قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْملاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأََرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا * وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [سورة النساء: 97 ـ 100].
نحن الآن في أوائل السنة الهجرية (1415)، وفي هذه المناسبة نتكلم عن بعض أحكام الهجرة. هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم تحصل في اليوم الأول من محرم بل حصلت في ربيع الأول. حسب رواية ابن الكلبي: خرج من الغار (بعد أن مكث فيه مع صاحبه أبي بكر ثلاثة أيام) يوم الاثنين أول يوم من ربيع الأول ودخل إلى المدينة يوم الجمعة لثنتي عشرة منه.
جاء في تفسير ابن كثير: (قال الضحاك نزلت ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين طهرانَيْ المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) أي بترك الهجرة (قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ) أي لِمَ مكثتم هنا وتركتم الهجرة (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأََرْضِ) أي لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً) الآية. وقد سمّى ابن هشام في السيرة خمسةَ نفر من المسلمين الذي كانوا في مكة وخرجوا مع المشركين إلى بدر وقُتِلوا مع من قُتِل.
يفهم من ذلك أن الهجرة بهذا المعنى لم تنقطع بل ما زالت واجبة. والحديث الشريف: «لا هجرة بعد الفتح بل جهاد ونيّة» يعني أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تعد مطلوبة بعد أن فتح المسلمون مكة. أما الهجرة من المكان، أي مكان، الذي يخشى فيه المسلم على نفسه أو على أهله من الوقوع في المعاصي فإنه يجب عليه أن يهاجر منه إلى مكان آخر يأمن فيه على نفسه وأهله من الانجراف إلى المعاصي، وهذا هو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» [رواه أبو داود].
هاجر بعض المسلمين في السنة السادسة للبعثة النبوية إلى الحبشة لأنهم كانوا في مكة يُضطَهدون ويُفتَنون عن دينهم إلى الحبشة حيث يوجد ملك لا يَظلِم ولا يَفتِن عن الدين. ومن هذا نفهم أن المسلم يهاجر للمحافظة على دينه من دار كفر إلى دار كفر أخرى. فقد كانت مكة دار كفر والحبشة دار كفر، ولكن مكة لم تكن تسمح لهم بحريتهم الدينية بينما كانت الحبشة تسمح لهم بذلك.
والعلة الشرعية في وجوب الهجرة هي المحافظة على الدين (فقد رُوي أن نعمي النحّام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له: أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك، واكْفِنا ما كنت تكفينا. وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم. فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بَعْدُ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «قومك كانوا خير لك من قومي لي، قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك» فقال: يا رسول الله بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه، وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله). فالذي كان يستطيع أن يتمسك بدينه لم يكن واجباً عليه أن يهاجر من مكة. وكذلك الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة بقي قسم منهم في الحبشة حتى بعد أن أقيمت الدولة الإسلامية في المدينة، فجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه عاد إلى المدينة عند فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة، ولم يؤنبه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه تأخر في الحبشة ولكنه أظهر سروره العظيم لمقدمه حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «لا أدري بأيهما أفرح اليوم أكثر، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر». وروى البخاري عن عائشة، وسُئلت عن الهجرة فقالت: «لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفرّ بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يُفتن. فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء».
