بقلم: محمد حسين عبد الله
في حياة كل قائد، وفي حياة كل أمة، أيام فاصلة: فاصلة بين الحق والباطل، وفاصلة بين الهزيمة والنصر…. أيام أثّرت في حياة الجيل الذي عاشها، لأنها عبّدت له طريق النهضة والقوة، وأثّرت في الأجيال التي جاءت من بعده، لأنها كانت نبراساً لهم على طريق النصر والرقي، ولا تزال هذه الأيام التي يحتفل بها المسلمون في كل عام هجري معالم مضيئة، يصْبون إلى تجديدها… إنها أيام هجرة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-، من مكة المكرمة إلى المدنية المنورة، فهي أيام لا مثيل لها في حياة القادة والأمم، لأن أثرها لم يقتصر على أمة أو جيل، وإنما يتعدّى إلى الناس كافة، وإلى أن يرث الله تعالى الأرض من عليها.
فبعد أن حصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- على النصرة في بيعة العقبة الثانية، بيعة الحرب، من مسلمين الأوس والخزرج، سكان يثرب، الذين بايعوه على حرب الأحمر والأسود من الناس، وبايعوه على السمع والطاعة، في عسرهم ويسرهم، وفي منشطهم ومكرههم، وأن يقولوا الحق، لا يخافون في الله لومة لائم…
بلغت أخبار تلك البيعة قريشاً، فجُنّ جنونها، واشتد أذاها للمسلمين في مكة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: «فد جعل الله لكم بالمدينة إخواناً، وبلداً تأمنون به، فالحقوا بإخوانكم من الأنصار»، فأخذوا بالهجرة إليها، كلّ بأسلوبه ووسيلته. فأحسّت قريش بالخطر، فأجمع زعماؤها على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قائد الدعوة، قبل أن يفلت من أيديهم، وقبل أن يكون له في المدينة قوة ومنعة، فنـزل جبريل عليه السلام، وأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا يبيت في فراشه، وأن يهاجر إلى المدينة، فترك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-في فراشه، وأمره أن يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده لأصحابها، ثم عمد إلى غار ثور، فدخله مع أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، الذي كان ينتظر صحبته، بعد أن طلب من عبد الله بن أبي بكر أن يتسمّع ما يقول الناس فيهما، ثم يأتيهما بالأخبار إذا أمسى ، وأمر عامر بن فهيرة أن يتبع أثرهما بالغنم، وطلب من أسماء بنت أبي بكر أن توافيهما بالطعام، وبعد أن مضت ثلاث ليالٍ وسكن الناس عنهما، أتاهما الدليل الماهر عبد الله بن أريقط بالرواحل، وسار ثلاثتهم ومعهم عامر بن فهيرة نحو المدينة، سالكين طريقاً غير مطروقة، فلحق بهم سراقة بن مالك طمعاً في مكافأة قريش، فكتب له الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتاباً وعده فيه بحلية كسرى ملك الفرس، ثم مرّوا بخيمة أم معبد، فأطفاوا ظمأهم وجوعهم بحليب شاتها، ومرّوا بأوس بن حجر الأسلمي، فأعطاهم جملاً حمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ثم قدموا إلى «قباء» بالقرب من المدينة المنورة، فنزلوا على بني عمرو بن عوف، في منزل سعد بن خيثمة، أحد النقباء في بيعة العقبة الثانية، وكان يقال لبيته منزل العُزّاب.
أقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا المنـزل أربعة أيام، ثم توجه إلى قلب المدينة المنورة، كلما مرّ بحيّ من أحياء المسلمين، حرجوا لملاقاته، قائلين له: «يا رسول الله! أقم عندنا في العدد والعدّة والمنعة، فريدّ عليهم: «خلّوا سبيلها فإنّها مأمورة» فانطلقت به ناقته، حتى بركت في ديار بني النجار، في مربد (بيدر) لغلامين يتيمين، فاشتراه منهما، وبدأ ومعه المسلمون ببناء مسجده ومسكنه، واحتمل أبو أيوب – خالد بن زيد – الأنصاري رحله، فوضعه في بيته، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضيفاً عليه حتى فرغوا من بناء المسجد والمساكن.
