سلسلة أمهات المؤمنين (8): صفية بنت حيي (رضي الله عنها)
2010/12/17م
المقالات
2,761 زيارة
فبهداهم اقتده:
سلسلة أمهات المؤمنين (8)
صفية بنت حيي (رضي الله عنها)
هي صفية بنت حيي بن أخطب أحد زعماء بني النضير من يهود المدينة. وأما أمها فهي برة بنت سموأل من بني قريظة. والسموأل هو تحريف عبري لكلمة إسماعيل عن العربية، تماماً كما نقل اسم السموأل من العربية إلى الأعجمية بلفظ صموئيل، هذه ملاحظة. وهناك ملاحظة أخرى، فإن كثيراً من أسماء يهود الحجاز واليمن في الجزيرة العربية عامة، كانت مستقاة من واقع البيئة، مثل اسم برة أو صفية أو كعب أو غيرها.
كان والدها حيي من أشد اليهود عداوة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأكثرهم حقداً على الإسلام والمسلمين، لم يترك فرصة سانحة للنيل من الدعوة الإسلامية والقوة الإيمانية الفتية إلا استغلها وعمد إلى تقويض أركانها، سواء بالتحالف مع عشائر اليهود في المدينة، أم في الفتنة والوقيعة بين الأوس والخزرج، أم السعاية لدى قريش والتحالف معها واستقدام الأحزاب لقتال المسلمين في المدينة. على العموم كان هذا اليهودي كتلة حقد متحركة ومنبع حسد متدفق، ومجمع كره للإسلام وأهله.
نشأتها
كانت صفية فتاة صغيرة، عندما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع المسلمين إلى المدينة مهاجراً، ولم تكن وهي في تلك السن لتدرك أبعاد الأحداث والوقائع. نشأت في بيت زعيم من زعماء يهود، وكبير من كبرائهم. وكانت على جانب عظيم من الجمال، لم يعرف في يثرب بين العرب أو اليهود من هي أجمل منها، فكانت محط الأنظار، تهفو إليها القلوب وتتمناها زوجة.
زواجها الأول
فلما استدار عودها، ونما جسمها، واكتملت أنوثتها، خطبها أحد فتيان يهود وكبرائهم، اسمه سلام بن مشكم من بني قريظة، ثم فارقها على الخطوبة، ولم تطل عشرته معها.
الزواج الثاني
ثم تزوجها كنانة بن الربيع بن أبي حقيق وما أكثر ما تهافت عليها الفتيان والرجال، كل يريد لأن تكون له الحظوة عندها فيظفر بها، إلا أن أباها حيي بن أخطب كان لا يفرط فيها، فلا يعطيها إلا لمن يرى فيه الكفاءة المالية، والاجتماعية، فلا بد للزوج أن يكون غنياً ذا ثروة، وأن يكون سيداً ذا مكانة وسلطة. وهكذا كان ابن أبي حقيق.
غزوة خيبر وفتحها
بعد أن أجلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهود المدينة عنها، كل اليهود، بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، بسبب غدرهم ونفاقهم ونكوصهم بالعهود والمواثيق التي وقعوها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعهدوا فيها بالتعايش السلمي، وعدم التعرض للمسلمين بالأذى، إلا أنهم غدروا ونقضوا، فحاربهم عليه الصلاة والسلام وأجلاهم عن ديارهم.
بعد هذا ارتحل حيي بن أخطب ومعه ابنته صفية وزوجها ابن أبي حقيق وبنو النضير إلى خيبر، حيث لاذوا بها. ولكنهم ما انفكوا يمعنون في تدبير المؤامرات وحياكة الدسائس ورسم الخطط التي تؤذي المسلمين وتضر بالإسلام.
ومن خيبر البعيدة، كان حيي بن أخطب لا ينفك يعادي المسلمين، ويدبر المؤامرات فتحالف مع بعض القبائل العربية أمثال غطفان على غزو المدينة، ومهاجمة المسلمين في عقر دارهم، ومفاجأتهم والقضاء عليهم والتخلص منهم. لكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغته أنباء ذلك التحالف، وتلك المؤامرة، وقبل أن يبدأوه بدأهم، فخرج من المدينة على رأس قوة من المسلمين إلى خيبر ليفاجئ اليهود بغزوهم وقبل أن يأخذوا تمام أهبتهم.
