من عظماء الإسلام
حاكم الأندلس المنصور محمد بن أبي عامر
التعريف به ونسبه
هو المنصور أبو عامر محمد بن أبي حفص عبدا لله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، الداخل إلى الأندلس مع طارق بن زياد، وكان له في فتحها أثر جميل؛ وكان في قومه وسيطاً، ونزل الجزيرة الخضراء لأول الفتح، فساد أهلها، وكثر عقبه فيها، وتكررت فيهم النباهة والوجاهة.
وكان أبوه من أهل الزهد في الدنيا، والقعود عن السلطان، سمع الحديث، وأدى الفريضة، ومات منصرفاً من حجه بمدينة طرابلس المغرب، وكانت أمه تميمية، وأبوه معافريًّا.
النشأة والتربية
نشأ محمد بن أبي عامر بين جد دخل الأندلس فاتحًا فساق إليه ذكريات الجهاد وحلاوة الفتح، وبين والد تاركًا للدنيا زاهدًا فيها، فكان حسن النشأة، ظاهر النجابة، تتفرس فيه السيادة وكان من المدينة المعروفة بـ(الجزيرة الخضراء) من قرية من أعمالها تسمى طرش على نهر يسمى وادي آروا.
رحل “محمد بن أبي عامر” إلى (قرطبة)، وتأدب فيها، فطلب العلم والأدب وسمع الحديث وتميز في ذلك، وكان يحدث نفسه بمعالي الأمور، وكانت بداية أمره أن اقتعد في دكان عند باب القصر يكتب فيه لمن أراد أن يكتب شيئًا يرفعه إلى السلطان، وظل في هذا الأمر إلى أن طلبت “السيدة صبح” أم “هشام المؤيد” من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقّى إلى أن كتب عنها، فاستحسنته ونبّهت عليه الحاكم المستنصر ورغبت في تشريفه بالخدمة، فولاّه قضاء بعض المواضع، فظهرت منه نجابة، فترقّى إلى الزكاة والمواريث بأشبيلية ولم يقصر -مع ذلك- في خدمة المصحفيّ الحاجب، إلى أن توفّي “الحكم” وولي ابنه “هشام المؤيد”، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فجاشت الروم، فجهز “المصحفيّ” “ابن أبي عامر” لدفاعهم، فنصره الله عليهم، وتمكّن حبّه من قلوب الناس، وكان شهمًا، شجاعًا، قوي النفس، حسن التدبير، استمال العساكر وأحسن إليهم فقوي أمره، وتلقب بـ”المنصور”، وتابع الغزوات ضد الفرنج وغيرهم، وسكنت البلاد معه، فلم يضطرب منها شيء.
المنصور حاكمًا للأندلس
لقد خلد التاريخ ذكر رجال طلبوا معالي الأمور، وكانت لهم همم لا منتهى لكبارها، بلغوا بها العُلا، من هؤلاء “المنصور بن أبي عامر “الذي اعتبره المؤرخون أعظم من حكم الأندلس. بدأ حياته طالبًا للعلم ثم تدرج حتى أصبح قاضيًا، ثم آل إليه الحكم بعد ذلك.
جهاده.. وأهم معاركه
لقد ملك الجهاد قلب “المنصور بن أبي عامر”، حتى فقد الاستطاعة على تركه، وذكر “المراكشي” في كتابه «المعجب» عن مدى حب “ابن أبي عامر” للغزو والجهاد، فيقول: “وبلغ من إفراط حبه للغزو أنه ربما خرج للمصلى يوم العيد فحدثت له نية في ذلك، فلا يرجع إلى قصره بل يخرج بعد انصرافه من المصلى كما هو من فوره إلى الجهاد، فتتبعه عساكره وتلحق به أولاً فأولاً، فلا يصل إلى أوائل بلاد الروم إلا وقد لحقه كل من أراده من العساكر، ولم يتكاسل عن الجهاد حتى في مرضه، وقد مرض وهو في طريق للغزو، فلم يرجع بل رفع يديه طالبًا من الله أن تأتيه منيته وهو في الغزو، فكان كما أراد، لقد خلصت نيته لله فأعطاه الله ما تمنى.
استطاع “ابن أبي عامر” أن يصل إلى معاقل في أرض إسبانيا ما وصل إليها أحد من قبله منذ أن دخل “طارق بن زياد” فاتحًا وحتى عهده، فقد وصل إلى أكبر معاقل النصرانية في “إسبانيا”، وملئت بلاده من سبايا الروم وغنائمهم، حتى نودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة (وكانت ذات جمال رائع)، فلم تساوِ أكثر من عشرين دينارًا عامرية.
