فبهداهم اقتده:
سلسلة أمهات المؤمنين (9):
ميمونة بنت الحارث (رضي الله عنها)
نسبها ونشأتها
هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث بن حزن بن هلال أحد أشراف قريش وسادتها، وأمها هند بنت عوف سيدة من سيدات مكة اللواتي اشتهرن بالفضل والنسب الرفيع، وخالة خالد بن الوليد (رضي الله عنه).
وكان لميمونة أخت شقيقة كبرى هي لبابة (أم الفضل)، وكانت زوجة لعم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) وأخرى تدعى أسماء تزوجها أيضاً عمه حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء (رضي الله عنه)، وأخرى تدعى لبابة الصغرى هي أم خالد بن الوليد (رضي الله عنه).
وهكذا فإن المصاهرة قديمة بين بني عبد المطلب بن هاشم وبين شقيقات ميمونة أم المؤمنين (رضي الله عنها). ولقد كانت الوشائج قوية والصلات متينة.
نشأتها
ولدت ميمونة (رضي الله عنها) في مكة قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بست سنوات لذا أدركت الإسلام صغيرة غريرة، لا تفقه ولا تميز، فبقيت مع أبويها وعشيرتها على خطى الجاهلية يسيرون، يعظمون الأوثان ويقدسون الأصنام، ويعبدون ما ينحتون.
وتقلبت في أحضان الجاهلية ترضع من ثديها قيماً زائفة، وتستقي من ينابيعها الآسنة مبادئ زائلة..!
ولكنها مع نموها ونضوجها، وتعاقب الأحداث وتوالي الأعوام، كانت تستمع بشيء من الوعي والإدراك إلى أنباء البعث والوحي وغيرها، وتفكر في ذلك وتمعن التفكير، إذ أوتيت فهماً وعقلاً وعلماً وحرية اختيار.
زواجها
عندما اكتملت أنوثتها، ونما عودها، وبلغت مبلغ النساء، جاءها أحد فتيان مكة المرموقين خاطباً يدها، وهو أبو رهم بن عبد العزى، فوافق والدها، وزوجه إياها. وانتقلت ميمونة (رضي الله عنها) إلى دار زوجها، فأقامت معه، راعية لشؤونه مدبرة لأموره حافظة لعهده. لكنها كانت كثيرة التردد على دار أختها أم الفضل لبابة الكبرى وزوجها العباس بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت تستمع منها إلى بعض تعاليم الإسلام، وإلى أنباء المسلمين المهاجرين، وإلى أخبار معارك بدر وأحد فيترك كل ذلك في نفسها أثراً عميقاً، وشعوراً إيجابياً ميالاً.
وحدث أن ترامت إلى قريش في مكة أخبار غزوة خيبر مشوهة على غير حقيقتها، ففرح المشركون، وأخذوا يسمعون العباس بن عبد المطلب كلاماً مؤذياً، كلما التقوا به عند الكعبة، فيعود إلى داره مغموماً حزيناً.
ولم يمضِ وقت طويل حتى جاء الخبر اليقين بانتصار المسلمين وهزيمة اليهود والاستيلاء على خيبر وما فيها.
فقام العباس من فوره، ولبس أحسن ثيابه، وخرج إلى الناس، وكأنه في يوم عيد متزيناً متطيباً، وجرى بينه وبين بعض المشركين المتغطرسين تحاور، انتهى بأن خرست ألسنتهم، ولجمت أفواههم حين أخبرهم بأن من نقل إليهم الأخبار قد غرر بهم، وكذب عليهم، ليستخلص حقوقه منهم، وكانت ميمونة (رضي الله عنها) في بيت شقيقتها أم الفضل تتأثر بهم ومعهم وتميل بكل جوارحها إلى الإسلام..، لكن وجودها في بيت زوجها أبي رهم كان يكتم أنفاسها ويقيد منطقها..، ويبدو أنها كانت قد أسلمت ولكنها تنتظر الفرصة المواتية للخروج من قمقم الشرك والكفر إلى رحاب الإيمان، وها هي الفرصة قد واتت!!