المسلم مسؤول عن حفظ دينه وحفظ دين أهله لقوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ). وحفظ الدين لا يكون فقط بالإقامة في بلد تعطى فيه حرية التديّن، بل في البلد الذي يعرف أنه يصون فيه عقيدته وعبادته وسلوكه ومعاملاته… الخ. كثير من المسلمين يعيشون اليوم في المجتمعات الأوروبية أو الأميركية أو غيرها من مجتمعات الكفر. وهذه المجتمعات تترك للناس حرية التدين كما يشاءون، كما تترك لهم حرية الكفر والمعاصي والفسق. والمسلم في مثل هذه المجتمعات يكون معرضاً هو أو أهله (زوجته وأولاده وبقية أفراد أسرته الذين يعولهم) إلى الضلال في العقيدة أو إلى إهمال العبادة أو إلى الانحراف في الأخلاق والسلوك تحت تأثير الاغراءات الكثيرة التي تملأ المجتمع، أو الأفكار الضالة أو القوانين الفاسدة. فالمسلم الذي يعيش في مثل هذه المجتمعات والذي يرى أن تيارات الضلال أو المعاصي ستجرفه أو تجرف بعض أهله يجب عليه، وجوباً مؤكداً، أن يهاجر إلى مكان آخر يطمئن فيه على دينه ودين أهله. وهذا ينطبق على الطلاب الذين يذهبون للدراسة، وعلى المهاجرين الذين يتركون مواطنهم في البلاد الإسلامية سعياً وراء العيش، وعلى المسلمين الذين هم أصلاً من أهل تلك البلاد. وهو ينطبق أيضاً على المسلم الذي يعيش في البلاد الإسلامية، إذ أن بعض الأماكن في البلاد الإسلامية توجد فيها الأخطار على عقيدة المسلم وعلى خلقه وسلوكه، فيجب عليه في هذه الحال أن يتحول من مكانه هذا إلى مكان آخر يأمن فيه على دينه ودين أهله، فلا يضع أولاده في مدرسة تشكل خطراً على دينهم، ولا يسكن في حيّ يجرفه إلى الفساد، ولا يرافق هو أو أهله رفاق السوء، ولا يدخل في حزب أو حركة أو جماعة إلحادية أو علمانية ذات بدع، لا يتقرب من الحكام لأنه سيصبح منافقاً، فهم عملاء للكفار ويحكمون بأنظمة الكفر.
فحكم وجوب الهجرة معلل شرعاً بعلة المحافظة على الدين، فكل مكان، وكل عمل، وكل صديق، وكل عادة، وكل وسيلة (من كتاب أو مجلة أو تلفاز…) فيه خطر على الدين يجب هجره، ولو كان في هذه الهجرة مشقة، أو كان فيها خسارة للأملاك والمنافع، أما الذي يرضى بخسارة دينه ولا يرضى بخسارة حطام الدنيا فإن الآية الكريمة تنطبق عليه: (فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
وقد جاءت الآية الكريمة التي بعدها تقبل عذر المستضعفين: (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) وهي إن كانت نزلت في شأن الهجرة من مكة ولكنها عامة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، خاصة وأن حكم الهجرة معلل، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والرخصة للمستضعفين عامة كذلك. وقد جاء بيان حالة الاستضعاف بقوله: (لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) وهذا واضح في حالة الولدان، وأما الرجال والنساء فينظر في مدى قدرتهم. قال القرطبي: (الحيلة لفظ عامٌّ لأنواع أسباب التخلص. والسبيل سبيل المدينة، فيما ذكره مجاهد والسدي وغيرهما، والصواب أنه عام في جميع السبل). وقال القرطبي: (عن قتادة قال: لما نزلت (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) الآية، قال رجل من المسلمين وهو مريض: والله ما لي من عذر! إني لدليل في الطريق، وإني لموسر، فاحملوني. فحملوه فأدركه الموت في الطريق؛ فقال أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو بلغ إلينا لتم أجره؛ وقد مات بالتنعيم. وجاء بنوه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبروه بالقصة، فنزلت هذه الآية: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) وكان اسمه ضَمْرة بن جُنْدب، ويقال: جندب بن ضمرة).
هؤلاء المستضعفون رخّص الله لهم في عدم الهجرة وأطمعهم بالعفو عنهم ما داموا لا يعرفون الطريق للهجرة وما داموا لا يملكون أسباب التخلص فقال: (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) وكلمة (عسى) بمثابة وعد واجب من الله تعالى.
