الفكرة الإسلامية لا تنفصل عن القتال ولا عن النضال
1988/04/17م
المقالات
2,535 زيارة
بقلم: هيثم بكر
يسهب المفكرون والكتاب في الآونة الأخيرة، وذلك في المنطقة العربية بشكل خاص، في الحديث عن عدالة الإسلام وسماحته، ويركز هؤلاء الكتاب على اختلاف مللهم ونحلهم واتجاهاتهم على معاني المحبة والتسامح، وعن أن الإسلام إنما هو دين السلام والطمأنينة، والأخلاق الرفيعة والرحمة، وما إلى ذلك من المعاني الرقيقة.
يسهب المفكرون والكتاب في الآونة الأخيرة، وذلك في أقطار المشرق العربي كله، من الحديث عن عدالة الإسلام وسماحته. ويلاحظ القارئ المسلم في المنقطة تركيزاً متزايداً من الكتّاب على اختلاف مللهم ونحلهم واتجاهاتهم على معاني التسامح والمحبة في الإسلام، وعن أن الإسلام إنما هو دين السلام والطمأنينة، والأخلاق والمحبة، وما إلى ذلك من المعاني الرقيقة.
ولعل السبب الذي يدفع كتاب اليوم إلى التركيز على هذا الجانب أحد أمرين:
رد على الطعون
أولاً: الهجمة العاتية من الإعلام العالمي على المسلمين، وخصوصاً الملتزمين منهم (والذين يسميهم الغرب “أصوليين“)، واتهامهم بالإرهاب. ولقد اشتد أثر هذه الهجمة في الرأي العام الغربي ـ وحتى في بلاد المسلمين، حتى غدا “الإرهاب” و”الأصولية” وجهان لعملة واحدة في نظرهم، كما عند الغرب، بشكل أو بآخر، على التركيز على هذه الجوانب، فصور الإسلام بأنه دين القتل وسفك الدماء والبربرية. وقد كان للكثير من التصرفات المشبوهة الأثر الكبير رسم هذه الصورة عند الغربيين، مثل مبادرة بعض الجهات المجهولة، والتي تدعي العمل الإسلامي، إلى إعلان مسؤوليتها عن حوادث خطف أو قتل أو تفجير، وما إلى هنالك.
وقد دفعت هذه الهجمة على المسلمين الغيورين على دينهم إلى محاولة الرد على الطعون التي وجهت إلى الإسلام. فبادر مفكرو المسلمين وكتابهم، وممثلو الهيئات فيهم، بادر كل هؤلاء إلى إعلان براءة الإسلام من أعمال القتال والخطف بكافة أنواعه، وغالى بعضهم في ذلك، فقال إن الإسلام أساساً جاء يدعو إلى السلام، وأعاد الفكرة الحديثة التي تقول إن الجهاد حرب دفاعية، وأن نظام الحكم فيه ديمقراطي. وبعبارة أصح، سعى أقطاب المسلمين إلى محاولة إرضاء الغرب، وإعطاء الصورة التي ترضي الغرب عن الإسلام وأحكامه.
“إسلام الدروشة”
ثانياً: انتشار الدعوات المضللة والتي تسمى نفسها مجددة. وقد كان من أثر هذه الدعوات في القرنين الأخيرين أن تغيرت الصورة الحقيقية للإسلام عند المسلمين وتحول من منهاج حياة كامل إلى مجموعة نصائح تتناول الأخلاق والعبادات وما إلى ذلك. وبرز عند أصحاب هذه الدعوات عدم الإيمان “بإسلام الحكم والسياسة والجهاد والاجتماع… الخ”، بل ومحاولة طمس هذه الصورة عند المسلمين، واستبدالها بصورة “إسلام الدروشة والأخلاق والعبادات”. ودعوا إلى اتخاذ الديمقراطية والنظام الحرّ منهاجاً للحياة بدل الإسلام. وتجاوز هؤلاء كل التاريخ الإسلامي، وقالوا إن الواقع اليوم يقتضي تطوير الإسلام، لأنه ـ أي الإسلام ـ لا يشتمل على أحكام كافية، بل إنه سكت عن معظم الأحكام. وما أحكام السياسة والاقتصاد التي كانت تطبق على المسلمين طوال اثني عشر قرناً إلا قوانين اقتضتها ظروف العصر القائمة حينذاك.
