محمد محمد حسين رجلٌ عرف الحق فقال به وصبر عليه
2010/09/17م
المقالات
3,311 زيارة
محمد محمد حسين
رجلٌ عرف الحق فقال به وصبر عليه
إعداد الأخت راضية المقدسية
في وقتٍ ندر فيه الواعون المخلِصون برز في الأمّة رجلٌ مفكرٌ واعٍ على ما حصل وما يحصل للفكر الإسلامي من هجمةٍ خبيثةٍ مُدَمِّرة، استطاع أن يُشخِص الواقع تشخيصاً دقيقاً، فتنبه إلى المُغرضين الحاقدين على الإسلام والمسلمين، وأدرك اتجاهاتهم الهدّامة للفكر الإسلامي وللّغة العربية، فألّف المؤلفات من كتبٍ ومقالاتٍ إذاعية ومحاضراتٍ ألقِيت في عدد من الجامعات والجَمعيات، حاول من خلالِها تبصير النّاس على ما يُحاك حولهم ويُدبر لهم من هدم لدينهم ولوحدتهم، مُحذراً ممن تخفوا وراء ستارٍ مُهتكٍ مدّعين حرصهم على الإسلام وأمَّته ولغته العربية، داعين لتطويرها مُستخدمين ألفاظاً برّاقة ليِّنة لإخفاء حقيقة أهدافهم الماكرة.
إنّه المفكر الإسلامي والنّاقد الأدبي الأستاذ الدّكتور محمد محمد حسين المولود في سوهاج إحدى مدن الصّعيد المصري عام 1912م، حصل على شهادة الليسانس في اللّغة العربية من الجامعة المصرية عام 1937م، وعمل مُعيداً فيها ثمّ حصل على شهادتي الماجستير ثمّ الدّكتوراه، وعمل مدرساً في كلّية الآداب بالإسكندرية، واستَمر في التَدرج في وظائف التّدريس حتى شغل وظيفة أستاذ، عمِل في جامعتي ليبيا وبيروت، وكان آخر عهده يعمل في جامعة محمد بن سعود الإسلامية، حيث وافته المنية عام 1402هـ الموافق 1982م عن عمرٍ يناهز السّبعين عاماً، رحمه الله تعالى.
بلغت كتبه المطبوعة أحد عشر كتاباً بالإضافة إلى كتبٍ لا زالت مخطوطة، وكتبٌ طُبِعت ووُزّعت ونفدت ولم تُعد طباعتها وهي كتب جديرة بالاقتناء والقراءة، ومن أشهر كتبه:
1- الإسلام والحضارة الغربية.
2- الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر.
3- حُصوننا مُهدّدة من داخلها: وهي مجموعة مقالاتٍ شهريةٍ نُشرت في مجلة الأزهر المصرية ما بين عامي 1377هـ – 1378هـ.
4- أزمَة العصر: وهو عبارة عن ثلاثين مقالاً كُتِبت لتُبثّ من إذاعة الرِّياض عام 1397هـ.
اشتُهر الزّمن الذي عاش فيه بزمن النَّهضة الأدبِية الحديثة -كما سُمِّيت- وقد ظهر في هذا الزَّمن أناسٌ مضبوعون بالغرب الأوروبي وصناعاته وثقافته، داعون إلى تقليد أوروبا في كلِّ شيء، وقد برز من بين هؤلاء (طه حسين) الّذي لُقِّب بعميد الأدب العربي، وكان أحد أساتذة الأديب محمد محمد حسين، ما جعله يتأثر به ويمشي في رِكابه دون أن يدري حقيقة مَراميه الخبيثة، وقد ظهرت شدَّة إعجابه به في رسالته (الدّكتوراه) والّتي كانت بعنوان”الهِجاءُ والهَجّاؤون”.
وبفضلٍ من الله تعالى عليه الذي أنار له عقله وفكره، أدرك أنّ أستاذه قد انحرف عن الطّريق السَّوي السَّليم وسار في ركب الغرب الكافر المُلحد، فإنّه بعد أن بدأ حياته ودراسته في الأزهر وحفظ كتاب الله سافر مبعوثاً إلى فرنسا، وعندما عاد إلى مصر عاد بغير العقل والفكر الذي ذهب به.
وبسبب إدراك هذا الأديب المخلص لمسؤولياته تجاه أمَّته وضع نُصبَ عينيه أن يعمل ضدّ هذا التّيار فيفضحه وزملاءه في الدّرب وينبِّه الأمَّة إلى أخطارهم، يقول في مقدّمة كتابه “حُصوننا مُهدَّدة من داخلها: «كتَبتُ هذه الصَّفحات حين كتبتها لكي أفضح هذا النّفرمن المفسِدين، وأنبه إلى ما انكشف لي من أهدافهم وأساليبهم الّتي خُدعتُ بِها أنا نفسي حيناً من الزّمان مع المخدوعين، أسأَل الله أن يغفر لي فيه ما سبق من الّلسان والقلم، وإن مدّ الله في عمري رجوت أن أُصلح بعض ما أفْسدْتُ مما أصبح الآن في أيدي القرّاء»، ويقول: «وقد كان مُصابي هذا في نفسي وفي تفكيري مما جعلني أقوى النّاس إحساساً بالكارثة الّتي يتردى فيها ضحايا هؤلاءِ المفسِدين، وأشدّهم رغبة في إنقاذهم منها بالكشف عما خفي من أساليب الهدّامين وشِراكهم».
