«أمة واحدة من دون الناس»
1987/09/23م
المقالات
6,861 زيارة
بايع الأنصار رسول الله ﷺ في العقبة على نصرته، وفيها أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأهليهم، وذلك في ذي الحجة لثلاث عشرة سنة خلون للبعثة(1).
وبذلك أصبحت المدينة حصناً منيعاً للإسلام وأهله فهاجر المسلمون من مكة ارسالاً(2) إلى المدينة المنوّرة. ولم تكن هجرتهم هذه هرباً كما يحلو للبعض من أعداء الإسلام أن يصفوها، بل كانت طاعة لله عزّ وجلّ بالنزول في ولاية المسلمين دون تولّي الكافرين، وبالعيش في حكم الإسلام.
الخطر على قريش:
ورأت قريش في منعة المسلمين بالمدينة خطراً كبيراً عليها، خصوصاً إذا لحق بهم النبي ﷺ. فأتمرت قريش واتفقت على قتله، واختاروا لذلك أربعين فتى، من كل بطن(2) واحداً، يحاصرون بيته ويقتلونه عند خروجه. ورأوا أنهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه ﷺ بين بطون قريش، وحينئذ لن تقوى بنو هاشم ـ وهم عصبته ـ على محاربتهم جميعاً فترضى بالدية(4) . غير أنّ الله تعالى أخبر نبيه ﷺ بما اجتمعت له قريش، فخرج من بينهم وقد أعماهم الله عن رؤيته. ونام عليّ كرّم الله وجهه مكانه ليطمئنوا إلى وجوده، بينما يكون في طريقه إلى المدينة.
تأسيس الدولة الإسلامية:
وفي المدينة أقام ﷺ الدولة الإسلامية، وكانت بداية التأريخ الهجري كما وضعه الخليفة من بعده عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة(5) بين المهاجرين والأنصار، وادَع فيها اليهود وعاهدهم، وأقرّهم على أموالهم ودينهم، وشرط لهم واشترط عليهم. ومما جاء في الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب محمّد النبي ﷺ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمّة واحدة من دون الناس.. وأن لا يحالف مؤمنٌ مولى مؤمنٍ دونه. وإنّ المؤمنين المتقين على من بغي منهم، أو ابتغى دسيعة(6) ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان وَلَد أحدهم.. وأن ذِمّة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين موالي بعض دون الناس، وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة. غير مظلومين ولا متناصر عليهم. وإن سلْم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلاّ على سواء وعدل بينهم وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرَدّه إلى الله عزّ وجلّ، وإلى محمّد ﷺ… وإنه من كان بين أهلِ هذه الصحيفة من حدّث أو اشتجار يُخاف فسادُه، فإنّ مردّه إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله ﷺ…
وهكذا حدّد رسول الله ﷺ أن العلاقة بين اليهود وبين المسلمين أساسها الاحتكام إلى الإسلام وخضوعهم لسلطانه، وتقيّدهم بما يستلزمه أمنُ الدولة الإسلامية. فبذلك ركّز الرسول ﷺ العلاقات في الدولة الإسلامية على أساس واضح هو الإسلام، فاطمأن إلى بناء الدولة وثباتها أمام كلّ ما يتهدّد مصير الدعوة الإسلامية.
التهيئة للجهاد:
وبعد أن اطمأن رسول الله ﷺ إلى تطبيق الإسلام في الداخل، بدأ يهيئ أجواء المدينة لقتال الكافرين. لمّا كانت قريش بقوّتها ومَنَعَتِها في مكة عقبة كبيرة في وجه انتشار الإسلام في الجزيرة العربيّة، أرسل رسول الله ﷺ سرايا من المؤمنين يتحدّى بها المشركين. ولم يكتفِ بذلك، بل خرج بنفسه للقتال. وكان من غزواته ﷺ غزوة ودّان وغزوة بَواط والعَشيرة وغزوةُ بدر الأولى، وغير أنه لم يصب قتالاً فيها. لكنّ هذه السرايا والغزوات أوجدت هيبة للمسلمين بين العرب، وأثارت الرعبَ عند قريش فصارت تحسب للمسلمين وقوّتهم ألفَ حساب(7). كما هيّأت مجتمع المدينة لقتال المشركين، وأخافت يهود المدينة من إثارة الشغب على الرسول ﷺ.
غزوة بدر الكبرى:
وفي الثامن من رمضان لسنتين خلت للهجرة، خرج رسول الله ﷺ من المدينة بثلاثمائة وبضعة عشرَ رجلاً يريد قافلة للمشركين. ولما وصلوا وادياً يقال له دَفران، بلغهم أن المشركين خرجوا من مكة في ألف رجل ينقذون عِيرهم. وحينذاك تعيّر وجه الأمر، وصار الموضوع أن يحاربوا قريشاً أو لا يحاربوها. فاستشار النبي ﷺ في قتال الكفّار. فقام أبو بكر وقال خيراً، وقام عمر فقال خيراً. وقال المقداد بن عمرو: يا رسول الله، امض لما أراك الله. والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. فقال النبي: أشيروا عليّ، يريد الأنصار، لأنهم إنما بايعوه على القتال في المدينة وليس خارجها(8). فقام سيد الأوس سعد بن مُعاذ فقال: لكأنّك تريدنا يا رسول الله. فقال: نعم. قال سعد: لقد آمنّا بك وصدّقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك وما تخلّف منّا رجل واحد. فأشرق وجهه عليه الصلاة والسلام، وقال: سيروا وأَبشِروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأنّي الآن انظر إلى مصارع القوم.