فعندما عادت إلى بيتها، وضمتها أركان الدار مع زوجها الذي كان مغموماً، متضايقاً حزيناً، لا يطيق كلمة.. دخلت ميمونة (رضي الله عنها) وعلى وجهها علامات البشر والسرور، فياضة الفرحة، بادية الغبطة، فحصل الصدام بينها وبينه، وتلاحيا، ثم أعلن الزوج غضبه عليها، ومفارقتها (طلاقها). فخرجت من عنده إلى بيت العباس تقيم عنده، وكأنها تقيم في بيت أهلها، فأختها أم الفضل بمثابة الأم، والعباس (رضي الله عنه) مكان الأب. فرحبا بها، وأكرما نزلها، وهيّئا لها كل أسباب الراحة!!
صلح الحديبية
خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين من المدينة قاصداً مكة المكرمة لأداء العمرة وتعظيم بيت الله، وثار أهل مكة وأقسموا ليمنعوه من دخولها عليهم عنوة. ولما أصبح المسلمون على مقربة من مكة على بعد أميال منها في مكان يدعى الحديبية نسبة إلى بئر ماء كانت هناك، توقفوا لأن قريشاً أقسمت على الحرب والصد واستعدت لذلك. ومما هو جدير بالذكر والتسجيل أن ناقة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القصواء توقفت عن المسير في ذلك المكان، ولم يدركوا أبعاد معنى هذه الحركة. فقط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأدركه، فقال: «والله ما خلأت القصواء وليس بها خلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والذي نفسي بيده لا تسألني قريش اليوم خطة فيها تعظيم لبيت الله إلا وافقتهم عليها». ثم جرت بين قريش وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مفاوضات ومراسلات، وانتهت بتوقيع معاهدة، عرفت فيما بعد بصلح الحديبية ولقد تضمنت هذه المعاهدة بنوداً عدة، من أهمها:
أن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة في عام قابل ومعه المسلمون، لا يحملون إلا سلاح المسافر أي السيوف في أغمادها فيقيمون في مكة ثلاثة أيام يؤدون خلالها مناسكهم، وتخليها لهم قريش، ولا يزيدون على ذلك.
عمرة القضاء
وعندما حل موعد الأجل المضروب سار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمسلمين، وما أن شارفوا مكة حتى أذّن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم بالوقوف.. إذ استقر رأيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على القيام بمناورة بارعة، فأمر بتقسيم المسلمين إلى قسمين، يدخل أولهما مكة للطواف والسعي وأداء المناسك، ويبقى القسم الآخر مرابطاً بسلاحه خارجها، على تمام الأهبة للقاء المشركين إذا ما سوّلت لهم أنفسهم شراً أو عدواناً وغدراً. ثم ساروا حتى انكشف لهم البيت الحرام الذي حيل بينهم وبينه منذ عام مضى، ومنعوا عنه سنوات طوال، فما كادوا يرونه حتى علا صوتهم جميعاً بالتهليل والتكبير. وأحاط المسلمون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إعزاز وإكبار، وما أن أهلت جموعهم حتى جلا القرشيون عن مكة مسرعين إلى التلال والجبال التي تحيط ببطن الوادي، لأنهم لم يقتنعوا، ولا يريدون أن يروا محمداً وصحبه يعودون إلى مكة. بعد أن غادروها منذ أعوام تحت جنح الليل الحالك وسواده الداهم أذلاء مقهورين مبعدين، أو هاربين مهاجرين!!
وكان قد بقي في مكة عدد من المسلمين المستضعفين ومنهم ميمونة (رضي الله عنها).
خلوا بني الكفار عن سبيله
دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فرحاً، وكذلك أصحابه، وعبد الله بن رواحة (رضي الله عنه) آخذ بزمام ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القصواء فكان يرتجز الشعر.
فأراد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أن يمنعه من ذلك، فنهاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقاله له:
دعه يا عمر، والله لوقع كلامه أشد عليهم -أي المشركين- من ضربات الحسام، ووقع السهام…!
فاستمر عبد الله يرتجز ويردد:
خلوا بني الكفار عن سبيلهيا رب إني مؤمن بقيلهنحن قتلناكم على تأويلهضرباً يزيل الهام عن مقيله |
خلوا فكل الخير في رسولهأعرف حق الله في قبولهكما قتلناكم على تنزيلهويذهل الخليل عن خليله |