لهذا نجده يذكر طه حسين في كثيرٍ من المواقع في كتابِه، ففي حديثه عن (الكتب المترجَمة) يقول: «لكنّ الّلجنة الثّقافية في جامعة الدّول العربية، وعلى رأسها طه حسين الّذي تشهد كتبه أنّه لم يكن إلا بوقاً من أبواق الغرب وواحداً من عملائه الّذين أقامهم على حراسة السّجن الكبير يروِّج لثقافاته ويعظّمها ويؤلف قلوب العبيد ليجمعهم على عبادة جلاديهم».
وفي عرضه لكتابين كنموذجين من السّموم الّتي تُدس على العرب باسم جامعة الدّول العربية، أحدهم: ما استوحت به السفارة الأميركية لترجمته وهو (مختارات من إمِرْسون)، والآخر:الّذي أوصت به اليونسكو وهو (قصة الحضارة) للكاتب وُلْ دْيورانْت، يبيّن أنّ الجامعة في الحقيقة تكون قد لجأت إلى اليهودية العالمية الهدّامة في الحالين لتختار لها أشدّ الكتب فتكاً بالدّين والأخلاق، وتدميراً للفكر وتسميماً لينابيع الثقافَة.
ففي حديثه عن الكتاب الأوّل يَخلص إلى القول بِأنّ الكاتب (إمرسون) يُظهِر صورةً خدّاعة للإيمان، وأنّه هدّامٌ محترف يُفسِد عن وعي وقصد، فهو يريد ثورة تقلب موازين الدّين والخُلق وكلّ شيء:
1- يستدرج إمرسون السّذّج من القرّاء وضعاف الإيمان بالثناء على موسى وعيسى عليهما السلام، ولكنّه يزعم لهم أنّ الدّين يتجدد دائماً، وأن الأنبياء كانوا ولا يزالون.
2- يعتبر الوحي ظاهرة مألوفة تتكرر في كل زمان ومكان وذلك حين يقول: «ومن واجبي أن أقول لكم إن الحاجة إلى إلهام جديد لم تكن في أي وقت من الأوقات أشدّ مما هي الآن».
3- يُقرن رسالات الأنبياء بآراء الفلاسفة والكتّاب وأصحاب المذاهب الضّالة الفاسدة في بعض الأحيان، فهي في زعمه ليست منزلة من عند الله ولكنها نابعة من عقولهم بعد أن تحرروا من أسر الآراء السائدة في عصرهم.
4- يدعو إلى التحرر الفكري فيقول: «من أراد أن يكون رجلاً ينبغي أن ينشق عن السائد المألوف،… إنّ الثّبات على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة… انطِق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية وانطق بما تفكر فيه غداً في ألفاظ قوية، كذلك حتى إن ناقض ما قلته اليوم، وإذن فثق أنك سوف يُساء فهمك… لكي تكون عظيماً لا بدّ أن يُساء فهمك».
ويُنهي حديثه عن الكتاب قائلاً: «ذلك هو لب الكتاب الذي أوحت به السفارة الأميركية لطه حسين، فترجمه بأموال العرب وأهداه إلى شبابهم ومفكريهم، ولعنة الله على شياطين الإنس والجنّ (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا) [الأنعام 112].
وأمّا في حديثه عن الكتاب الثّاني يبيّن لنا أنّ الكاتب (ول ديورانت) يتساءل إن كان المسيح عليه السلام قد وُجد حقاً، ويشكك في نسبه وفي أنّه وُلد من عذراء، وينكر كل معجزاته فينسبها جميعاً إلى الكذب والتلفيق، أو يردّها إلى خداع الحواس والوهم أو ما سمّاه (العلاج النفسي).
ثمّ يسرد أقاويل عن سيّدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظٍ خدّاعة تحوي داخلها أباطيل، متظاهراً بالإعجاب بشخص النَّبِيّ عليه الصّلاة والسّلام ويدسّ القصص الشّنيعة بأسلوبٍ خفيّ فيعطيه وصف المُصْلح لا وصف النَّبيّ، وبذلك يخدع ضعاف المسلمين حين يرون الكاتب -وهو غير مسلم- يبدي مَيلاً مصطنعاً إلى إنصاف نبيّ لا يدين هو بدينه، ومن الأمثلة على ذلك:
1- يقول: «وكان محمد كما كان كل داعٍ ناجحٍ في دعوته… وحتى شؤون الحياة العادية كانت أوامره فيها تُعرضُ في بعض الأحيان كأنّها موحى بها من عند الله».