إنّ هذه الأيام المعدودة، التي سبقت إعلان إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، والأيام الأولى من عمر هذه الدولة الفتية، وما جرى فيها من أحداث متلاحقة، ومن تغيير جذري في حياة المهاجرين والأنصار، إنها لتشدّ المسلمين بقوة، وتشحذ عقولهم لاستيعاب العبر والدروس منها، ولاستنباط الأحكام اللازمة لتغيير واقعهم السيئ، وهي أيضاً تبعث فيهم الأمل بالنصر، مهما تكالبت الأعداء، ومهما ادلهمّت الخطوب…
إنها أيام دقيقة وخطيرة، إذ وصل الأذى أقصاه بالمسلمين، وبالرسول -صلى الله عليه وسلم-، فتركوا أوطانهم وأهليهم، وتخلوا عن مساكنهم وأوطانهم هرباً بدينهم… منهم من هاجر إلى الحبشة، ومنهم من هاجر إلى المدينة، والمستضعفون منهم أقاموا في مكة خائفين، كاتمين إسلامهم… وإذ وصل الحقد بالمشركين أن اتفقوا على قتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، على الرغم من مكانة وعشيرته وحمايتها له… وأمّا المشركون من الأوس والخزرج، وبتأييد من يهود المدينة، فقد بدأوا ينظمون الخرز لعبد الله بن سلول لتتويجه ملكاً عليهم في المدينة، مدينة النصرة، ونقطة ارتكاز إقامة الدولة.
في هذا الجو المشحون بالعداوة والمواجهة بين الإسلام والكفر، وبين المسلمين الذين لم يُؤْمروا باستعمال السلاح المادي، وبين المشركين الذين يملكون القوة المادية القادرة على ضرب الدعوة في مهدها، حتى أن اليأس كاد أن يتسرب إلى بعض المسلمين فراحوا يسألون الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن موعد النصر ويستعجلونه.
في هذا الجو الملبد بغيوم الخوف والاستيئاس، ومكائد المشركين وتآمر اليهود، يعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قيام الدولة، وينتقل المسلمون من مرحلة الكفاح السياسي والصراع الفكري في حمل الدعوة، إلى مرحلة الحكم والصراع الدموي وإقامة الدولة.
إن تلك الأيام من ربيع الأول منذ أربعة عشر قرنا ًونيّف، شهدت نقطة تحول في حياة أهل المدينة المنورة، ثم في حياة الناس كافة، ولا تزال آثارها وأثرها ماثلة للعيان حتى الآن… تلك الأيام جديرة بالبحث والدراسة والاستقصاء بدقة وتفهم، وإنعام نظر، لأن البشرية بحاجة لمثلها اليوم، ولا سيما المسلمون.
فأيام الهجرة النبوية، التي سبقت قيام الدولة، يعلمنا الله بها ما يجب أن يكون عليه حملة الدعوة، حينما تشتد المحن، وتحدق بهم الأخطار والمؤامرات… فعلى القيادة أن تكون حذرة متيقظة، وإن اقتضى الأمر أن تختفي عن الأنظار، وأن تكون حكيمة دقيقة في التخطيط، ومبدعة في استعمال الوسائل والأساليب المباحة، ومبتعدة عن كل شبهة يمكن أن يستغلها أعداؤها ضدّها، ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، فقد أوهم قريشاً أنه لا يزال في فراشه، واختفى مع أبي بكر في الغار، انتظاراً للدليل الماهر، ليسلك بهما مجاهل الطريق إلى المدينة، فأخذ بالأسباب التي من شأنها عادة أن تؤدي إلى النجاح في العمل. وقبل هجرته كان حريصاً على درّ الودائع التي كانت عنده إلى أهلها، رغم خطورة الموقف، فالتزام القيادة بأحكام المبدأ الذي تدعو له مهما كان الموقف، ومهما كانت النتائج، يجعلها أهلاً للقيادة، وموطناً للثقة ليس عند اتباعها فقط، وإنما عند الناس جميعاً.