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأََرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) الهجرة في سبيل الله أي من أجل القرب من طاعة الله والبعد عن معصية الله وزيادةً في التأكد من حفظ دينه ودين أهليه. المُراغَم: المهرَب أو المذهب الذي يذهب فيه المهاجر. والسعة: الرزق وهذا تطمين من الله للمؤمنين بأنه لا يتخلى عنهم ولا يمنع رزقه عنهم إن هم هاجروا في سبيله. ونظير هذا قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا تقرب عبدي مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإذا تقرب مني ذرعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني مشياً أتيته هروله». وعندنا الحديث الوارد في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم أكمل ذلك العابد المائة ثم سأل عالماً هل له من توبة؟ فقال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده أن يتحول من بلده (لأنها بلد معاص) إلى بلد أخرى (أهلها أهل طاعة). وارتحل الرجل وأدركه الموت في الطريق، واختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأُمِروا إن كان أقرب إلى دار المعاصي أن تأخذه ملائكة العذاب، وإن كان أقرب إلى دار الطاعات أن تأخذه ملائكة الرحمة، وأمر الله دار الطاعات أن تقترب ودار المعاصي أن تبتعد وجعله الله من أهل رحمته.
(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ). الهجرة إلى الله ورسوله مثل الهجرة في سبيل الله التي سبق ذكرها. وسواء أدركه الموت في الطريق أثناء هجرته أو بعد وصوله إلى دار هجرته، ما دام ملتزماً بالأمر الذي هاجر من أجله وهو حفظ دينه، فإنه في ضيافة الرحمن لأنه مهاجر إلى الله ورسوله، ونعمت دار الضيافة ونعم الأجر الذي يناله من الله. (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) يغفر للتائب المهاجر إليه كل ذنوبه كما غفر لقاتل مائة النفس، وهو الرحمن الرحيم.
وهناك هجرة ليست واجبة ولكنها مندوب إليها. وهي الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. حين تكون هناك دار إسلام ويكون المسلم يعيش في دار الكفر وهو لا يخشى على نفسه ولا على أهليه سواءاً من دار الكفر، فإنه لا يجب عليه أن يهاجر ولكن يستحب له أن يهاجر إلى دار الإسلام. وهكذا كان الحال مع المسلمين في الحبشة أو الأعراب أو غيرهما حين كانت المدينة دار إسلام.
وفي كثير من الحالات، تكون إقامة المسلم في دار الكفر أولى منها في دار الإسلام إذا كان مطمئناً إلى حفظ دينه، وكان بالإضافة إلى ذلك يستطيع أن يعمل لتغيير دار الكفر تلك إلى دار إسلام. فقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يرسل بعضاً من أصحابه إلى القبائل ليقيموا فيها ويدعوا أهلها إلى الإسلام، فقد أرسل عشرةً من أصحابه إلى الرجيع (بعد معركة أُحُد في السنة الثالثة للهجرة) فغدر المشركون بهم وقتلوهم، وأرسل سبعين من خيرة أصحابه إلى بئر معونة فغدر المشركون بهم أيضاً وقتلوهم (وكان ذلك في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة). فالمسلم مطلوب منه أن يحمل الدعوة الإسلامية للناس، فإذا كان عند احتمال أن هناك من يستجيب له فإنه يسعى إليه ولو كان في دار كفر، ولو كان في ذلك مشقة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لئن يَهْدِ بكَ الله رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النَّعَم» وفي رواية: «خير لك مما طلعت عليه الشمس».
فإذا كانت البلاد التي يعيش فيها المسلم بلاداً إسلامية وتُحكَم بغير الإسلام، فإن على المسلم أن لا يهاجر منها إلى الدولة الإسلامية، بل عليه أن يحمل الدعوة ويتعاون مع غيره من المسلمين من أجل إزالة أنظمة الكفر وتطبيق نظام الإسلام، ولا يجوز له أن يترك بلاد المسلمين يحكمها الفساق والكفار بأنظمة الكفر ويهاجر هو إلى الدولة الإسلامية إلا إذا كان لا يأمن على نفسه وأهله الفتنة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.