2- بعد أن يصف النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّ صوته موسيقي حلو يأسرالقلوب، مرهف الحس، لا يطيق الروائح الكريهة، ينتقل بهدوء إلى وصفه بالقلِق، عصبي المزاج يُرى أحياناً كاسف البال، ثمّ ينقلب فجأة مرِحاً كثير الحديث… فهنا يصفه بالمتصابي والعصبي المزاج، والمريض الأعصاب.
3- بعد وصفه إيّاه بالنّشاط والصّحة وأداء الواجبات يكمل بخبث فيقول: «ولكنّه أخذ يضعف حين بلغ التاسعة والخمسين من عمره، وظنّ أنّ يهود خيبر قد دسّوا السّم في اللحم قبل عام من ذلك الوقت، فأصبح بعد ذلك الحين عرضةً لحِميات ونوبات غريبة» وهنا حرِص هذا الصّهيوني على تبرئة اليهود من تهمة دسّ السّم للنّبيّ عليه الصلاة والسلام في الشاة.
4- ويقول في موقع آخر من الكتاب: «وهاجرت إلى المدينة مائتا أسرة من مكة، فنشأت فيها من جرّاء هذه الهجرة مشكلة الحصول على ما يكفي أهلها من الطعام، وحلَّ محمد هذه المشكلة كما يحلّها كل الأقوام الجياع بالحصول على الطعام أنّى وُجد، ومن ذلك أنّه أمر أتباعه بالإغارة على القوافل المارة بالمدينة، [ويعني بها (قافلة أبو سفيان)]».
5- ومن تشنيعه لصورة النّبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «وضُمّت صفية -وهي فتاة يهودية في السابعة عشرة من عمرها كانت مخطوبة لكنانة- إلى نساء النّبيّ».
وفي تعليق الدكتور محمد محمد حسين على هذا الكتاب وأثره على القرّاء يقول: «إنّ هذه الروح اللادينية قد أصبحت وللأسف الشّديد هي التي تسود دراسات التّاريخ الإسلامي في أكثر جامعاتنا… وما لي أذهب بعيداً وهذا هو محمد بدران -مترجم هذا الجزء- يقرر في مقدمته أنّ المؤلف قد (أنصف الحضارة الإسلامية فشاد بفضلها)».
ويستنكر الدكتور نقل هذه الكتب الَّتي حدت بجماعة من المسلمين إلى اتخاذها نموذجاً لبحوثهم الإسلامية ظانّين أنّ تجردهم من إسلامهم شرط لسلامة البحث وعلميته كما زعم لهم طه حسين في كتابه (الشّعر الجاهلي) حيث يقول فيه: «يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربِي وتاريخه أن ننسى قوميّتنا وكلّ مشخصاتها، وأن ننسى دينَنا وكلّ ما يتّصل بِه»، مما استفز مشاعرالمسلمين وطالبوا بفصله من الجامعة ومحاكمته.
وبعد تعليقه واستنكاره يستغفر الله تعالى لنفسه وللْقارئ هذه المفتريات الّتي أسهب في شرحها قائلاً: «إنّما قصدت أن أضع بين يدي القارئ جسم الجريمة ليرى رأيَ العينِ طه حسين يحمل أوزاره فوق ظهره، وليطالب النّاسُ المسؤولينَ بكفِّ أذاه إن كان فيهم بقية من غيرة على إسلامهم وعلى شخص نبيّهم الطّاهرالكريم».
ولوتتبّعنا كتبه لوجدنا فيها كثيراً من الانتقادات لطه حسين، بسبب ما ورد في كتبه ومقالاته من دعوة لفتح باب التّطوير في الّلغة العربِية ودراساتها، إلى دعوةٍ لتبديل النّحو والخطّ، ثمّ يُتبِعها بتعليق يبيِّن فيه رأيه.
وفي الحوار الأخير الّذي أجراه معه أنور الجندي، أثناء زيارته لمصر، سأله عن رأيه في كتابات العقّاد وطه حسين الإسلامية، فأجاب بأنّهما لا ينتميان أصلاً إلى المدرسة الإسلامية فكرياً، وإنّما إلى المدرسة الليبرالية المتحررةِالتي تُحَكِّم العقل المجرّد المتحرر من المواريث الفكرية والسّلوكية، وأضاف: لكنّ طه حسين أكثر عنفاً وأكثر جرأةً في معارضة الدّين وفي المجاهرة بما يثير النّاس ويلفت إلى نفسه الأنظار، فقد هاجم أباه فيما كان يتلو من أوراد عقب الصَّلاة وفي الّليل.
لقد كان هذا الحوار قبل وفاة الكاتب محمد محمد حسين بفترة وجيزة، وبذلك يؤمل أن يكون قد وفى بوعده ببذل الجهد في فضح أدعياء «النَهضة والحفاظ على الإسلام» وعلى رأسهم طه حسين.
وفي كتابِه «الإسلام والحضارة الغربية»، تتبّع ما طرأ على الفكر الإسلامي خلال القرنين الأخيرين من تطوّر سلبي، وما أصاب المسلمين بسبب صلتهم بالحضارة الغربية.