وأما الصحابة الكرام، فقد كانوا حريصين على سلامة القائد الرسول -صلى الله عليه وسلم-، مطيعين له، ومسلمين بما يصدر عنه، ومنفذين لأوامره، بصرف النظر عمّا يحلق بهم… فهذا علي بن أبي طالب عليه السلام تدثر ببردة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ونام في فراشه ليلة هجرته، معرضاً نفسه للهلاك فداءً له… وهذا أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، قد حمل معه جميع نقوده، وكان يقيه بجسمه أحجار الأفاعي في الغار، يحرسه أثناء الطريق، ويقول لمن سأله عنه: «إنه رجل يهديني السبيل» حرصاً عليه، ويكتم خبره عن أمّ معبد، فتسميه الرجل المبارك… وأمّا أسماء وعبد الله ولدا أبي بكر، فقد تحملا الأذى والمخاطر لتزويده بالأخبار والطعام… والمسلمون في المدنية المنورة يترقبون مجيء القائد كل يوم خارجها، فهم على اختلاف أوطانهم وقبائلهم وألوانهم، يفكرون ويشعرون بناء على أساس واحد، وهو العقيدة الإسلامية التي جعلتهم كالجسد الواحد في توادهم وتعاظفهم وتراحمهم، يتلهفون لرؤية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سالماً.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختار النـزول في «قباء» في منـزل العُزّاب، لكي لا يثقل على العيال، ولكي يتاح له الاتصال والاجتماع بأكثر عدد من شباب المهاجرين والأنصار، دون حرج أو إحراج، وظل في ذلك المنـزل أربعة أيام، سمع فيها معلومات عن المدينة المنور وعن أهلها، وعن أوضاعها، ثم سار قبل ساعات من إعلان الدولة عبر أحيائها، فرحّب به المسلمون الأنصار، وعرضوا عليه، حيّاً حياً، أن ينزل عندهم في العدد والعدة والمنعة، فاختار الله تعالى له ديار بني النجار من الخزرج، وهم أكثر أهل العقبة الثانية تمثيلاً لمسلمي المدينة، وكانوا السابقين إلى الإسلام في العقبة الأولى، وكان مصعب بن عمير قد اتخذ من بيت نقيبهم أسعد بن زرارة مركزاً للدعوة، فأعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من على ديارهم إقامة الدولة، حيث اشترى أرضاً منهم، بنى عليها مسجدة ومساكنه، لتكون مقراً لرئاسة الدولة ولإدارة شؤونها، وبدأ أعماله كرئيس دولة، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وكان لهذه الأخوة أثر في الناحية المادية، إذ أعطى الأنصارُ المهاجرين الأموال والأرزاق، وشاركوهم في حاجات الدنيا، فتكوّن المجتمع الإسلامي الجديد على أساس راسخ وهو العقيدة الإسلامية، وما ينبثق عنها من أفكار ومشاعر ومعالجات. ثم كتب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين المسلمين من جهة، وبين اليهود ومشركي المدينة من جهة أخرى، كتاباً جامعاً اشترط فيه لهم، واشترط عليهم، منظماً علاقات رعايا الدولة الفتية تنظيماً دقيقاً، مبنياً على عدل أحكام الإسلام، وذلك ليضمن استقرار الدولة داخل المدينة، من أجل أن يتفرغ المسلمون لمواجهة أعداء الإسلام ولحمل الدعوة الإسلامية خارج المدينة، مزيلين كل حاجز مادي يقف حائلاً دون هذه الدعوة بقوة السلاح. وهبّت على هذه الدولة الوليدة عواصف حارة مدمرة، ورياح باردة ممطرة، كغزوة الأحزاب وبدر، وكغزوة أحد وحنين، فثبتت ثبوت الجبال الراسيات، حتى ضمت إليها معظم الجزيرة العربية قبل وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقفزت لتصارع أعظم دولتين حينئذٍ، دولة الروم ودولة الفرس، من أجل أن تتبوأ مركز الدولة الأولى في العالم المعروف آنذاك.
