الانتماء الصحيح
روى الإمام أحمد في مسنده عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: «انتسب رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، فمن أنت لا أم لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انتسب رجلان على عهد موسى عليه السلام، فقال أحدهما: أنا فلان بن فلان، حتى عدّ تسعة، فمن أنت لا أمّ لك؟ قال: أنا فلان بن فلان ابن الإسلام. قال: فأوصى الله إلى موسى عليه السلام أن هذين المنتسبين: أما أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم وأما أنت يا هذا المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة» صحيح رواه أحمد والبيهقي في الشعب وقال: هذا إسناد صحيح.
ـــــــــــــــ
قبل أن نذكر المعنى المباشر لهذا الحديث الشريف لا بد أن نتذكر ما أكدت عليه نصوص كثيرة فيما يتعلق بأصل الإنسان ونشأته، فقد أعلمنا الله أنه خلق البشر من أصل واحد وهو التراب. وعليه فإنه لا ميزة لأحد على أحد في الأصل حيث لا تفاضل إذ الكل من تراب، وليس هناك أُسَرٌ أصلها ذهب وأخر من فضة وثالثة من حديد…الخ.
ومع أن جميع الخلق من آدم وآدم من تراب إلا أنك تلاحظ ذلك التمايز والتباين بين الناس في أشكالهم وأطوالهم وألوانهم…الخ، فهل هذا التمايز والتباين مبرر لتعالي بعض الناس وتفاخرهم على بعض؟
والجواب أن هذا التمايز جعله الله دليلاً على حكم أهمها حكمتان جليلتان:
الأولى: ليكون هذا التمايز آيةً على قدرة الله العظيمة، ودليلاً على تفرده عز وجل في الخلق والتدبير قال تعالى: (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم].
وقد جاءت هذه الآية بعد قليل من قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) [الروم].
وعليه فإن الإنسان عجيبة في أصل خلقته وعجيبة في طبيعتها، وقد أودع الله تعالى هذا المخلوق مجموعةً من الأسرار والعجائب ولفت إلى ذلك الأنظار قائلاً: (وفي الأرض آيات للموقنين @ وفي أنفسكم أفلا تبصرون) [الذاريات].
فالإنسان عجيبة في تكوينه الجسدي، أعضائه ووظائفها وكيفية تركيبها، الهضم والامتصاص، والاحتراق، التنفس، ودورة الدم، والغدد وإفرازاتها وعلاقتها بنمو الأعضاء وكيفية عملها، كل ذلك وغيره الكثير مما عرفه الناس أو لم يعرفوه عن أصل خلقتهم أو طبيعتها عجائب تدهش الألباب وتحيّرها، فحيثما وقف الإنسان يتأمل نفسه واجهته عجائب شاهدة على قدرة الخالق وعظمته. وصدق الشاعر حيث يقول:
وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جُرْمٌ صَغِيرٌ وَفِيكَ انْطَوَى العَالَمُ الأَكْبَرُ
الثانية: أما الحكمة الثانية من ذلك التمايز والتباين بين البشر في الأشكال والألوان والأطوال…الخ، فهي من أجل أن يتمكن البشر من التعرف بعضهم على بعض وتمييز بعضهم من بعض قال تعالى منبها على ذلك. (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) [الحجرات].
وفي هذه الآية ذاتها والتي ذكر الله فيها الحكمة من تمايز الناس فيما تقدم ذكره – نصّ الحق تبارك وتعالى على ما يتفاضل به الناس حقيقه فقد أخبر الله تعالى أن التفاضل فـي ميزان الإسلام ليس مرده إلى هذا التمايز الواقع بين الناس إنما مرده – في ميزان الإسلام – إلى التقى والصلاح (إن أكرمكم عند الله أتقاكم ).
أما المفاخرة بالآباء الكفرة والزعماء الفجرة، والقيادات التي عاثت في الأرض فساداً، فذلك كله من الباطل، وهو يمثل انحراف مسار الإنسان في تصوراته وأفكاره وأفعاله.
وفي الحديث الذي يرويه كعب وهو موضوع الكلام يخبرنا أبي بن كعب عن لون من ألوان ذلك الباطل وقع في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تفاخر عنده رجلان فافتخر أحدهما على صاحبه بأصاله نسبه فاهتبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة حيث لقن ذلك المفاخر وأمثاله درساً رادعاً عن هذا الباطل. فقد حدثهم أن رجلين من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام اختلفا وتنازعا، فافتحر أحدهما بالآباء العظام من أهل الكفر وعدد تسعاً من آبائه. أما الرجل الآخر فقد كان صالحاً فقيهاً فقد كان منتسباً: أنا فلان بن فلان أبن الإسلام وكان الأبوان اللذان اعتزى إليهما مسلمين ثم اعتزى إلى الإسلام، ورفض أن يمد المفاخرة إلى الآباء الكفرة. ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أوحى إلى موسى يأمره أن يقول للمفاخر بآبائه الكفرة: (أنت أيها المنتمي أو المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم)، وأمره أن يقول للآخر المنتمي والمعتز بإسلامه: (وأنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهما في الجنة).
وقد اشتد رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاربة العصبية حين قال: «لينتهين أقوام يفخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فيح من فيح جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعل يدهده الخراء بأنفه، إن الله قد أذهب عنكم عَبِيَّةَ الجاهلية، وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم وآدم من تراب» رواه الترمذي وأبو داود.
فالعصبية مرض فتاك يخبث النفوس ويدنسها ويشعل العداوة والبغضاء بين أفراد المجتمع الواحد وقد يؤدي إلى القتال وسفك الدماء، ومع كل ذلك، فقد ترعرعت العصبيات في هذا الكون فكان من نتيجتها أن فرقت جماعة المسلمين، وأصبحت معولاً لهدم الأمة الإسلامية ولم يعتبر المسلمون بما جاء في ذمّ العصبيات في كتاب ربهم وسنة نبيهم بل ولا بما أحدثته العصبيات في الأمم الأخرى التي طحنتها العصبيات وفرقتها شذر مذر، ثم ألم يكن من أهم أسباب هدم الخلافة الإسلامية العصبية حيث تعصبت الحركة الطوارنية للجنس التركي، فانضمت العصبية إلى قائمة سوداء من الأفكار لدى أولئك المارقين الذين أعملوا معول الهدم في الخلافة الإسلامية.
ثم ما زالت الأمة تعاني من شرور العصبية فهذه القطرية والتي رسخها الاستعمار وهي شكل من أشكال العصبية حيث يتعصب كل أناس إلى قطرهم فهذا مصري وذلك سوري وآخر مغربي ورابع عراقي…الخ. هذه القطرية هل تزيد المسلمين إلا ضعفاً وتمزقاً وتشرذماً.
إن الأصل في أمة الإسلام أن تكون في دولة واحدة هي دولة الخلافة التي تلم شعثهم وترأب صدعهم وتجير كسرهم وتسوقهم بالعدل والإحسان إلى خير الدنيا والآخرة. نسأل الله أن يطلع فجر الخلافة لتنعم البشرية كافة بنورها وخيرها .