وهناك جرت بين المسلمين واليهود وهم داخل حصونهم عشرة معارك، لم يحظَ المسلمون في بادئها بأدنى نجاح، ذلك أن خيبر كان فيها عدة حصون وقلاع، وأهلها أصحاب بأس وقوة، ورماة سهام. لذا سقط العديد من المسلمين في تلك المعارك بين شهيد وجريح، وأخيراً فتح الله على المسلمين وانتصروا على اليهود، ودكوا حصونهم وقلاعهم، وقتلوا الكثيرين منهم، وعلى رأسهم حيي بن أخطب داهيتهم ووالد صفية وكذلك زوجها كنانة بن الربيع، ووقع أكثر اليهود أسرى في أيدي المسلمين، وسبيت نساؤهم وكان من بينهن صفية.
وقوعها في السبي وقصة رؤيتها
كان بلال بن رباح (رضي الله عنه) قد اقتاد صفية ومعها ابنة عم لها فمر بهما على قتلى يهود، فصرخت ابنة العم وصكت وجهها، فسمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أغربا هذه الشيطانة عني… ثم عزل صفية وجعل كساءه عليها، فعرف جميع الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد اصطفاها لنفسه. وكان مما قاله لبلال مؤنباً: أنزعت الرحمة من قلبك يا بلال حتى تمر بالمرأتين على قتلاهما!! فأسلمت ثم أعتقها، وبعد أن اصطفاها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتزوجها ولاحظ عليه الصلاة والسلام خضرة حول عينيها، فسألها عن سبب ذلك، فقالت: استيقظت ذات صباح يا رسول الله على رؤيا، إذ رأيت القمر يأتي من ناحية يثرب ويستقر في حجري، فحدثت بذلك زوجي كنانة بن الربيع بن أبي حقيق، فاستشاط غضباً لأنه تأول الرؤيا فلطمني هذه اللطمة على وجهي. وقال: أو تريدين أن تتزوجي من ملك العرب..؟!
إسلامها وزواجها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عرض عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام والعتق، وكان مما قاله لها: اختاري… فإن اخترت الإسلام أسكنك نفسي، وإن اخترت اليهودية، فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك. فقالت رضي الله عنها: يا رسول الله، لقد هويت الإسلام وصدقت بك قبل أن تدعوني حيث صرت إلى رحلك، وما لي في اليهودية أرب، وما لي فيها والد ولا أخ، وخيرتني بين الكفر والإسلام، فالله ورسوله أحب إلي من العتق وأن أرجع إلى قومي..! فأسلمت (رضي الله عنها) فأعتقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل عتقها مهرها…
خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خيبر باتجاه المدينة، ولم يعرس بصفية، وقد أردفها وراءه على بعير، وشدها بثوبه، وجعلها من خاصة نسائه. فلما صار إلى منزل يقال له تبار على بعد ستة أميال من خيبر، مال عليه الصلاة والسلام يريد أن يبني بها، فأبت عليه، فوجد في نفسه..! فلما كان بالصهباء بعد ذلك قال لها: ما حملك على الذي صنعت حين أردت أن أنزل المنزل الأول وأدخل بك؟ قالت (رضي الله عنها): خشيت عليك قرب يهود!! فزادها ذلك عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محبة وتقديراً. لقد تغلغل الإيمان وامتلك حبُّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ناصية فؤادها، فباتت تخشى عليه وعلى دعوته ودينه من أذى قومها اليهود، لأنها تعرف ما انطوت عليه نفوسهم من الغدر.
أبو أيوب الحارس
وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقع أقدام تطيف بالمكان الذي أعرس فيه بصفية، واستمر ذلك إلى الفجر، فلما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الخباء وجد أبا أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) شاهراً سيفه لا يفتأ يدور حول المكان… فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب تأخره عن الركب فأخبره أبو أيوب أنه كان يخشى عليه من صفية، وما أمر الشاة المسمومة التي صنعتها زوجة سلام بن مشكم ببعيد فطمأنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهد لصفية بحسن الإسلام، ودعا لأبي أيوب بخير.
عائشة الغيور
ويروى أنه لما اجتلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صفية (رضي الله عنها) رأى عائشة وسط الناس، وكان ذلك في بيت من بيوت حارثة بن النعمان الأنصاري الذي احتشد بنساء الأنصار القادمين لرؤية صفية. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعائشة: كيف رأيتها يا عائشة؟ فقالت: رأيت يهودية!! فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقولي هذا يا عائشة، فإنها قد أسلمت وحسن إسلامها، ولقد حدث من عائشة (رضي الله عنها) أكثر من حادث بحق صفية يدل على غيرتها الشديدة منها.
