يقوم عليه.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله ما أصاب التفكير في العالم الإسلامي من جمود وتبلّد نتيجة إغلاق باب الاجتهاد، أدركنا الخطر العظيم الذي كان يهدد مصير الأمة الإسلامية.
لم يفطن المسلمون إلى الانحطاط الذي راح يسري في كيانهم طيلة قرون من الزمان، وإذا لمسنا في التاريخ الإسلامي وجود بعض العلماء المصلحين الذين شعروا بالتراجع والتصدع في المجتمع الإسلامي، فإننا نجد أن قلة منهم الذين اهتدوا إلى السبب الحقيقي لذلك التراجع والانحطاط، لذلك كان سعيهم للإصلاح وإعادة البناء – أعني أولئك القلة الذين أدركوا مكمن الداء – كان سعيهم صرخة في واد، فقد كان وعيهم وعياً فردياً ولم ينتقل إلى حالة الوعي الجماعي. لذلك فإن دعوة بعض العلماء أمثال الإمام ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومن بعدهم الإمام الشوكاني وأمثالهم إلى عادة فتح باب الاجتهاد لم تؤد إلى نتيجة ملموسة على أرض الواقع في عصورهم.
إذن، هذه الدعوات الداخلية لم تكن كفيلة بتنبيه المسلمين إلى الخطر الذي يحدق بهم وإلى أهمية فتح باب الاجتهاد من أجل إعادة الحيوية إلى عقلية الأمة وإعادة تنظيم المجتمع وحل مشاكله وأزماته التي عصفت به من كل جانب. ولعل السبب في ذلك أن المرض حين بدأ يدب في جسد الأمة لم تكن هناك أمة على وجه الأرض تداني المسلمين في نهضتهم ورفعتهم، رغم التصدع الذي ألم بكيانهم ورغم الهزائم التي لحقت بهم. فمن الناحية الحضارية كانت الأمة الإسلامية أرقى أمة على وجه الأرض، ولم تكن هناك حضارة تنافس الحضارة الإسلامية وتقف نداً لها. أما من الناحية السياسية والعسكرية فقد تغلبت الأمة على خصومها من الصليبيين والبيزنطيين والتتار والمغول وعاد جيشها أقوى جيش في العالم حتى عرف بالجيش الذي لا يقهر.
إلى أن حان الوقت الذي يأتي فيه التنبيه على الخطر من الخارج، حين تظهر الدول الغربية كحضارة تنافس الحضارة الإسلامية بفكرها المبدئي ونمط عيشها ووجهة نظرها عن الحياة، وكبنيان صناعي ومدني يتفوق على البنيان المادي للعالم الإسلامي الذي أصابه الجمود والهزال منذ زمن بعيد، وكقوة عسكرية تهدد العالم الإسلامي بالاجتياح بين الفينة والأخرى.
ما يعنينا في بحثنا هذا هو الهجمة الحضارية والثقافية أو بعبارة أخرى «الفكرية» التي شنها العالم الغربي على الأمة الإسلامية. فقد وجدت لدى الغرب قاعدة فكرية قامت عليها حضارته الحديثة وثقافته ومفاهيمه وانبثقت عنها أنظمته، وأعني بهذه القاعدة الفكرية عقيدة «فصل الدين عن الحياة» أو ما يسمى بالعلمانية.
فقد بدأ الغرب يهاجم الحضارة الإسلامية مُعلياً من شأن حضارته، ويهاجم أنظمة الإسلام وأحكامه ليثبت صحة أنظمته وأحكامه، ويسفّه المفاهيم الإسلامية ليطرح محلها مفاهيمه التي يتغنَّى بها. وبما أن العالم الإسلامي كان يعاني من تخلف فكري وتبلّد في التفكير وتقهقر حضاري نتيجة بعده عن الفهم الصحيح للإسلام، والتقصير في دراسته دراسة عملية منتجة، فقد كان أرضاً خصبة صالحة لأن يحرثها الكافر المستعمر ويبذر فيها بذوره الثقافية آملاً أن يحصد بعد ذلك جيلاً من المثقفين بثقافة الغرب المفتونين بحضارته، وبذلك يكون قد قضى على هوية الأمة الإسلامية وعلى شخصيتها وسر نهضتها وقوتها.