بدأ كتابه بتوضيح أنّ الصّراع السّياسي والاقتصادي في العالَم الإسلامي أقل خطراً من الصّراع الفكري والحضاري، موضحا أنّ الظّروف الاقتصادية والسّياسية كثيرةُ التّقلُب سريعة التَبدلِ وآثارها تزول بسرعة، في حين أنّ التغيّر الفكري والحضاري بطيء في سريانه وفي تفاعله، طويل المدى في تأثيره، صعبٌ علاجه، والنّفس تتشربه آناً بعد آن ويسري فيها بطيئاً سريان الغذاء في الأبدان، وليس من السّهل فصل النّاس عمّا ألفوه من عادات وتقاليد وما توارثوه من عقائد.
ثمّ يسرد كيف تمّ الغزو الفكري والثقافي للبلاد الإسلامية، حيث بدأ في عصر النّهضة الأوروبية العلمية والصّناعية في الوقت الّذي كانت الدّولة الإسلامية في حالة تدهور، ثمّ المدّ الاستعماري للدّول الأوروبية وروسيا للبلاد الإسلامية، ممّا ولّد شعوراً بالخطر وإحساساً بضرورة تعزيز الجيوش في البلاد الإسلامية، فتمّ إرسال بعثات إلى الدّول الأوروبية واستِقدام أساتذة وخبراء غربيّين للتدريس في المعاهد العلمية وللتّخطيط للنّهضة الحربية المأمولة، وكان الهدف فقط الحصول على الخبرات العلمية لا الثقافية، ورغم الحرص الشّديد من بعض الحكام، إلا أنّ الثَقافات الغربية غزت البلاد الإسلامية عن طريق ترجمة الكتب الأوروبية في العلوم والفنون، فدخلت أفكار الوطنيّة والقومية والحرّية والنّظريات الثورية والاختلاط والمرأة وحقوقها…
لقد ركّز في كتابه على اثنين من التلاميذ الّذين أثّرت فيهِم البعثات الفرنسية وأصبحا يناديان بتنظيم المجتمع على أساس علمي بدل الدّين، وهما:
1) رفاعة الطَّهطاوي: والذي ظهر في كتب الطَّهطاوي، اهتمامه بالفراعنة وملوكهم وما قدَّموه لمصر، مطالباً بإعادة الآثار الفرعونية التي نُقلَت إلى فَرنسا بحجة أحقّية مصر فيها، فاتجاهه إنّما هو اقتباس من المجتمع الفرنسي بعد الثورة، والذي قضى على الرابطة الدّينية وأقام مكانها رابطة المصلحة الوطنية أو ما سمّاه الطهطاوي (المنافع العمومية) التي تقوم على الحرّية والإخاء والمساواة بين أبناء الوطن الواحد، كما نفى في كتابه (تخليص الإبريز) والذي كتبه في باريس أن يكون الاختلاط والتبرج داعياً إلى الفساد أو دليلاً على التساهل في العِرض وإنّما مردّ ذلك كله إلى التربية، ودافعَ عن رقص الباليه ومراقصة الرجال للنساء حيث وصف: «أن الرقص عندهم فنٌ من الفنون وهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء، والرقص والمصارعة مرجعهما واحد يُعرف بالتأمّل… وهو غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنّه من خصوصيات النّساء لأنه لتهييج الشهوات».
2) خير الدين التونسي: شارك الطهطاوي في الإعجاب بالحرّية، وفي عدم التنبه إلى الأصول العلمانية (اللادينية) التي تقوم عليها، لكنه كان أعمق منه فهماً في تصوُّر حدودها وآفاقها وما يمكن أن يترتب عليها من آثار، كما أشار إلى أنّه كان متأثراً بالناحية الاقتصادية، فانبهر بالشركات ونظام المصارف وأنواع الخدمات التي تؤديها كالإقراض بضمانات وشروط معينة للقيام بمشاريع ضخمة لا يمكن إنجازها عن طريق الأفراد -حسب زعمه- حيث يقول: «فمَن الذي كان يقدر وحده على اصطناع طريق جديد أو يخاطر بجميع ماله»، كما ونادى بوجوب الأخذ بالنظام الديمقراطي الغربي قياساً على وجوب المشاورة.
لقد استفرد في كتابه عدّةَ صفحات لإعطاء أمثلة عمّا نادى به كلّ منهما وهما يحاولان التقريب بين الفكر الإسلاميّ والفكر الغربيّ، والتبرير لما يقوم به الغرب من تصرفات تعارض الدين الإسلاميّ بمبررات واهية تافهة.
وكذلك احتوى كتابه على عرض واسع للأهداف الحقيقيّة للاستعمار من وراء نشر حضارته في البلاد الإسلاميّة والوسائلِ الّتي اتخذوها.