مكانتها بين أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان من عظيم أخلاقه وحسن حكمته (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أنزل صفية من قلبه ونفسه وأهله منزلاً كريماً طيباً… فقد كانت ابنة زعيم قومها، وكانت رضية الأخلاق كريمة الصفات، وأيضاً قد أسلمت واختارت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالأولى أن تكافأ على ذلك كله، وتقدر من أجله. كان إذا خرج لغزوة يغزوها يقرع بين نسائه، ومنهن صفية ويسهم لها كما يسهم لهن من الفيء والغنيمة، ويقسم لها كما يقسم لهن. ويروى أنه قسم لها يوم خيبر وأطعمها ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً أو قمحاً. حدث زيد بن أسلم (رضي الله عنه) قال: إن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في الوجع الذي توفي فيه، فاجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية (رضي الله عنها): أما والله يا نبي الله، لوددت أن الذي بك بي. فغمزنها أي أزواج النبي وأبصرهن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهن: مضمضن.. فقلن: من أي شيء يا رسول الله؟ فقال: من تغامزكن بصاحبتكن… والله إنها لصادقة!!
صفية الرقيقة الشعور، المرهفة الإحساس
حين حدثت الفتنة أيام عثمان بن عفان (رضي الله عنه)، وحوصر في داره من قبل الثائرين، كانت رضي الله عنها إحدى المدافعات عنه، المنافحات عن كرامة منصب الخلافة، الداعية إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، المطالبة بالروية والاعتدال وعدم سفك وإراقة الدماء. وقد اضطرت يوم أن هوجم (رضي الله عنه) في داره، وتكاثر الثائرون على بابه، أن تركب بغلتها وتقود فئة من المدافعين بنفسها. إذ روى أحد شهود ذلك اليوم قال: كنت أقود بصفية لترد عن عثمان، فلقيها الأشتر (جاء في الرواية أن اسمه كنانة) فضرب وجه بغلتها حتى مالت، فقالت ردني… لا يفضحني هذا!! وحين اشتد الحصار عليه، فمنع عنه الطعام والشراب، اتخذت خشباً كالعارضة أو الجسر من سطح دارها إلى داره، وراحت تنقل إليه من فوقه الماء والطعام… فقد كانت تريد أن تدفع الأذى والفتنة عن المجتمع الإسلامي، والسلطة التي يمثلها الخليفة أيا كان هذا الخليفة.
بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أقامت (رضي الله عنها) بعد لحوق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرفيق الأعلى في خاصة دارها -حجرتها-، عابدةً تصلي وتصوم وتقوم، وتفعل الخير، وتبذل من ذات يدها كل ما تقدر عليه، وكان كبار صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدرونها وفاءً منهم لنبيهم، ويحترمونها إخلاصاً منهم لشعوره (صلى الله عليه وآله وسلم) وحبه لصفية التي آمنت وأسلمت صادقة. كانوا يزورونها في بيتها، ويسألونها حاجتها، ويقدمون لها كل ما يلزم، إن احتاجت لأمر أو شيء من الشؤون الدنيوية، ويجلونها في رأيها، ويستشيرونها إذا ما حزب أمر.
الوصية والوفاة
روى أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: ورثت صفية مائة ألف درهم بقية أرض، فأوصت لابن أختها وهو يهودي بثلثها. فأبوا أن يعطوه وينفذوا وصية صفية، وكانت لا تزال على قيد الحياة، فكلمت في ذلك عائشة (رضي الله عنها)، فأرسلت إلى من يعنيهم الأمر تقول: اتقوا الله وأعطوه وصيته، فأخذ ثلثها (أي الوصية). وكانت لها دار فتصدقت بها في حياتها. ولما كان في العام الثاني والخمسون من الهجرة، وكانت صفية (رضي الله عنها) قد جاوزت العقد السادس من العمر، اعتلّت، ثم وهنت، وعانت من أعراض وأوجاع المرض، ثم وافاها الأجل، وكان ذلك في خلافة معاوية بن أبي سفيان ودفنت بالبقيع.
رضي الله عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب وتقبلها بقبول حسن، وبوأها من لدنه أرفع الدرجات وأسماها، وألحقنا بالصالحين من عباده.
2010-12-17