إن هذه الهجمة الحضارية والفكرية الشرسة التي شنها الغرب الكافر على العالم الإسلامي قوبلت بردود فعل مربكة متخبطة وغوغائية. فالمسلمون يحبون إسلامهم ويكرهون الكفر، ويحرصون على شريعتهم ويأبون أن تمس بسوء أو تذكر بامتهان، ولكنهم في ذات الوقت لمسوا الفرق بين واقعهم السيئ الأليم بما يكتنفه من انحطاط وتخلف وبين واقع الغرب المستجد وما يحيط به من نهوض ورقي وقوة وازدهار. ولمّا رأوا أن الغرب إنما وصل إليه بفعل حضارته وأفكاره وأنظمته ظنوا أن هذه الحضارة وتلك الأفكار والأنظمة لازمة لكل أمة حتى تنهض وترتقي، وأنه لا يعقل أن يقف الإسلام ضد الأخذ بتلك الأشياء التي هي من أسباب القوة، غافلين عن أن حضارة الغرب بأفكارها وأنظمتها تقوم على أساس تتنافى كلياً مع الأساس الذي تقوم عليه الحضارة الإسلامية بأفكارها وأنظمتها.
فبدأت تتعالى الأصوات داعية إلى فتح باب الاجتهاد. ولكن أي اجتهاد يعنون؟ بالطبع ليس الاجتهاد الشرعي كما فهمه المسلمون الأوائل، وإنما الاجتهاد الذي يؤدي إلى تأويل النصوص ولَيِّ أعناق الأدلة حتى تُستخرج منها أحكام «توافق روح العصر والتطور» كما يقولون. وتعالت أصوات بوجوب أن يكون الإسلام مرناً ومتطوراً، وبدأت تؤلف الدراسات التي تحاول صب الأبحاث الشرعية بقوالب غربية حتى تُظهر الإسلام وكأنه رديف للحضارة الغربية وصار بعضهم يردد بأن الحضارة الغربية مأخوذة من الإسلام، وأن هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا. وهكذا أصبح كثير من المؤلفين يحاول أن يأتي بدليل على كل فكرة أو مادة قانونية غربية على أنها توافق الإسلام، بحيث أصبحت الثقافة الإسلامية ثوباً فضفاضاً يسع كل فكرة وافدة تأتينا من الغرب. وقامت محاولات للتوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية كالقول بأن الشورى هي عين الديمقراطية، وأن الإسلام يحترم الحريات العامة كما هو شأن الأنظمة الغربية، أو أن الاشتراكية هي من الإسلام، وأن الجهاد هو حرب دفاعية وليس لنشر الإسلام، وأن تعدد الزوجات مشروط، وأن الطلاق مقيّد، وغير ذلك.
وقد وصل الحال إلى أن رأينا كثيراً من الدراسات الإسلامية – حتى المخلصة منها – متأثرة بذلك التيار والتوجه، ومن تلك الدراسات، الدراسات الأصولية. فشتان شتان بين الدراسات الأصولية في العصور الإسلامية الأولى لدى المحققين من العلماء وبين كثير من الدراسات الأصولية في عصرنا هذا.
فإذا نظرنا إلى الأساس الذي تقوم عليه الدراسات الأصولية في العصور الإسلامية الأولى نجد أن هذا الأساس إنما هو قوة الدليل فحسب. فحين البحث في مصادر التشريع كان الاهتمام بالدرجة الأساس منصبّاً على تحري المصادر التي تنمّ عن الوحي وتعبر عنه بشكل منضبط دون أن يكون هناك مجال لاستقاء الحكم الشرعي من غير الوحي. فكان جمهورهم متفقاً على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس كمصدر للتشريع. وأما من أخذ بمصادر فرعية أخرى فإنه أيضاً أخذ بها بناء على قناعاته بأنها مما أرشد إليه القرآن والسنة. ولم يكن همهم الإكثار من المصادر التشريعية حتى تصبح المصادر أكثر سعة وقابلية لاستفادة الأحكام، فقد كانوا مقتنعين بأن الله تعالى أنزل في وحيه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يكفي لاستنباط الأحكام الشرعية لجميع المسائل التي يمكن أن تطرح على بساط البحث. وحين بحثهم في قواعد الاستنباط والقواعد الكلية، فإنهم أيضاً تحروا قوة الدليل وما تؤدي إليه النصوص بحسب مدلولاتها اللغوية ومدلولاتها المفهومة دون تكلف ولا تحكم.