تلك الأيام من الهجرة النبوية، التي نقلت إلينا أحداثها، كتب السيرة والحديث، تستحثنا وتقول لنا: هذا هو الطريق الوحيد لنهضة المسلمين، للوصول إلى الهدف المنشود، وهو استئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الخلافة، وهو طريق الكفاح السياسي، والصراع الفكري الطريق الذي خطه ربّ العالمين، وسلكه رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، في مكة، ضد عقائد الكفر وأفكارهم، ولا سلاح لديه إلا الإيمان بالله، وهو سلاح قوي فعّال، يوجب التوكل عليه، واستمداد العون منه، ويُحتم الالتزام بأحكام طريقته التي شرعها، لأن الانحراف عنها يجرّ إلى الإخفاق، وربما جرّ إلى أكثر من ذلك وأخطر (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
ومهمة حَمَلَةِ الدعوة هي التفاعل مع الأمة بالمبدأ الذي يحملونه، لإيجاد الوعي العام لديها على هذا المبدأ، ولتحتضن هذا المبدأ، وبذلك يقودونها قيادة فكرية، ثم قيادة فعلية، كما صنع مصعب بن عمير مع أهل المدينة، الذين بايعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على حمايته من كل أحمر وأسود من الناس، وعلى إقامة الدولة على أرضهم، وذلك بعد أن رفضت كثير من القبائل ذلك الأمر.
فعلى حملة الدعوة، الذين نذورا أنفسهم لتحمل مسؤولية إنهاض الأمة على أساس الإسلام، أن يظلوا عاضّين على طريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بنواجذهم، يقظين عليها، وعلى فهمهم لها، حذرين من أن يفتنهم غيرهم عنها، بحجة الإخلاص، أو بحجة مصلحة الدعوة، أو بحجة اختلاف الظروف، فليرجعوا دائماً إلى الإسلام ونصوصه، وإلى سيرة رسولهم -صلى الله عليه وسلم-، منقبين عن الحقيقة، حتى تبقى الفكرة نقية صافية، وتبقى الطريقة صحيحة واضحة، لأن الالتزام بأوامر الله ونواهيه هو الضمان الوحيد للنجاح في حمل الدعوة، وفي إقامة الدولة واستمرارها… فالجيل الذي يحمل الدعوة، ويقيم الدولة، لا بد أن يكون واعياً الوعي التام على المبدأ فكرة وطريقة، وحارساً أميناً للإسلام قبل الدولة وأثناءها… فهؤلاء المسلمون يكادون أن يقعوا في الفتنة بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فينقذهم منها، تلك الشخصياتُ الإسلامية، التي صاغها الرسول بالإسلام، أمثال أبي بكر، وأبي عبيدة، وعمر بن الخطاب وغيرهم، إذ يحملون المسلمين على تحكيم الإسلام، فيهزمون الفتن ويتخطون الصعاب، ويستمرون في تأدية رسالتهم وهي تطبيق الإسلام في الداخل، وحمله إلى الناس كافة، حتى تمكنوا في أقل من نصف قرن، أن يبنوا بوسائلهم البدائية، أقوى وأكبر دولة في العالم يومئذٍ.
واليوم، وبعد أن مضت القرون، على هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يتذكر المسلمون تلك الأيام الفاصلة بين الحق والباطل، التي ظلت معالم هداية على الطريق، يسترشد بها من يريد أن يسلك نفس الطريق، وذلك لنقل المسلمين من حالة الضياع والفُرقة التي يعيشونها، إلى حالة إيجاد الذات والوحدة التي يصْبون إليها… ويتذكرون مواقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عروض قريش والقبائل عليه، من أجل أن يتخلى عن بعض الأمر، فقد قال لبني عامر بن صعصعة عندما وافقوا على نصرته، على أن يكون لهم الأمر من بعده، قال لهم: «إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» فلووا عنه وجوههم، وردّوه كما ردّه غيرهم، إلى أن قيّض الله له الأنصار في المدينة، الذين استجابوا لكل ما طلبه منهم.
وذات يوم، لا بد أن تتم المفاصلة، ويتحقق وعد الله بالنصر، كما تحقق لرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، للذين يسيرون على نفس الطريق الذي قال عنه تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .