حامـل الدعـوة… زاده الإيمـان والعمـل الصـالح
2000/09/10م
المقالات
1,638 زيارة
إن معرفة حامل الدعوة بنفسه تعينه على معرفة الآخرين، إذ إن النفس الإنسانية واحدة. ولمعرفة كيف نسوق الخطاب وكيف نبلغ القلوب، فإن هذا يتطلب معرفة واقع الإنسان. ولو تأملنا في واقع هذا الإنسان لوجدنا أن عنده عقلاً يفكر ويربط ويحكم… وقلباً يهتم ويتأثر وينشغل ويشعر… أما كيف يتكون الفكر؟ وكيف تتكون المشاعر؟ وكيف ترتبط الأفكار بالمشاعر؟ وكيف يرتبط عمل العقل بعمل القلب؟ فهذا ما لا بد من معرفته ليدرك حامل الدعوة أهمية وجود ذلك في نفسه، وفي المسلمين، وفي الناس أجمعين، وليعمل بمقتضى ذلك، ولتأتي دعوته تماماً مع منهج القرآن في الخطاب، ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة.
ولمعرفة ذلك نقول إن في الإنسان فطرة فطره الله عليها، لا يملك الفكاك عنها، فهي تلازمه وتشكل جزءاً من تكوينه. قال تعالى: (فأقمْ وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».
والفطرة هي الشعور بالاحتياج إلى الخالق المدبر الناشئ عن العجز الطبيعي عند الإنسان. إنها أمر تكويني لا إرادي، يشعر الإنسان بوجودها فيه. فهي لها واقع يحس به؛ لذلك يستطيع إدراك واقعها، وإدراك كيف تعمل، وإدراكه هذا يجعله يفهم تماماً كيف يتعامل معها.
وإن وجود الفطرة في الإنسان يجعله يتجه باتجاه إشباعها. فالإنسان لا يطلب الأشياء لذات الأشياء، ولا يطلب العلم بها لذات العلم، ولا يعمل لمجرد العمل، بل يقوم بكل ذلك من أجل إشباع فطرته. وإن مصلحته ارتبطت بهذا الإشباع، وبإشباعها يحس بالكفاية والارتواء والاطمئنان، وبعدمه يشعر بالانزعاج والقلق والاضطراب. فالله سبحانه خلق الإنسان طالباً للمعرفة المتعلقة بفطرته، سالكاً ما يتعلق بإشباعها.
فالإنسان يجد في داخله توجهاً فطرياً للإيمان بالله الخالق، ويجد مركوزاً فيه أن الإله الخالق يتصف بصفات الكمال، ويجد في داخله توجهاً فطرياً لأن يعبد هذا الإله، ويجد في داخله عدداً من المشاعر الفطرية التي تنسجم مع هذا التوجه كلما أثيرت فيه، وذلك مثل الشعور بالروحانية والخشية والخشوع والخضوع والتذلل والإجلال والإكبار والتعظيم والتقديس… هذا التوجه الفطري، وهذه المشاعر الفطرية تحتاج إلى التصريف الصحيح حتى يطمئن الإنسان وإذا لم يصرفها، أو لم يصرفها التصريف الصحيح فإنه يعيش قلقاً مضطرباً منـزعجاً؛ لذلك يحتاج الإنسان إلى معرفة خالقه معرفة صحيحة، وإلى معرفة النظام الصحيح الذي يحدّد العلاقة الصحيحة بين الإنسان وخالقه، حتى ينعم الإنسان بهذه العلاقة ويعيش في رحابها وتمتلئ نفسه بها.
والإنسان يجد في داخله توجهاً فطرياً يدفعه إلى حماية نفسه والمحافظة على حياته فيقوم بكل ما يؤدي إلى بقائه حياً ومحفوظاً في أمن وأمان؛ لذلك يجد في داخله مشاعر فطرية من جنس هذا التوجه مثل الشعور بالخوف، وحب التملك والتجمع، والسيادة، والدفاع عن النفس، والفضول، والإقدام والجبن، والبخل والكرم… ومقابل هذا الشعور بهذه المظاهر يلجأ الإنسان إلى التفتيش عن القوانين التي تحفظ له حياته، وتصرِّف له هذه المظاهر تصريفاً صحيحاً، ومتى توصل إليها عمل على تطبيقها، وعليه فإن أصل وجود هذه القوانين كان سبب ما يشعر به الإنسان في داخله من هذه المشاعر، والأصل في هذه القوانين أن تحقق الغاية التي من أجلها وجدت.