كما تعرّض لذكر أحد معاول الهدم والذي برز كأحد أعلام الإصلاح ألا وهو(محمد عبده) الّذي كان هدفه تطوير الإسلام لكي يوافق الأمر الواقع في حياتنا العصريّة، فهاجم التقليد، وطالب بإعادة النظر في التشريع الإسلاميّ كله من غير قيد، ودعا إلى الاجتهاد فاتحاً الباب على مصراعيه من غير قيد للقادرين وغير القادرين، فظهرت الفتاوى الخاطئَة التي تبيح الإفطار لأدنى عذر، وتبيح الربح في صناديق التوفير، وتزعّم (حزب الإصلاح الحر) في الأزهرخلفاً لأستاذه جمال الدين الأفغاني، يقول صديقه (بْلِنْت، المندوب السامي البريطاني) وهو من المتحررين الذين لا يؤمنون بالمسيحيّة: «أخشى أن أقول إن محمد عبده -بالرغم من أنه المفتي الأعظم- ليس له من الثقة بالإسلام أكثر مما لي من الثقة بالكنيسة الكاثوليكية».
ثمّ يبدي أديبنا رأيه فيقول في كتابه: «إنّ الاجتهاد في حال افتتاننا بالحضارة الغربيّة خطر غير مأمون العواقب، يخشى منه أن يتحوّل -من حيث يدري المجتهد أو لا يدري- إلى تسويغ للقيم الأجنبيّة التي هو معجب بها… فيفتي حين يستفتى وعينه على الّذين يفتيهم، يريد أن يرضيهم وأن يظفربتقديرهم، فيجور على الحقّ إرضاء للخَلْق، ويذهل عمّا عند الله تعجّلاً لما عند النّاس».
كما أنّه لم ينس أستاذ محمد عبده وهو (جمال الدينِ الأفغاني) موثّقا بأدلَة أنّه ليس أفغانيّا سنّياً حسب ما يزعم وإنّما إيرانيّا شيعيّا، أخفى حقيقته حتى يتمكّن من الوصولِ إلى أهدافه الّتي وضعها له الاستعمار والماسونيّة، فهو الّذي أسَّس للجمعيّات السرّية ونشرها مثل (مصر الفتاة) و(الوطني الحر) و(العروة الوثقى) وأنشأ محفلاً ماسونيّاً، وكانت تنقلاته غريبة حيث كان يتّخذ أسلوب التخفي حتى في لباسه متنقلاً بين مضارب الأعراب في مصر وسوريا ونجد يدعوهم إلى الثورة، وكانت له ارتباطات كثيرة بيهود، فأنشأ لهم جمعيّة سرّية أعضاؤها يهود، طبيبه الخاص كان يهودياً اسمه هارون، وكانت مجالسه تضم خليطاً من المسلمين والنصارى واليهود، وكان يفاوض الإنجليز في الوصول إلى اتفاق مع تركيا ضد روسيا، ومع المهدي للاعتراف باستقلال السودان، كلُّ تلك الأساليب الخفية اتخذها وهو يدعو إلى إنشاء الجامعة الإسلامية ليظهر وكأنّه من دعاة إصلاح المجتمع الإسلامي.
وفي رسائل الأفغاني إلى محمد عبده كان كلامه يشبه كلام صوفية الحقائق القائلين بوحدة الوجود، وفي رسائل محمد عبده إلى الأفغاني يظهر وصفه له بما لا يوصف به إلا الخالق جلّ شأنه، وجُرأته على الملائكة والأنبياء، ولم يُذكر اسم محمد عبده في الصحف والمجلات وكتب الكتاب الليبراليين إلا مقترناً بلقب (الإمام) أو يقولوا (سيدنا فلان) أو يُتبعوه في الدعاء (رضي الله عنه).
وللتأكيد على كلامه وثقه بشهادات لمفكرين وشيوخ إسلاميين صادقين ثقة، مثل (محمد الجُنَّبيهي) و(مصطفى أفَندي صبري) والعالِم الأزهري (الشيخ يوسف النبهاني) الّذي وصف في كتابِه «العقود اللؤلؤية» ما دار بينه وبين الشيخ رشيد رضا عن محمد عبده وتركه للصلاة والحج مع الاستطاعة ودخوله للماسونية، وكيف أنّه يوصف بـِ(الإمام) في دين الإسلام وهو من أفسق الفُسّاق بتركه لأركان الإسلام، وكيف أنّ رشيد رضا والباقين يعتبرونه مثل الإمام الغزالي، ويضيف قائلا: «إنّه برسوخ هذا الضلال في نفوسهم، لم يجعل للموعظة أدنى تأثير فيهِم، وإنّهم يجتهدون أن يجعلوا النّاس ضالّّين مُضِلّين مثلهم، ويزعمون أنّهم هم المُصلِحون، ويضعهم الشيخ يوسف النبهاني في جملة الّذين شملتهم الآية: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ) [البقرة 11-12].
ثمّ إنّه أراد أن يوضّح للقارئ كيف أنّه لم يمضِ على موت محمد عبده ربع قرنٍ حتى أصبح الأزهر الذي كان معقِل المعارضة لهما، أصبح ينادي ويحمل لواء التجديد والعصرية، وكيف أنَّ محمد عبده واصل برعاية الأفكار الّتي بذرها الطهطاوي وخير الدين التونسي، ثمّ واصل تلاميذه من بعده القيام بالمهمة وصولاً إلى(سعد زغلول وقاسم أمين وغيرهما).
