وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
1994/06/17م
المقالات
1,844 زيارة
بقلم: محمد الشويكي عن جريدة «النهضة» المقدسية
كثر الكلام في العقدين الأخيرين عن ما يسمى بالسلام حتى صار لغة السياسيين وهدف الحكام وشغلهم الشاغل، فانطلقوا يمنه ويسرة في الحديث عنه لإقناع الشعوب الإسلامية بمشروعيته، وإنه إنما تنال الشعوب حقوقها عن طريقه، حتى صار المتكلم عن الحرب منبوذاً متطرفاً، والمتكلم عن السلام مقبولاً معتدلاً.
وراحوا يتلمسون الحجج والبراهين على صدق وصحة زعمهم بآيات من كتاب الله (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) ومن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- في «صلح الحديبية»، وصلح الرملة لصلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين. أما الآية فلا تنطبق على ما يزعمونه ويدْعون إليه، لعدة أسباب منها:
أولاً: أن السَّلم الوارد في الآية هو بمعنى الصلح والمهادنة والموادعة لأجل، وليس السلام المنشود في هذه الأيام (الشامل والدائم).
ثانياً: أن هذه الآية متعارضة مع قوله تعالى: (فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ).
ثالثاً: العمل بهذه الآية هو فقط في حالة ضعف المسلمين وعدم القدرة والإمكانية على حرب ومقاتلة الكفار، وهذا هو قيد المنع.
أما إن كانوا قوة ومَنَعة فلا صلح…
وأظن أن المسلمين اليوم بلغ عددهم أكثر من ألف مليون نسمة وعندهم من العُدة ما يكفيهم لاسترداد فلسطين وغير فلسطين مما يجعل الصلح مع الكفار حراماً في حقهم.
أما بالنسبة لصلح الحديبية فلا يصلح دليلاً لهم، على زعمهم بجواز السلام مع اليهود، لعدة أسباب أيضاً:
أحدها: أن صلح الحديبية كان بين دولة إسلامية وكفار، أي أنه كان للمسلمين كيان ودولة وأمير جيش، وهذا مفقود في زعماء العرب فليسوا من الأمة ولا دولهم دولة إسلامية وقد نُصِبوا حكاماً عَنوة وغصباً. وبالتالي ليسوا مخولين بأن يسالموا أعداء الأمة وأن يتنازلوا لهم عن أرض المسلمين.
ثانياً: أن صلح الحديبية كان صلحاً مؤقتاً لمدة عشر سنوات وليس سلاماً دائماً، إذ في السلام الدائم يُلغى فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. ثم بذلك ترفع الأسلحة من أيدي المسلمين وتوضع بأيدي الكافرين.
ثالثاً: ليس في صلح الحديبية تنازل عن مقدسات ولا عن دماء شهداء، وليس فيه تنازل عن حيفا وعكا وصفد، لأن السلام الدائم يقتضي عدم المطالبة بهذه المدن.
رابعاً: ليس فيه اعتراف بأحقية اليهود على أرض المسلمين كدولة وككيان.
خامساً: صلح الحديبية كان عَرَضاً وليس أصلاً ينادى له ويدعى إلى تطبيقه، والدليل على ذلك أنه لم يدم لمدته بل لمجرد نقضه منهم انقضّ المسلمون على المشركين الذين وادعوهم، وكان فتح مكة ولم يكن دعوة إلى الحفاظ على الصلح.
سادساً: لم صلح الحديبية، برعاية فارس والروم، ولا برعاية هيئة الأمم ولا مجلس الأمن، ولا بشروط أميركية أو أوروبية ولم يكن المسلمون في تلك المعاهدة أدوات تحركها أوروبا لمصلحتها تارة وأميركا تارة أخرى، فما يسمى بالسلام اليوم ما هو إلا استسلام وخضوع وخنوع وذلة وتنازل وبيع لم يحصل أن فعلته أمة الإسلام على مر عصورها. وهذا مدعاة للشك والريبة بحكام وزعماء هذا العصر.
