محمود عبد اللطيف
السؤال:
عرف المسلمون في تاريخهم الطويل وظيفة كان يطلق عليها (الحسبة)، وأن الذي كان يتولاها يسمى المحتسب، أو قاضي الحسبة، ولا نجد هذه الوظيفة في دولنا المعاصرة. فهل لكم أن تعطونا فكرة عن هذه الوظيفة في دولة الإسلام، وأن تذكروا لنا أعمال المحتسب على وجه التفصيل؟
الجواب:
نعم عرف المسلمون في تاريخهم الطويل وظيفة كان يطلق عليها (الحسبة)، وهذه الحسبة كانت نوعاً من أنواع القضاء في الدولة الإسلامية، ذلك أن القضاء في دولة الخلافة ثلاثة أنواع هي قضاء المظالم والقضاء العادي وقضاء الحسبة، وكان كل قضاء مختصاً بجانب من مشاكل الرعية، ونبسط الحديث في قضاء الحسبة فنقول ما يلي:
قضاء الحسبة هو القضاء الذي يعالج المشاكل الواقعة في الحياة العامة، أي يعالج قضايا الحقوق العامة التي ليس لها مدّعٍ، وهذا القضاء يساهم مساهمة رئيسية في صياغة الحياة العامة في دولة الخلافة، صياغة إسلامية بحتة بعيدة عن المنكرات والمعاصي، فهو قضاء بالغ الخطورة والأهمية، ولهذا كان هذا القضاء يُتخيّر له الرجال الذين يتحلون بالعديد من الصفات والمزايا، وقد عرّفوا الحسبة تعاريف عدة أذكر منها: «المحتسب هو القاضي الذي ينظر في جميع القضايا التي هو حقوق عامة ولا يوجد فيها مدّعٍ، على أن لا تكون داخلة في الحدود والجنايات» وقال صاحب الأحكام السلطانية: «قضاء الحسبة أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه ونهى عن المنكر إذا ظهر فعله» وقال الغزالي: «هو كل منكر موجود في الحال ظاهرٍ للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد»، فهو جهاز من أجهزة الحكم الإسلامي مهمته نشر الخير والمعروف ومنع الشر والمنكر من الظهور والشيوع، ولخطورة هذا الجهاز وأهميته فإن من يتولى هذه الوظيفة ينبغي أن يتصف بالصفات التالية: أ- أن يكون عدلاً تقياً ورعاً. ب- أن يكون قوياً صارماً خشناً في الدين. جـ- أن يكون فقيهاً عالماً بالأحكام الشرعية. ويضيف عدد من الفقهاء صفات إضافية للمحتسب فيوجبون أن يتصف بالوجاهة والنبل والانتماء إلى أصول كريمة.
أما أعمال المحتسب على سبيل الاستقصاء والتفصيل فهي ما يلي:
أ- مراقبة الأسواق من حيث منع الغش والاحتكار والتدليس والغبن في المعاملات التجارية والنظر في الموازين والمكاييل والمقاييس التي يتعامل بها الباعة، ومراقبة أسعار السلع والحاجات، والحيلولة دون تمكين التجار من عرض بضائعهم في طرق الناس، ومراقبة أعمال الصحافيين والصاغة والحيلولة بينهم وبين التلاعب بالنقود الذهبية والفضية والحليّ، أو الوقوع في عمليات الربا، وتفقد المقاهي والنوادي ومنع القمار وشرب المسكرات وتعاطي المخدرات فيها وهذه الأعمال كثير منها تتولاها البلديات ومجالس القرى في زمننا المعاصر.
ب- مراقبة المساجد من حيث الاهتمام بنظافتها ووجود المصاحف فيها، ومراقبة الأئمة والمؤمنين عند أداء أعمالهم، وحيث الناس على أداء صلاة الجماعات فيها، ومنع الصور والزخارف فيها حتى لا ينشغل المصلون بالنظر إليها، ومنع المشاجرات وارتفاع الأصوات فيها، وهذه الأعمال كثير منها تتولاها وزارة الأوقاف في عصرنا الراهن.
جـ- تفقد أحوال الرعية من حيث إلزام النساء المسلمات والذميات باللباس الشرعي في الحياة العامة، وستر العورات والضرب على أيدي العابثين والفساق من التحرش بهن، ومنع الاختلاط في المواطن التي ينبغي فيها انفصال الرجال عن النساء كبرك السباحة وشواطئ الأنهار والبحار، والفنادق والمنتزهات والملاعب، وهي المسماة في عصرنا الراهن بالآداب العامة.
د- الإشراف على السير في الطرقات، والنظر في صلاح الطرق والجسور والترع، وتنظيم سير المركبات، وتنظيم حركة السفن في الموانئ، ومنع المخالفات، وضبط عمل وسائط النقل بحيث تسير المركبات، وينتقل الركاب بسهولة ويسر وأمان، وهي المسماة في عصرنا الراهن بقوانين وأنظمة السير التي تشرف عليها الشرطة.
هـ- الإشراف على الصيدليات وعيادات الأطباء والمخابز والمطاعم ومصانع الأغذية وإلزام أصحابها بالنظافة ومنع الغش، وأداء الأعمال بحسب تقوى الله سبحانه، وهي المعطاة حالياً لوزارة الصحة.
وباختصار أقول أن عمل المحتسب هو منع المنكرات حيثما وجدت، وجعل الحياة العامة في دولة الخلافة مصبوغة بالصبغة الإسلامية البحتة، فلا يتجول فيها السياح بملابسهم الكاشفة عن عوراتهم، ولا يعرض أهل الذمة خمورهم وخنازيرهم أمام المسلمين. ولا تدق نواقيس الكنائس دقاً عالياً خاصة أثناء أداء المسلمين لصلواتهم، ولا تلقى القمامة في الطرق وقرب البيوت، وغير ذلك كثير.
وينبغي أن يوضع تحت تصرف المحتسب عدد كاف من أفراد الشرطة يتولى بواسطتهم تنفيذ العقوبات التي يقضي بها فوراً عند حصول المشكلة، فالمحتسب يقضي في المشاكل فور مشاهدته لها دون إمهال، ولا يحتاج في القضاء إلى مجلس قضاء، بل يقضي في المشاكل في الطرق وساحات الحياة العامة، وللمحتسب أن يعفو كما له أن يوبّخ ويعنّف، وله أن يجلد، وله أن يصادر المال، وله أن يتلفه، وله أن يسجن، وهو ينفذ جميع العقوبات باستثناء عقوبات الحدود كقطع يد السارق ورجم الزاني، والجنايات كالقتل والجراح، ولا يحتاج المحتسب في كل ما يقضي إلى وجود دّعن بل يقضي بمنع المنكر فور رؤيته له في الليل وفي النهار، ويعاقب المخالفين والعصاة بشتى أنواع المخالفات والتعزير، وأمره نافذ وقضاؤه مبرم لا يجوز نقضه ولا إبطاله.