فبحديثه عن قاسم أمين ذكر أنه حمل لواء إقحام كل مفسدة وفسقٍ على الإسلام بحجة أنها لا تعارضه، فهو أول من جرّأ الناس على تحريف النصوص، حيث جمع بعضاً من النصوص المحرّفة عن مواضعها والمخلوعة عن سياقها وعن مدلولها، وتصيّد من التاريخ ورواياته كل شاذّ غريب ووضعها في حيّز واحد، وضمّها بحيث خُيِّلَ إلى قارئها رغم شذوذها وقلَّتها أنها مألوفة كثيرة الوقوع.
وممّا يدل على وعي الدكتور محمد محمد حسين على الواقع:
أ) وعيه على أهمية الدولة الإسلامية ودورها في رعاية شؤون المسلمين، واعتباره أنّ أقسى وأخطر محنة مرّت على المسلمين في حياتهم هي سقوط الخلافة الإسلامية، يقول في كتابه (أزمة العصر): «قد يبدو الأمر غير خطير إلى حدّ الإزعاج في أعين أبناء هذا الجيل ممن لم يعرفوا الخلافَة الإسلاميَة، وممن يتخيَّلون أنها طراز من الأشكال التاريخية الّتي طواها الزمن، ولكنّ شعور الّذين عاصروا الخلافة، ووُلِدوا في ظلّها وعاشوا في دولتها كان مختلفاً أشد الاختلاف، وكانت في نظرهم وعاءً للإسلام ورمزاً لوحدته، وتحقيقاً لوجوده في قلب الحياة، وكان فزعهم لإلغائها فزع من عاد يوماً إلى بيته الّذي يُؤويه، أو المسجد الجامع الّذي يضمه إلى المسلمين في يوم جمعة أو عيد، فوجده مهدوماً».
وحرصاً منه على كشف المتآمرين الخدّاعين، وضّح ما قام به مصطفى كمال من خداع بطولي بالانتصار، وإجلاء اليونان عن الأناضول عام 1922م وتكبيده لهم خسائر فادحة، واعتبار ذلك عند الأمّة انتصاراً للإسلام على المسيحية، وانخداع أحمد شوقي به وكتابته لقصيدةٍ يُقرنه فيها بخالد بن الوليد ووصفِه إيّاه بـ(خالد التُرك)، وظنّه أنّه جاء ليقيل عثرة الخلافة ويحيي مجد الإسلام، حتى إنّه هاجم في قصيدته الخليفة والمفتي لأنّ المفتي قد أفتى بهدر دم مصطفى كمال، ثمّ تغيُر نظرة أحمد شوقي تجاهه بعد أن انكشف له المستور وبان مصطفى كمال على حقيقته وهدم الخلافة، فقد ارتفع صوته بقصيدة أعنف وأصدق عاطفة هاجمه بها وبكى الخلافة.
ب) وعيه على الاستشراق وأبعاده وخطره على الإسلام: حيث ينبه القارئ إلى أنّ الدراسات التي يُعدّها المستشرقون تهدف إلى دراسة خصائص الشعوب الإسلامية ومعرفة طرق التعامل معها لخدمة المصالح الاستعمارية، فيقول: «من الواجب على المسلمين أن يدركوا إدراكاً واضحاً أنّ البحوث الإسلامية التي يكتبها المستشرقون هي بحوث موجَهة من أجل ذلك (أي من أجل تغيير القيم الإسلامية)، فتمجيد الإسلام في كتب المستشرقين يقصد به خلق جوّ من الاطمئنان إلى نزاهة الفكر الغربي من ناحية، ومقابلة هذه المجاملة من جانب المستشرقين بمجاملة مثلها من جانب المسلمين للقيم الغَربية».
ويقول أيضاً: «إنّ المقصود من الاستشراق هو تفاعل الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، وليس نقل الحضارة الغربية للعالم الإسلامي، حتى يتمّ بِالامتزاج تطوُر للحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي ويصْبِحا شيئاً جديداً مختلفاً عن الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية».
جـ) وعيه على الخطر الّذي يأتي من جانب تبعيّة التعليم في البلاد العربية للمناهج الأجنبية، موضحاً أنّ وزارات التربية والتعليم هي المؤتمنة على أثمن ما تملكه الأمّة من كنوز عقلية وخُلقية، وأنّه لا ريب أنّ اتصال القائمين على الوزارة بالمؤسسات الغربية والتعاون معها هدفهم ابتلاع هذه الأمّة والكيد لها، وتفريق جماعة المسلمين وتشتيت شملهم حتى لا تكون أخلاقهم وأذواقهم ولغتهم وأساليبهم وإسلامهم امتداداً لخُلق وذوق ولغة وأساليب وإسلام الآباء والمسلمين الأوائل، وأعطى أمثلةً على ذلك منها:
– إصدار كتب قراءة جديدة في مصر معتمدة على إهمال اللغة العربية الفصحى فيها، مستبدلة إياها بلهجات عامّية ملتقطة من ألفاظ الأسواق، وحجتهم أنهم لا يقدمون للنشء إلا ما يلائم عقولهم وتفكيرهم، ويتجنبون تكليفهم حفظ ما لا يستطيعون تدبره وفهمه، ثمّ يحمد الكاتبُ اللهَ أن ألغيت بعد أن ثبت فشلها وخطرها.