أما بالنسبة لصلح الرملة الذي عقده صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ فقد كان كذلك لمدة معينة لا تزيد على ثلاث سنوات وثمانية أشهر على ما جاء في تاريخ ابن الأثير. ولم يكن صلحاً دائماً.
ثم أن تلك الهدنة لم تكن أصلاً سعى إليها صلاح الدين الأيوبي كما يفعل زعماء اليوم. بل كانت بعد فتح القدس واستردادها من الصليبيين. فحصل عند الجيش ضجر وملل وقلة سلاح، ونفقة. فكان هذا سببها. وبالتالي فهذا الواقع غير موجود بين المسلمين واليهود حتى نجيز الصلح معهم عملاً بصلح الرملة.
ثم أمر آخر لا بد من معرفته وهو أن أفعال الناس من أمراء وعلماء بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإجماع صحابته، ليست حجة إنما الحجة ما جاء عن طريق الوحي وهو ما في كتاب الله، وسنة نبيه وإجماع الصحابة والقياس. ففعل صلاح الدين على فرض أنه موافق لواقعنا لا يعتبر أصلاً نحتج به ولا دليلاً نعتمد عليه بل هو اجتهاد له رحمه الله. وقد علمت واقعه.
فإذا كان الأمر كذلك فمن باب أولى أنه لا يجوز أن نحتج بثورة ماو ولا بفيتنام ولا بغيرها من أفعال الكفار، ومن يقول بذلك ويحتج به فهو دجال خبيث مخالف لأحكام الشريعة.
فإن قالوا: بأن هذا السلام مبني على فكرة «خذ وطالب» قلنا: هذه الفكرة قد تنفع في الأمور التافهة، بينما الأمور المصيرية كاعتراف بدولة على أرض المسلمين فلا.
ثم هذه الفكرة تخالف الواقع وتخالف الشرع، أما مخالفتها للواقع: فإن المطروح على الساحة هو سلاح دائم بمواثيق دولية مقابل حكم ذاتي على أرض ما بعد عام 67، أما ما قبل 67 كحيفا ويافا واللد والرملة وعسقلان وصفد وغيرها من مدن فلسطين فيسأخذون من المسلمين «طابو» بهذه الأرض مسجلاً باسمهم، أي أن هذه الأرض لهم، فكيف يمكن بعد ذلك أن نطالب بإخلائها منهم. فهذا الأمر غير متصور إلا بجيش كجيش المعتصم، وبقائد كصلاح الدين.
وهل هذا يمكن أن يكون لحكم ذاتي هزيل أو حتى دولة فلسطينية هزيلة، فها هي دويلات العرب التي تبلغ مساحتها أضعاف مساحة الحكم الذاتي بمئات المرات، وأهلها أضعاف أهل فلسطين وإمكانياتها أضعاف إمكانيات شعب فلسطين من حيث الجيش والسلاح، فماذا فعلوا؟ إنهم خاضعون (لبساطير) الاستعمار، فلن يكون الحكم المنتظر في فلسطين بأفضل منذ لك بل هو أسوأ. وأبرز دليل على ذل ما حصل مع العراق حينما حاول استرداد الكويت وماذا فعلت المواثيق الدولية.
أما مخالفة هذه الفكرة للشرع، فإن القبول بها يعني القبول بمبدأ الحل الوسط، ولا حل وسط في الإسلام، أما الحق وأما الباطل ولا ثالث لهما (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ).
فهذه الفكرة من شأنها تخدير الأمة، وإيهامها بأن الأمر لمصلحتها، وأن هذا السلام الدائم مشروع عقلاً وشرعاً، وهذا وهم ودجل.
فالذي يتنازل مرة يتنازل ألف مرة، والذي يخون مرة يخون ألف مرة، والذي يبيع مرة يبيع ألف مرة.
وخلاصة القول أن ما يسمى بالسلام بين العرب واليهود، أو بين المسلمين واليهود في هذه الأيام يعد جريمة من أكبر الجرائم التي ترتكب في حق الأمة والشعب، وأن فاعله لن يفلت من نقمة الأمة ولا من عذاب الله يوم القيامة. وأن كل من يؤيده يعتبر شريكاً في هذه الخيانة وهذه المؤامرة.
1994-06-17