إن حامل الدعوة إذ يتصل بالناس لإيصال أفكار الإسلام إليهم كي يحملوها بدورهم وينشروها، إنما يفعل ذلك لهدف معين، ألا وهو نشر الأفكار الإسلامية حتى تصبح آراء عامة تسود المجتمع فتكون أساساً للقاعدة الشعبية التي ترتكز عليها الدولة الإسلامية حين قيامها.
لذلك فإن الحرص الشديد يجب أن ينصب على المادة التي ينقلها حامل الدعة إلى من يدعوهم ويخاطبهم، فيدرس آثار مخاطبته عليهم بشكل دائم ومستمر. هذه الدراسة والمحاسبة لنفسه من شأنها أن تجعل عند حمل الدعوة الحس السليم لاختيار الموضوع المناسب وطرحه بالأسلوب المناسب حسب اختلاف المواقف وحسب اختلاف واقع من يخاطبهم، كل ذلك لتحقيق الهدف المطلوب. وقد كان أسلوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يختلف حسب الموقف.
ولعله من أعظم مواقف النبي -صلى الله عليه وسلم- الني ينبغي على حامل الدعوة أن يقف عندها ويتأسى بها موقفه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة في حجة الوداع، والخطاب الذي ألقاه على الألوف المحتشدة من المسلمين، مستهلاً كلامه بأنه لا يدري لعله لا يلقاهم بعدُ أبداً: «أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً».
لم يكن هدف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يعلِّم الناس أحكام دينهم في اليوم ولكنه ذكر لهم أموراً إن أنعمنا النظر فيها نجد أنها كفيلة بتبيان شمولية الإسلام وعظمته واحتوائه على الأحكام اللازمة لجميع أمور الحياة ومستجداتها. وإن دققنا بأسلوبه نجد أنه كان يريد نقل مسؤولية الإسلام وحمل الدعوة الإسلامية إلى أكتاف المسلمين. فيضمن بذلك مسيرة حمل الدعوة إلى العالم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى. فبعد أن دعا الناس وحثهم على الإنصات والاستماع إلى ما سيلقيه عليهم تابع قائلاً: «أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». فهذا بند في أحكام المعاملات بين الناس. وانتقل من هذه العبارة فأكمل خطابه قائلاً: «ألا أن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة…، وربا الجاهلية موضوع… » فنفى بهذه العبارة أحكام الجاهلية والاحتكام إليها والإقرار بها. نفاها جميعها: من أحكام معاملات واقتصاد وغيرها، واكتفى عليه وآله الصلاة والسلام بضرب مثل في المعاملات والاقتصاد لضرب الكفر وأحكامه، بدليل أنه بدأ عبارته بقوله عليه وآله الصلاة والسلام: «ألا أن كل شيء… ».
بعد ذلك تحدّث الرسول عليه وآله الصلاة والسلام عن فتن الشيطان وأنها وإن بدت صغيرة إلا أنها عند الله كبيرة وحذرهم منها قائلاً: «أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم».
ثم انتقل إلى سرد أحكام تتعلق بنظام الاجتماع وحق المرأة في الإسلام وحق الرجل عليها وطبيعة العلاقة بينهما قائلاً: «اتقوا الله في النساء، فإن كم إنما آخذتموهن بأمان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. إن لكم عليهن حقاً ولهن عليكم حقاً… ».
من النظام الاجتماعي عاد الرسول الكريم عليه وآله أفضل السلام وأتم التسليم لحث الناس على وعي ما يلقيه عليهم من قول وتدبره: «فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله وسنة رسوله».
ثم يتبع ذلك بالحث على طاعة الخليفة ولو كان حبشياً مجدعاً ما دام يقيم أحكام الإسلام: «يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا وأن أُمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله تعالى». وتستمر الخطبة على هذا الشكل مبيّناً عليه الصلاة والسلام للأمة أن الإسلام دين ونظام حياة كامل شامل يعالج مشاكل الحياة جميعها كما قال عز وجل: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).
نعود إلى حمل الدعوة والعبرة التي ينبغي إدراكها من هذا الموقف. لقد أعطى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذه الخطبة صورة عن الإسلام مبيّناً فيها عظمة هذا الدين بعبارات شمولية باعثة على إدراك المسؤوليات الكبرى الملقاة على عاتق من استمع إليها، ومؤكداً ذلك سؤاله عليه وآله الصلاة والسلام «اللهم هل بلّغت؟» وإجابة المسلمين «نشهد إنك قد بلّغت وأديت ونصحت». فهذه الإجابة تدل على فهمهم للسؤال بالشكل الذي أراده الرسول عليه وآله الصلاة والسلام.
فقد أراد من هذه الخطبة أن يحمّل الناس دعوة الإسلام إلى العالم بالشكل الذي ينبغي له، وجعل هذه الأمانة في أعناق كل من حضر ومن لم يحضر من المسلمين حين طلب من الشاهد تبليغ الغائب. والأمر فيها ماض إلى يوم الدين.
هذا ما نريده من حملة الدعوة اليوم: إعطاء الناس كمية من الأفكار والمشاعر الإسلامية نضمن بها غيرتهم وحرصهم على هذا الدين وعلى عودته إلى واقع الحياة والمجتمع كحرصهم على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بل أشد حرصاً. وأن تكون الأفكار المعطاة مركّزة مؤثرة فتضمن من سامعها أن توجد عنده هذه الغيرة وهذا الحرص الشديد ليدفعاه إلى أن يكون حارساً وحامياً لهذا الدين حتى لو لم يتصل به حامل الدعوة بعدها قط.
أبو توفيق