– إن أعداء الإسلام والمبشرين وسماسرة الصّهيونية كانوا يشنعون بجمود علماء الشريعة الإسلامية وينددون بتخلف الأزهر عن ركب الحياة، وقدّم أحد أعضاء (لجنة التربية الدينية) بوزارة التربية والتعليم اقتراحاً -كان طه حسين قد اقترحه سابقاً ورُفض من قِبَل مدير الجامعة- بإنشاء شعبة للدراسات الإسلامية في كليات الآداب لتخريج مُدرس الدين الإسلامي المرن الذي يستطيع أن يساير الزمن.
– ومن آثار إنشاء هذه الشعبة، بحثٌ تقدمت به إحدى المتخرجات في قسم اللغة العربية بجامعة الإسكندرية للحصول على درجة الماجستير عام 1965م وموضوعه «دراسة في أصوات المدّ في التجويد القرآني»، احتوى البحث على نصوص فاسدة منحرفة منها:
1) إن القرآن الذي يتعبد به المسلمون ليس منزلاً من عند الله، أو هو منزلٌ من عند الله بمعناه لا بلفظه.
2) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يغيّر ويبدل في النّصّ القرآني حسب الظروف وكذلك كان يفعل الصحابة.
3) إن المسلمين لم يتفقوا على نصٍّ موحدٍ للقرآن، وأن كل ما وصلوا إليه هو شيء يشبه النّصّ الموحد، وبذلك تهدم فكرة التوقيف في قراءة القرآن وبالتالي عدم تواتره واتصاله برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
رغم ما حوى البحث من أحكام تستخف بعقائد المسلمين ومقدساتهم، إلا أن المشرف على البحث كتب تقريراً يؤكد سلامة البحث وصلاحيته للمناقشة، وبعد المناقشة وبالرغم من اعتراض أحد الأساتذة عليه إلا أن لجنة المناقشة قبِلت البحث ومنحتها درجة الماجستير بمرتبة جيد جداً، مع اشتراط عدم طباعته إلا بعد التعديل لبعض أجزائه، ما أدى إلى اعتراض أحد الأساتذة والطلب من مجلس الكلية التمهل في الموافقة حتى تتم مراجعته، وبعد عرضه على الدكتور محمد محمد حسين الذي لم يكن حاضراً للمناقشة هاله ما ورد فيه، فتقدم بمذكرة إلى مدير الجامعة يطالبه بالتوقف عن توثيق قرار لجنة المناقشة، وبإبراء ذمته من البحث وتبعاته وإخراج الجامعة من مظانّ الشبهة واعتبار البحث كأن لم يكن، أو إحالته إلى لجنة من المتخصصين في جامعة الأزهر التي لها وحدها جهة الاختصاص، وهذا الأمر كان السبب في تعرض الكاتب للهجوم والتشنيع والتغرير به للدولة، واتُهم بإضاعة كرامة العلم والعلماء، إلا أن ذلك لم يؤثر في صموده ومواصلة طلبه بردّ البحث إلى أن تمّ له ذلك.
د) وعيه أيضاً على مكمن الخطر في علم الآثار على الإسلام: حيث بيّن أنّ هذا أسلوب خبيث يتمّ فيه بعث التّاريخ السّابق على الاسلام في كلّ بلد من البلاد الإسلامية لتلوين الحياة المحلية في كلّ بلد بلون خاص يستند إلى أصول الجاهلية الأولى مما يؤدي إلى الفرقة والتشعب والتفكك بعد الوحدة الإسلامية، مذَكِراً بِما تبرع به الثري الأميركي الصَّهيوني (روكفلر) حيث تبرع بعشرة ملايين دولار لإنشاء متحف للآثار الفرعونية يُلحَق به معهد لتخريج المتخصصين في هذا الفنّ، ويعزي هذا التّبرع السّخي إلى مصالح صهيونية بعد حصولها على وعد بلفور، والذي لا يمكن تنفيذه بإنشاء الوطن اليهودي إلا وسط هذه النّعرات الإقليمية المفَرِّقة، لأنّ الوحدة تحول دون اغتصاب هذه القطعة الغالية، ولأنّ تطبيق هذا الاتّجاه في فلسطين والاهتمام بالتاريخ السّابق له يفتح للصّهيونية ادّعاء الحقّ في هذا الجزء من أرض الوطن.
هـ) وهو حينما يتكلّم عن الشّيوعية يبيّن: «إنّها تهبط بالنّوع البشري وتهوي به إلى الحيوانية؛ لأنّها تحصر أهداف الإنسانية في إشباع البدن وتقسيم الأرزاق، لكنّها لا تعالج الشقاء الناتج عن الحيرة الرّوحية والقلق النّفسي المُلّح الذي يعجز عن تذوُق بهجة حياة يهدّدها العجز والمرض وليس وراءها إلا الضياع المطلق بعد الموت».