كذلك يجد الإنسان في داخله توجهاً فطرياً يدفعه إلى الحفاظ على النوع البشري، على جنس الإنسان حتى لا ينقرض، ويدل على ذلك وجود مجموعة من المشاعر الفطرية التي تهدف جميعها إلى تحقيق هذا التوجه وذلك مثل الشعور بالميل نحو الجنس الآخر، وشعوره بالحاجة إلى الإنجاب، وشعور الأب بالأبوة، والأم بالأمومة، والأخ بالأخوة، وكذلك الشعور بالعمومة والخؤولة وهذه تظهر أهميتها عند فقدان الأم أو الأب، وكذلك الشعور بالاندفاع لإغاثة الملهوف وإنقاذ المهدد أو الحنو على الفقير المعدم حتى ولو لم يكن يعرفه… هذه المشاعر الفطرية التي تهدف جميعها إلى الحفاظ على النوع البشري تحتاج إلى النظام الصحيح الذي يحقق هذه الغاية حتى يطمئن الإنسان ويرتاح، لأن عدم وجود النظام الصحيح يهدده بالانقراض والاندثار.
وهكذا فإن الإنسان يهتم بحسب وبمقدار ما يجد في داخله من مشاعر فطرية تعبّر عن وجود حاجات تحتاج إلى الإشباع، وما لا يوجد داخل الإنسان لا يمكن أن يشكل عنده أي حاجة أو اهتمام. ومصلحة الإنسان مرتبطة بإشباع هذه المطالب الفطرية إشباعاً صحيحاً وليس مجرد إشباع.
هذه هي الفطرة. فكيف يتوصل الإنسان إلى معرفة النظام الصحيح المتعلق بإشباعها وجعلها تطمئن؟ هنا يأتي دور العقل. إذ لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بالعقل. سواء أتوصل العقل إلى الجواب الصحيح بنفسه أم بالواسطة، فالعقل هو الأداة الوحيدة لدى الإنسان التي يستطيع بها أن يحكم، ويفهم، ويفاضل، ويختار، ويميز، ويربط، ويستنتج، ويستقرئ… فالفطرة تضغط على العقل للتفكير بطريقة الإشباع، والعقل يستجيب لهذا الضغط فيعمل بوحيها ويهتم بموضوعها. فالفطرة هي عبارة عن مجرد الشعور بالحاجة لأمر ما، من غير تحديد للجهة التي هي محل الإشباع، ولا للطريقة التي تشبع بها. فالفطرة مثلاً هي مجرد الشعور بالحاجة إلى عبادة من يستحق العبادة، من غير تحديد لمن يستحق العبادة ولا للطريقة التي تتم عملية الإشباع بها، وهنا يأتي الجواب، بعد بحث، من العقل. والفطرة عبارة عن مجرد الشعور بالحاجة إلى التملك من أجل البقاء، هكذا من غير تحديد. أما ما هي الأشياء التي يصح تملكها؟ وما هي أنواع الملكيات؟ وكيف يتم التملك؟ وكيف تتم عملية التملك؟ فإن الجواب متروك للعقل. والفطرة هي عبارة عن مجرد الشعور بالحاجة إلى التصريف الجنسي من غير تحديد الجهة أو الطريقة، والعقل هو الذي يبحث في هذا ليوصلها إلى التصريف الصحيح. من هنا يمكننا القول إن الفطرة عمياء والعقل بصرها، وبكماء والعقل لسانها. ومن هنا فإن العقل لا يعمل بصورة مستقلة عن مطالب الفطرة، ولا يشكل وجوداً منفصلاً في عمله عنها، بل هما يعملان معاً. فالفطرة أولاً ثم العقل. والفطرة هي الأصل والعقل هو الذي يفكر من أجل الإجابة على تساؤلاتها. من هنا كان التفكير وكانت الأفكار من أجل معرفة النظام الصحيح الذي ينظم إشباع مطالب الفطرة، ويجعل الإنسان مطمئناً ويحقق له سعادته. فالسعادة هي المطلب الأسمى.
وهكذا يرتبط العقل بالفطرة، وعلى حامل الدعوة أن يعي هذا الواقع الموجود في كل إنسان ليعمل على هديه ووفق مقتضياته. عليه الانتباه إلى وجود الحاجة عند الإنسان الذي يدعوه، وإلى وجود الاهتمام عند عقله لمعرفة الجواب الصحيح بحكم ضغط الفطرة. وانتباه المسلم لهذا يفرض عليه أن يراعي في خطابه هذين الجانبين فيكون خطابه فطرياً عقلياً حتى يستطيع التأثير بشكل أقوى ويجعل المدعو مأخوذاً كلياً بما يدعى إليه لأنه سار في دعوته تماماً بحسب طبيعة الإنسان. وهذا الكلام هو في غاية الأهمية بالنسبة لحامل الدعوة. وهو الذي يضمن النتائج، ويكفي أن يقال إنه منهج القرآن في الخطاب كما سنبين ذلك لاحقاً، ومنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة.