وإذ انتشرت بين المسلمين في الآونة الأخيرة الفكرة الصحيحة القائلة بأن الإسلام منهاج حياة متكامل من السياسة حتى المطعومات، وعادت بعض أفكار الحرب والسياسة إلى أذهان المسلمين، وظهرت كثير من الأحزاب والاتجاهات الإسلامية التي تنادي باتخاذ الإسلام كاملاً بدل القوانين الحالية، لما تفاقمت هذه الدعوات، انبرى كتاب الديمقراطية يتصدون لها، وللفكر الإسلامي.
ولسنا الآن في صدد مناقشة كل تفاصيل الدعوات التي تقوم على صفحات الكتب والمجلات وفي وسائل الإعلام كل يوم، وإنما يلفت نظرنا القول المشهور هذه الأيام: الإسلام دين السلام، ومحاولة الربط لغوياً بين اللفظتين.
لفظتان متغايرتان
إن “الإسلام” غير “السلام” قطعاً. وإنما جاءت لفظة “الإسلام” من التسليم“، كما في قوله تعالى: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)، وقوله تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِ)، وقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) وقوله: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). و”الإسلام” من “أَسْلَمَ” أي خضع واستسلم، وهذا غير السلام.
والإسلام يأمر بطاعة الله عز وجل والانقياد له في كل ما أمر، سواء وافق الغربيين أم لم يوافقهم وسواء أخذوا عنه فكرة السلام أم فكرة الحرب. وإنما الأمة الإسلامية تدعو إلى الدخول في عبادة الله عز وجل وطاعته فيما أمر، ولا تدعو إلى السلام.
والفكرة الإسلامية هي العقيدة الإسلامية وما هو متعلق بها من حيث اعتناقها وحمل دعوتها وحمايتها وقيامها في سلطان وحماية هذا السلطان، وبقاؤه قائماً عليها وعلى تنفيذها حسب أحكام الطريقة. وهذه الكفرة الإسلامية إذا أُمعن النظر فيها، ودُقق في النصوص الشرعية التي جاءت بها، والأحكام الشرعية التي تُستنبط منها، فإنه يظهر بوضوح أن النضال والقتال هو سرّ حياتها، وأنها لا تنفصل عن القتال ولا عن النضال بحال من الأحوال.
طريقة لحمل الدعوة
فالعقيدة الإسلامية تحمل إلى العالم بالجهاد، وهو القتال. فالجهاد هو الطريقة الشرعية لحمل دعوة الإسلام خارج نطاق الدولة الإسلامية التي ليس لها حدود بل ثغور. فالأمر جاء بالقتال من أجل اعتناق الناس لها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّه وحسابهم على الله». ويقول الله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). وآيات القتال لا حصر لها ولا عدّ، وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حافلة بالغزوات، أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يشن الغزوات ابتداءً، ويدعو من يغزوهم إلى خصال ثلاث: إما الإسلام، وإما الجزية وإما الحرب. وهذا ما فعله صحابته الكرام من بعده، ففتحوا بلاد الإسلام حتى امتدت من الصين إلى فرنسا.
وإنما الأمة الإسلامية أمة نضال وجهاد، همها الأول والأخير إرضاء الله تعالى وإعلاء كلمته، ورفع راية الجهاد. وإنما الجهاد فرض، يأثم المسلمون إن قعدوا عنه. وهذا ما يجعل الأمة الإسلامية مرهوبة الجانب، ويوجد لها وللإسلام هيبة ووجوداً على الساحة الدولية، وبالتالي يلفت النظر لها ولدعوتها.
هذا، ولم يكن تاريخ الأمة الإسلامية تاريخ دعوة إلى السلام والأخلاق، إنما كان تاريخها تاريخ فتوح وغزوات، وجهاد في سبيل الله لا يتوقف، ونضال في خدمة الإسلام والدعوة إليه والحرص عليه وتعلم وتعليم أحكامه لا يهدأ. وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلا بعد أن قعدوا عن الجهاد والنضال، وركنوا إلى الحياة الدنيا، وأصابهم الوهن الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم: «حب الدنيا وكراهية الموت».
للحفاظ على العقيدة
كما جعل الإسلام القتال والقتل طريقة للحفاظ على العقيدة الإسلامية، وحمايتها وصونها، ومنع الدعوات التي تنقضها. وهذا أمر مصيري في الإسلام، فليس المجال مفتوحاً لدعوات الضلال تحت حكم الإسلام. فجعل الإسلام القتل وحده جزاءً لمن يرتد عن الإسلام بعد إذ عرف طريق الهدى، أي جزاء من يكفر بالعقيدة الإسلامية أو في أي فكر من أفكارها القطعية. فمن كفر بعد إسلام فجزاؤه القتل. قال صلى الله عليه وسلم: «من بدّل دينه فاقتلوا» وروى أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قضى بأن من رجع عن دينه فاقتلوه» فجعل القتل طريقة حماية العقيدة الإسلامية ممن يعلن الكفر بعد الإسلام، لأن إعلانه يشكل تهديداً كبيراً ودعوة خطرة، حيث يستباح دين الله تعالى على رؤوس الأشهاد.
ولضمان تطبيق الإسلام
والقتال أيضاً هو سبيل تقويم الحكام في الإسلام إذا أظهروا الكفر البواح. فهو الطريقة لمنع الحاكم من أن يحكم بأحكام الكفر إذا سوّلت له نفسه ذلك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» قيل يا رسول الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»، أي ما أقاموا فيكم دين الله، وكنى بالصلاة عنه وهو يعني ما حكموكم بحكم الإسلام، وفي رواية «قالوا أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلّوا»، وفي رواية أخر «قالوا ألا نقاتلهم يا رسول الله، قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة»، وكلها كناية عن إقامة أحكام الشرع. وعن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان»، وهو أمر بمنازعة الحاكم إذا رأيتم كفراً بواحاً، وفي رواية «كفراً صُراحاً» (بضم الصاد)، وفي رواية أخرى «إلا أن تكون معصية الله بواحاً». وكلها تعني أن يحكم بأحكام الكفر أو يترك أحكام لشرع. أي أن التمرد على الحاكم ومنازعته وقتاله هو الطريقة لمنعه من الحكم بالكفر، وإلزامه بالتزام أحكام الشرع.
الكفاح السياسي
وقد جاء في الأحاديث أمر بمنازعة الحاكم الظالم (دون قتاله) لردعه عن الظلم، ولإبلاغه كلمة الحق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فنصحه فقتله»، وقال: «أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر». أي أن الحاكم إذا جار وظلم فيجب النضال والكفاح لمنعه عن ذلك حتى الموت، ويجب قول كلمة الحق لردعه عن ظلمه دون أن يُخشى في الله لومةُ لائم. والكفاح السياسي من أهم أعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي به الإسلام. فالحديث الأول يعتبر من يقتل لنصحه الحاكم الجائر شهيداً، والثاني يعتبر علمه جهاداً بل أفضل الجهاد. وإن رفع الظلم وقول الحق هو من أوليات الفكرة الإسلامية.
وحدة الأمة
والقتال هو السبيل الوحيد للمحافظة على وحدة الأمة الإسلامية، ومنع تجزئتها وتفرقتها. قال صلى الله عليه وسلم: «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»، وقال: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه» فكل من يحاول تجزئة الدولة الإسلامية وتفرقة الأمة، بأن يتمرد على الخليفة (البغي)، أو أن يوجد سلطاناً آخر، أو أن يدعو بالخلافة لنفسه فإن على المسلمين قتله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». فالقتال سبيل المحافظة على وحدة الأمة الإسلامية، وضمان عدم تجزئتها. وحماية سلطان الإسلام ووحدة المسلمين لا تنفصل عن القتل والقتال، ووحدة هذا السلطان ووحدة الأمة الإسلامية من صميم الفكرة الإسلامية.
لا بد من القتال
هذا، ولسنا ندعو إلى سفك الدماء والإهاب والقتل فيما لا طائل تحته، إنما ندعو إلى التزام أحكام الشرع الإسلامي. فالإسلام ليس دين السلام بمعنى الخنوع والذل، ولكنه دين لا بد له من سلطان ودولة حتى يوجد في واقع الحياة، والسلطان قوة، وهذه القوة هي بالقتال. فالقتال من صميم الفكرة الإسلامية وحكم شرعي لا يمكن فصله عن الإسلام. والأمة الإسلامية تتحلى بروح عسكرية تجعلها أمة مرهوبة الجانب، وهي دوماً في حالة تأهب وإعداد.
وبعد، فليس الإسلام دين الاستكانة والركون لنعيم الحياة الدنيا، والأمة الإسلامية ـ وفي الحقيقة أية أمة من الأمم ـ لا تركن للحياة وإلا تكالب عليها الأعداء وتحكّموا فيها، واستباحوا أهلها وخيراتها. وهيهات للأمة أو لأي فرد منها العيش الكريم دون السلطان الذي يحمل دعوتها، فإنها إذا لم تتمدد فإنها ستنحسر، وإذا لم تغزُ فإنها ستغزى. فلماذا لا نناضل، ولماذا لا نقاتل، ونتيجة ذلك الجنة التي وعد الله المتقين، أو العزة والسؤدد في الحياة الدنيا؟
(قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ).
1988-04-17