و) وفي حديثه عن التّغريب يبيّن أنّ من آثاره:
1- الدّعوات إلى العالمية أي إلى جمع النّاس على مذهب واحد تزول معه خلافاتهم الدّينية والعنصرية لإحلال السّلام في العالَم محل الخلاف، وهي دعوات هدّامة تشكّك النّاس في ولائهم الدّيني وتتركهم في فوضى وقلَق وسط أنقاض ما هدّمت من عقائد وما قطّّعت من وشائج.
2- التّوفيق بين الأديان وبين المسيحية والإسلام على وجه الخصوص، حيث بدأ هذا التّوفيق باتّفاق قسّيس إنجليزي اسمه (اسحق تيلور) مع الشّيخ محمد عبده وبعض صحبه في أثناء نفيه بالشّام عام 1883م ثمّ ظهرت من جديد حين قام جماعة من المعروفين بميولهم الصّهيونية بعقد مؤتمر للتأ ليف بين الإسلام والنّصرانية في بيروت عام 1953م ثمّ الإسكندرية عام 1954م.
3- الصلة بين الإسلام والقومية: فقد وضّح الكاتب أنّ القرآن هو الّذي حافَظ على اللغة العربية، وذلك ردّاً على من يشكّكون بالصّلة بين العروبة والإسلام ويزعمون أنّ الإسلام ليس عنصراً أصيلاً في مقوّمات العروبة، وغيرهم أرادوا أن يُعَرّوا الإسلام من صفته العربية، هذه الدّعوة ظهرت بالدّعوة إلى الجامعة العربية مرادفة للجامعة الإسلامية.
إنّ هذا الاستعراض لبعض ما ورد في كتب محمد محمد حسين، ما هو إلا استعراض مجملٌ، وبِالرجوع إلى الكتب الّتي ألَّفَها، فإنّ فيها شُروحاتٌ مسهَبة لكلّ حادثة أو مؤتمر أو خديعةِ توصل القارئ إلى حقيقة ما خفي من أهدافٍ هدّامةٍ فعلاً تُخفي وراءها معاول هدمٍ عديدةٍ ومتنوعة.
ومما يلاحظ في كتبه ومقالاته تكراره لبعض المواضيع في أكثر من كتاب، بل في أكثر من موقع في كتاب واحد، ويُعزي لنا سبب ذلك في قوله في كتاب (أزمة العصر) عن أعداء اللغة العربية في تكرارهم ما بدؤوا به دون إضافة جديد إليه أنّهم يعتمدون في أسلوبهم على أنّ النّاس إذا تكرر سماعهم للباطل أوشكوا أن يصدِّقوه؛ لذلك هم يكررون القول حيناً بعد حين؛ لذلك يرى أنّه كان فرضاً لازماً على أصحاب الحقّ أن لا يملوا من تكرار الردّ عليهم ركوناً إلى أنّهم قد أذاعوه من قبل حتى لا تنفرد دعايتهم المفسدة بالشباب فتستأثر به ثمّ لا تجد ما يُصححها وينتشلها من البلبلة والتمزق والحيرة.
هذا هو الأديب محمد محمد حسين الّذي وصفه زملاؤه بالصّدق والأمانة وكرم النّفس:
أولاً: شهد له الدّكتور محمد بن سعيد بن حسين، زميله في كلّية الّلغَة العربية بالرّياض وهو يمدح فيه جرأَته في طرح المواضيع يقول: «والنّاظر إلى كتبه بلا استثناء يجد أنّها جميعاً من الموضوعات الّتي تهَيَََّّبَ ميدانها كثيرون، أو أنَها من الموضوعات ذات الحساسية في الميادين الفكرية».
ثانياً: تكلم الدّكتور إبراهيم عوضين عن إبداعه في النّقد فقال: «المبدِع في نقد الدّكتور محمد محمد حسين أنّه يأتي بالدّليل الحاسم في قوّة، فليست بحوثه ذبذباتٍ عاطفيةٍ تعتمد على الضّجيج الخطابِي، ولكنّها ثمرة فكرٍ عاقلٍ يؤمن بالحجّة ويعتصم بالدّليل».
ثالثاً: كذلك اعتبره الدّكتور أنور الجندي، الّذي عرفه لمدة عشرين عاماً وهما في مواجهة التّغريب والغزو الفكري، اعتبره واحداً من حملة لواء أسلمة الأدب والثّقافة في كلِّية الآداب، وتحريرها من الزّيف والسّموم الّتي صبغها بها طه حسين وشيعته وردّ للإسلام اعتباره.
رحم الله الكاتب الرّائد المخْلِص وجعل ذلك في ميزان حسناته، فقد وُجد في زمن عزّ فيه الواعون على الواقع، المدركون للمفسدين والمفاسد، ولكنهم لم يملكوا من الجرأة الكافية كالتي امتلكها هو في الصدع بالحق، فكان بحقٍ جديراً لأن تُسطَّر له هذه الإشادة بإخلاصه وجهوده.
2010-09-17