أما إذا نظرنا إلى كثير من الدراسات الأصولية الحديثة، فإننا نجد أن قوة الدليل ليست هي الأساس الذي يبني عليه المؤلف دراسته، وإنما يرافقه في دراسته تلك هاجسُ توسيع الشريعة ومصادرها وجعل نصوصها مرنة والإكثار من قواعدها الكلية حتى يُثبت أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.
ففي المباحث التي تتكلم عن الأدلة الشرعية (أو مصادر التشريع)، نجد تلك الدراسات الأصولية تتحرى إثبات معظم المصادر التشريعية التي أخذ بها الأصوليون القدامى – إن لم يكن جميعها – القوية منها والضعيفة، غير ملتف إلى مدى قوة الدليل أو ضعفه، وإنما إلى شيء واحد، هو أنه لا بد من الأخذ بجميع تلك المصادر حتى تكون الشريعة متسعة لاستنباط المزيد من الأحكام اللازمة لهذا العصر، بحيث يبتنى مجموعة من مصادر التشريع لم يتبنها مجتهد من المجتهدين بجملتها، وإنما تبنى كل مجتهد بعضاً منها وفقاً لقناعته واستدلالته.
أما إذا نظرنا إلى القسم الخاص بقواعد الاستنباط وبالقواعد الكلية – في تلك الدراسات الحديثة – فإننا سنجد أيضاً نفس الهاجس يرافق الباحث، وهو «أين القواعد التي تضمن المرونة والتطور والسعة في الشريعة»، غاضاً الطرف عن مدى قوة هذه القواعد أو ضعفها. فوجدنا في الدراسات الحديثة من القواعد الكلية ما لم نجده في كتب السابقين سواء من حيث النوع أو العدد. فاستحدثت قاعدة «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» وقاعدة «كل ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام» وقاعدة «العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني» وقاعدة «الأمر كلما ضاق اتسع» وقاعدة «من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه»، وقاعدة«حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله».
وعمدوا إلى قواعد شرعية ذات مدلول محدد فوسعوا مدلولها وحمّلوها ما لا تحتمل. فاستدلوا بقاعدة «الضرورات تبيح المحرمات» على إباحة كثير من المحرمات التي لا تشملها القاعدة، واستدلوا بقاعدة «الأصل في الأشياء الإباحة» على جواز أخذ الأنظمة القوانين الوضعية حتى أن الدولة العثمانية ألغت الحدود بحجة هذه القاعدة.
كل ذلك من أجل إثبات أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وأن مصادرها وقواعدها التشريعية من الكثرة والمرونة بحيث تكون قادرة على إعطاء حكم لكل واقعة وكل مسألة وأي مشكلة.
إذن، نحن اليوم أمام مشكلة إزاء الدراسات الأصولية، وهي الأساس الذي يجب أن تقوم عليه تلك الدراسات. ما هو ذلك الأساس؟ هل هو قوة الدليل أم توسيع الشريعة وتطويرها وزيادة مرونتها لنجعلها صالحة لكل زمان ومكان؟
الجواب الصحيح بكل تأكيد هو قوة الدليل. فنحن مكلفون بالاتباع، والاتباع يكون بتحري قوة الدليل وما يرشد إليه. أما سمات الشريعة وما تتصف به من ميزات وملاحم من حيث صلاحيتها لكل زمان ومكان وما شاكل ذلك وما يمكن أن تؤدي إليه من نتائج بعد تطبيقها على أرض الواقع، فذلك ليس من مهمتنا وصنعنا، وإنما هو من حكمة الله تعالى منزل الشريعة، وهو شيء نقف عليه ونطلع عليه بعد فهمنا للشريعة وفقاً للدليل القوي، وتطبيقنا لها تطبيقاً سليماً دقيقاً.
فصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان لا تأتي بفعل العالم أو المجتهد، وإنما هي خاصية جعلها فيها الله سبحانه وتعالى الذي شرعها وأنزلها على محمد -صلى الله عليه وسلم- وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا). لذلك فنحن على قناعة بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان بهذه الأدلة مع الحرص على الاقتصار على الأدلة التي قام الدليل القطعي على أنها مصادر للتشريع.
