فضيل أبو النصر (أستاذ جامعي لبناني)
· تشهد الساحة الإسلامية الراهنة تبدلاً عميقاً وتطوراً مذهلاً في شتى المجالات. فبعد سبات استمر قروناً، برز الإسلام كقوة جبّارة وحضارة متطورة على الساحة الدولية بحيث بات يشغل بال القائمين على الأمور داخل العلام الإسلامي وخارجه. فالإسلام كطريقة حياة ونمط تفكير وحضارة أخذ يلعب من جديد دوراً رائداً في العالم خصوصاً في مجال عصرنة المجتمعات الإسلامية وتحديثها. فالغربنة، النموذج الحضاري الوحيد المطروح على الساحة الكونية، باتت تشعر بوجود نموذج حضاري إسلامي ينافسها.
والسؤال المطروح على القادة والمفكرين في كل مكان اليوم هو: هل سيتمكن الإسلام من البروز كنموذج حضاري مُكتمل التكوين ومستقل في قيمة وطرقه يقف في وجه الغربنة الطاغية وينافسها في دار الإسلام وخارجها؟ بكلام آخر، هل بمقدور المجتمعات الإسلامية أن تتعصرن وفي الوقت ذاته تحافظ على التراث الإسلامي الأصيل؟
إن الصراع الظاهر للعيان والذي يأخذ أبعاداً مهمة في الدول والمجتمعات الإسلامية يدفعنا للتساؤل: الإسلام المعاصر إلى أين؟ هي سينكفئ الإسلام وتصبح المجتمعات الإسلامية مجتمعات «إسلامية» سوسيولوجية كما هي الحال بالنسبة إلى المسيحية في المجتمعات الغربية، أم ستتغلب النظرة الدينية الإسلامية فتغْرُف من معين العصرنة والحداثة ما شاء لها وفي الوقت ذاته تحافظ على هويتها وقيمها وتقاليدها الإسلامية؟
يشهد المراقب للساحة الإسلامية اليوم معركة حضارية بين نظرتين إلى الكون والحياة والإنسان. والنظرة الدينية الإسلامية تتسع وتتعمّق المعرفة والإدراك لدى المسلمين في شتى ديار الإسلام. وهذه النظرة باتت تتحوّل إلى ثورة عارمة تقض مضاجع المسؤولين داخل العالم الإسلامي وخارجه. فاليقظة الإسلامية التي نشهدها اليوم تحمل في طياتها بذور نموج حضاري مميز سيكون له صدىً في العالم أجمع. فهذه اليقظة الإسلامية لا تقف عند حدود الأصولية الإسلامية بل تتعداها لتشمل المجتمع الإسلامي ككل.
إن النموذج الحضاري الإسلامي الذي أخذ يبرز بقوة منذ حوالي ربع قرن يقع في مسار صدامي مع الغربنة أو العصرنة العلمانية. ففي داخل المجتمعات الإسلامية سنشهد المزيد من التشنج والعنف بين أنصار العصرنة العلمانية وأنصار النموذج الحضاري الإسلامي. وعلى صعيد العلاقات الدولية، ستشهد الساحة الدولية صراعاً مريراً بين الدول الغربية والمجتمع الإسلامي يفوق في العادة صراع الرأسمالية والشيوعية. فالتململ الإسلامي الحاصل اليوم يعكس الحيوية والديناميكية التين تتمتع بهما المجتمعات الإسلامية من إندونيسيا حتى المغرب. كما وأنهما ستظهران بشكل واضح في الكثير من المجتمعات الغربية حيث يقيم مسلمون مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية. فالحركة الإسلامية ليست أقل طموحاً من المسيحية في حقل نشاطها. فالإسلام دين عاملي لا يرى له حدوداً على سطح الأرض. والعالم كله يمكن أن يكون مسرحاً له. والإسلام يسعى إلى أسلمة جميع مجتمعات العالم دون تمييز.
في هذا الإطار، فإن مستقبل الإسلام زاهر وقاتم في آن معاً. زاهر لأنه سيقود إلى قيام نموذج حضاري متكامل يضاهي الغربنة. وقاتم لأن نجاح الإسلام في هذا المضمار سيولد الكثير من الصراع والآلام بين المجتمع الإسلامي حامل لواء نموذج حضاري مميز وبين النموذج الحضاري الغربي المتقدم والسائد في العالم اليوم. فالمجتمع الإسلامي لن يهزم ويتحوّل عن طريقه نتيجة لحل حزب أو غياب قائد. فالمسلمون يشكلون ربع سكان المعمورة وهم متمسكون بدينهم وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم وهم في سبيل خلق مجتمعات حديثة وعصرنة تضاهي في حضارتها المجتمعات الغربية. أما كيف سيحسم هذا الصراع فهذا سؤال ليس مطروحاً للإجابة عنه الآن .
جريدة الحياة 25/09/94