وكان يغزو غزوتين في السنة: مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، وبلغت غزواته أكثر من خمسين غزوة لم يهزم فيها، ولم ينل منه عدوه قَطُّ.
ومن آثار غزواته أنه افتتح حصن (مولة)، وظهر فيه على سبي كثير، وغنم المسلمون أوسع غنيمة، وكان ذلك في عام 366هـ.
ودخل على (طليطلة) غرة صفر من سنة367هـ؛ فاجتمع مع صهره “غالب”، فنهضا معًا، فافتتحا حصن (المال)، وحصن (زنبق)، ودوخا مدينة (شلمنقة)، وأخذا أرباضها، وعاد “ابن أبي عامر” إلى قرطبة بالسبي والغنائم، وبعدد عظيم من رؤوس أعدائه المشركين، وتمت هذه الغزوة في أربعة وثلاثين يومًا من خروجه إليها.
ومن أهم المعارك التي قضى فيها على أهم معاقل النصرانية في إسبانيا معركة (شنت ياقوب).
وقبل أن نخوض غمار الحديث عن هذه المعركة نلقي نظرة على موقع هذه المدينة في قلوب النصارى وأهميتها عندهم، فقد كانت هذه المدينة أعظم مشاهد النصارى في بلاد «الأندلس»، وكان النصارى يعظمون كنيستها، كتعظيم المسلمين للكعبة المشرفة، وإلى هذه الكنيسة كانوا يحجون قادمين إليها من أقصى البلاد الرومية، وزعموا أن فيها قبر “يعقوب” من حواريي سيدنا عيسى عليه السلام، ولم يتمكن أحد من المسلمين الفاتحين للأندلس دخولها أو فتحها حتى تم ذلك على يد ذلك المجاهد.
فقد خرج «المنصور» إليها من قرطبة غازيًا بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة 387هـ، متوجهاً إلى (شنت ياقوب)، ودخل على مدينة (قورية)، ولما وصل “المنصور” إلى مدينة (غليسية)، وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة في رجالهم، فصاروا في عسكر المسلمين، وكان «المنصور” قد أمر ببناء أسطول بحري، وبعد أن تم بناؤه جهزه برجاله البحريين، وحمّل فيه المؤن والذخائر والأطعمة والأسلحة، وخرج “المنصور” إلى موضع على نهر (دويره)؛ فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل “المنصور” على العبور منه؛ فعقد هناك من هذا الأسطول جسرًا بقرب الحصن الذي هناك.
ووزع المنصور ما كان معه من الميرة على الجند؛ فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو، ونهض يريد (شنت ياقوب)، فقطع أراضين متباعدة الأقطار، وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان، وبعد أن خاض المسلمون غمار المعركة تارة في البحر وأخرى في البر، سالكين الجبال والأودية، أتم الله عليه فتح (شنت ياقوب)، ولما وصل إليها المسلمون وجدوها خالية من السكان، فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها، وعفوا آثارها،وانكفأ المنصور عن باب (شنت ياقوب)، وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله.
أخلاقه:
دخل «المنصور» (شنت ياقوب) أكبر معاقل نصارى الروم في ذلك الوقت، إلا أنه لم يجد فيه إلا شيخاً من الرَّهبان جالسًا على القبر؛ فسأله عن مقامه، فقال: أوانس “يعقوب” فأمر “المنصور” بالكف عنه. ولا عجب في ذلك فهذه هي أخلاق الإسلام، فقد كانت وصايا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للجيش ألاّ يقتل طفلاً ولا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ولا راهبًا في صومعته، ولا يجهزوا على جريح، ولا يقطعوا شجرة ولا نخلاً، وكذلك كانت وصايا الخلفاء من بعده.
كان لنشأة المنصور بن أبي عامر أثر كبير في تغيير مسار حياته؛ فقد نشأ متعلمًا لأحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتربى على هذه الأحاديث حتى استقى أخلاقه من أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
من أشعاره:
كان المنصور بن أبي عامر شاعرًا، ومن شعره:
رميت بنفسي هولَ كلِّ عظيمةٍوما صاحبي إلا جنانٌ مشيّعٌفسدت بنفسي أهلَ كلِّ سيادةٍوما شدت بنياناً ولكن زيادةرفعنا المعالي بالعوالي حديثة |
وخاطرتُ والحُرُّ الكريمُ يُخَاطِرُوأسمر خطّيٌّ وأبيـضُ باتِرُوفاخرتُ حتى لم أجدْ من أفاخرُعلى ما بنى عبدُ المليك وعامروأورثناها في القديم معافر |