أما إذا أردنا أن نعرف ما الذي يجعل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وكيف يمكن استنباط حكم شرعي لكل واقعة وكل مسألة في أي زمان وفي أي مكان رغم أن المصادر والنصوص التشريعية محددة، فلن نجد أنه تطور الشريعة، فشريعة الله ثابتة لا تتطور، فالحلال حلال إلى يوم القيامة والحرام حرام إلى يوم القيامة. وليس هو أيضاً مرونة الشريعة، فالمرونة تعني الحركة وهذا أيضاً يعني أن الشريعة متغيرة وحاشا للشريعة الإسلامية أن تكون كذلك.
وإنما تعود صلاحية الشريعة كل زمان ومكان لسببين رئيسيين:
أولهما: أن مشرع هذه الشريعة هو الله سبحانه وتعالى الحكيم العليم اللطيف الخبير الذي خلق الإنسان ويعلم ما يختلج في نفسه من غرائز ومن حاجات عضوية والتي هي أساس أعماله وحركته وحيويته التي تنتج عنها مشاكل الإنسان ومسائله التي تحتاج للتنظيم والمعالجة، ولا أحد سوى الله يطلع على أسرار هذه النفس البشرية، فهو سبحانه خالقها ومبدعها وبارئها ويعلم ما يُصلحها وما يُفسدها، قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، وقال عزّ وجل: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). لذلك فإن الله تعالى حين شرع شريعته للبشر فإنه شرعها للإنسان بوصفه إنساناً، والإنسان هو الإنسان منذ خلق آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك فهي صالحة لكل زمان ومكان.
وهذا بخلاف أنظمة البشر التي وضعها مشرعون لا يملكون سبر أغوار النفس البشرية ولا يعرفون ما يصلحها وما يفسدها، وإنما هم عالجوا مشاكل عارضة رأوها أمام أعينهم هي في حقيقة الأمر عوارض لمشاكل الإنسان وليست جوهر مشاكله، لذلك فإنهم يجدون أنفسهم بحاجة إلى تطوير شرائعهم وتبديلها والزيادة عليها كلما استجدت عوارض جديدة للمشاكل الإنسانية. وهذا ما لا يطرأ على شريعة الله تعالى، فهي الشريعة الموافقة لفطرة الإنسان في قديم الزمان وحديثه، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ).
ثانيهما: سعة النصوص الشرعية نفسها من قرآن وسنة، بحيث تكون هذه النصوص مؤهلة لأن تعطي حكماً شرعياً لكل مسألة مستجدة. ذلك أن ألفاظ النصوص الشرعية من قرآن وسنة لم تكن كلها ألفاظ جامدة، بل حوت كثيراً من الألفاظ المُفهمة التي تستنبط منها قواعد كلية تنطبق على كثير من الجزئيات، وتستنبط منها علل للأحكام الشرعية يدور معها الحكم الشرعي حيث دارت، فيوجد الحكم حيث توجد العلة وينعدم الحكم حيت تنعدم، في أي زمان وأي مكان.
وهذا لا يعني أن الشريعة مرنة ومتطورة، وأن الأحكام تتغير من زمان لزمان ومن مكان لمكان، بل يعني أن الشريعة واسعة شاملة للأحكام الشرعية التي تستوفي كل الوقائع المستجدة، وحين تستجد واقعة معينة فنجد حكماً شرعياً جديداً فهذا لا يعني أن الحكم الشرعي قد تغير، وإنما يعني فقط أن لكل مسألة حكماً شرعياً خاصاً بها لا يتغير.
والانضباط بهذا الأساس في أبحاث أصول الفقه هو التطبيق الصحيح لقاعدة التسليم المطلق لله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبودية والتشريع وإفراد محمد -صلى الله عليه وسلم- بالاتباع، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ)، ذلك أن التسليم يقتضي الاتباع، والاتباع يقضي بتحري الدليل.
وهذا الانضباط هو أيضاً الذي يؤدي إلى نهضة الأمة الإسلامية النهضة التي ترجوها والتي ترضى الله سبحانه وتعالى. فالتقيد بالدليل يؤدي إلى الفهم الصحيح لمراد الله، والفهم الصحيح يؤدي إلى العمل الصحيح والسلوك السليم، والعمل أو السلوك الشرعي الصحيح في حياة الأمة هو الذي يؤدي إلى نهضتها، (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) .