وكانت غزوة بدر الكبرى، وكانت أول معركة بين جيش المسلمين وبين الكفّار، وفيها نصر الله تعالى عباده المؤمنين على الكفار رغم قلتهم(9). وقد أحدث نصر الإسلام على الكفار دوياً هائلاً في جزيرة العرب، حتى قال أحدهم: إن كان محمد قد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
غزوة بني قينقاع:
ولما عاد المسلمون إلى المدينة، جمع النبي ﷺ يهود بني قينقاع في سوق لهم فقال: يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلِموا، فإنّكم قد عرفتم أنّي نبيّ مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. فقالوا: يا محمّد، لا يغرّنّك أنّك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصَبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنّا نحن الناس.
ثم بلغ من كيدهم أن امرأة من المسلمين قدِمت إلى سوق بني قينقاع بجلب لها فباعته، وجلست إلى صائغ في السوق. فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبَت. فعمَد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقَده إلى ظهرها، فلما قامت انكشف سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله. فشدّت اليهود على المسلم فقتلوه. فكانت غزوة بني قينقاع. فحاصرهم رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة حتى نزلوا على حكمه(10). فقام إليهم عبد الله بن أبي بن سلول، وكان رأس المنافقين(11) في المدينة، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، وكانوا حلفاء قومه في الجاهلية. ثم ألح عليه فغضب رسول الله، فقال ابن سلول: أربع مائة حاسر(12) وثلاث مائة دراع(13) قد منعوني من الأحمر والأسود من الناس، تحصدهم في غداة(14) واحدة. إنّى والله امرء أخشى الدوائر. فقال النبي ﷺ: هم لك.. وأجلاهم عن المدينة فرحلوا إلى خيبر(15).
حنكة ودهاء:
ففي هذه الحادثة ما يظهر حِنكة النبي ﷺ. فقد كان رأسُ المنافقين يهدِّد بفتنة يشعلها في المدينة قد تهدد أمن الدولة، وفي الوقت نفسه لا بد من إنزال عقاب رادع بهؤلاء الذين اعتدوا على أعراض المسلمين ونقضوا عهدهم. فكان قرار النبي ﷺ بإجلائهم عن المدينة حكيماً، فإنه لم يظهر بموقع الضعف، كما منع ابنَ سلول من تهديد الدولة. ومثل هذا الدهاء يلزم كثيراً في دولة الإسلام، لأن أعداء الدولة داخلها وخارجها متفقون، ولا بد من مقارعتهم ألاعيب السياسة.
وقلة حياء:
كما إنّ الحادثة ما يدل على منزلة المرأة في الإسلام. فالمرأة يصان شرفها وعِرضُها ولا يُسمح بانتهاكه أبداً بكشف عورتها أو بغير ذلك. فإذا فعل الصائغ اليهودي فعلته فإن المسلمين يحاربونه وقومه اليهود لنقضهم العهد.
حقاً إن المرأة لها منزلة يجب أن يصونها المسلمون. ولكنّ أعراض المسلمين هذه الأيّام تنتهك في كلّ يوم، وما من حاكم مسلم يحارب دون ذلك. وعلى العكس، تجد بنات المسلمين اليوم ونساءهم يفتخرون “بتحرّرهنّ”. ومما يروى عن واقعنا المخزي أنّ خائن مصر أنور السادات، أقام حفلة لرئيس وزراء اليهود بيغن. وعندما رأى بيغن نساءاً من المسلمين يرقصن عاريات، مال إلى السادات قائلاً: إن أسلافك ـ يعني المسلمين الأوائل ـ شنّوا علينا حرباً لأجل عورة امرأة، مشيراً بذلك إلى غزوة بني قينقاع. فانتشى السادات بزَهوه، معتبراً نفسه تحرّر من “رجعية” أسلافه المسلمين.
والله إنّه خزي وعار ما بعده عار. السادات يسفح أعراض المسلمين أمام الكفار وينتشي مزهوّاً بذلك. ولو أن فيه ذرة من حياء لقتل بيغن بسخريته على الفور، ولكن هيهات لحكام المسلمين الحياء والحرص على أعراض المسلمين. إنما هم أعداء للأمّة، ويعادونها ويحتقرونها.
نسأل الله عز وجل أن يعيد حكم الإسلام، وأن يمنّ على المسلمين بخليفة لرسول الله ﷺ يقيم شرع الله فينا، ويحفظ أعراضنا، ويحمل دعوة الإسلام إلى العالم.
_________________________________________
هوامش
(1)راجع مجلة الوعي العدد الثالث، ذي الحجة عام 1407هـ.
(2)ارسالاً: أي جماعات.
(3)بطن من قبيلة: فرع منها.
(4)الدية: تعويض لأهل القتيل عن مقتل صاحبهم.
(5)راجع سيرة ابن هشام، الجزء الثاني.
(6)دسيعة: عظيمة أو كبيرة.
(7)حيث كان وجود المسلمين في يثرب يهدد طريق تجارتهم إلى الشام.
(8)راجع الوعي ـ العدد الثالث.
(9)وقد قتل من المشركين سبعون من أشرافهم، واسر سبعون، وغنم المسلمون غنائم كثيرة.
(10)أي استسلموا على أن يحكم عليهم بما يشاء.
(11)المنافقين: هم الذي أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام خوفاً من المسلمين.
(12)حاسر: الذي لا درع له.
(13)دارع: الذي يلبس الدرع.
(14)غداة: صباح.
(15)خيبر: أكير حصن لليهود في جزيرة العرب، يقع شمالي المدينة.
1987-09-23