وهنا لا بد من بعض التفصيل في تحديد دور العقل في فهم الخطاب وتلقي الأفكار ليراعى ذلك تماماً في الدعوة. فالعقل، في ارتباطه بالفطرة، له دوران:
ـ دور الحَكَم الذي يعطي رأيه في الموضوع الذي يبحث فيه، وهنا يعمل بصورة مستقلة، ويعتمد على المسلّمات العقلية أو البدهيات التي تشترك فيها العقول جميعها، ولا يختلف فيها عقلان. وبهذا الدور يتوصل العقل إلى إثبات القاعدة الفكرية الأساسية التي تصلح لأن تجيب على كل تساؤلات الحياة، والتي تحدد وجهة النظر في الحياة، والتي تصلح لأن تبنى عليها الأفكار وتقاس عليها التصرفات، ومتى توصل العقل إلى تلك القاعدة الأساسية أو الفكرة الكلية، فإن الفطرة تطمئن إلى السير بحسبها، ويصبح هواه تبعاً لها ولأحكامها ولكل ما ينبثق عنها من معالجات. وفي هذا الدور يكون عمل العقل إشباعاً للفطرة، ويوصل إلى الإيمان بالله الخالق المدبر، وكثرة التفكير فيه تؤدي إلى قوة الإيمان وإلى إشباع ما في النفس من حاجة إلى العبادة. وهذا الدور يتناول التفكير في وجود الله وقدرته، وعظمته، ووحدانيته… من خلال التفكير بالمخلوقات للوصول إلى الإيمان بالخالق، ويتناول التفكير في أن محمداً رسول الله، وأن القرآن كلام الله. ودور العقل هنا يقوم على الاستنارة في طريقة التفكير، والعقل يتوصل بنفسه إلى الأجوبة التي يبحث فيها لذلك يعتبر حَكَماً.
ـ دور الفاهم لما يتوصل إليه؛ وذلك أن العقل بعد أن يتوصل إلى الإيمان بالله الخالق وإلى أن محمداً رسول الله وإلى أن القرآن كلام الله، ينتقل إلى دور الفاهم لما يريد الله أن تكون العبادة عليه، إلى دور إثبات المسائل، أي فهم مراد الله في النصوص لمعرفة كيف تكون العبادة في مختلف شؤون الحياة. فعمل العقل هنا ليس مستقلاً يحكم على النصوص ويعطي رأيه فيها وإنما تابع لها، يسير بحسب ما ترشده إليه دلالات ألفاظها لذلك لا يصل إلى معرفة النظام الصحيح بنفسه، بل بواسطة الوحي، ويقوم عمله على فهم الواقع الذي تراد معالجته، وفهم النصوص المتعلقة بهذا الواقع، ومن ثم استنباط الحكم الشرعي عن طريق فهم اللغة العربية والقواعد والضوابط الأصولية في الفقه. لذلك يعتمد على العمق في التفكير. والعقل في هذا الدور، بعد أن يتم الوصول إلى الحكم الشرعي بواسطته، يصبح تنفيذ الحكم الشرعي هو المقصود، والالتزام به هو المطلوب، وبالرغم من أهمية العقل في هذا الدور إذ هو الموصل الوحيد إلى معرفة الحكم الشرعي ولكنه يبقى وسيلة وليس غاية. فالغاية هي أن يعيش المسلم في رحاب الحكم الشرعي والعقل دوره هنا إثبات المسألة فقط، لذلك يجب أن لا ينشغل المسلم حامل الدعوة بعمل العقل هنا عن الانشغال بتطبيق الحكم الشرعي إلا بمقدار ما يتطلب إثباته.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حامل الدعوة بعد أن يؤمن بعقيدته كقاعدة أساسية تبنى عليها أفكاره، وتنبثق عنها معالجاته تنشأ عنده طريقة معينة يسير في عقل الأشياء والأفعال بحسبها وهذا ما يسمى بالعقلية، ويصبح ميله للأشياء والأفعال بحسب المفاهيم التي تولدت من هذه القاعدة الأساسية، أي تصبح دوافعه للإشباع مربوطة بالمفاهيم التي اقتنع بها. وكيفية هذا الربط هي ما تسمى بالنفسية والناظر هنا في عمل العقل يرى أنه كالحاسوب المودع في الإنسان يعمل بحسب ما يلقم فيه من معلومات سابقة ليعتمد عليها في التوصل إلى أجاباته.
هذان هما الدوران اللذان يأخذهما العقل. وهما دوران مختلفان. فالدور الأول مطلوب لذاته، وكلما قام به المسلم وتعمق به، واستحضر له أدلته عمرت نفسه بالإيمان وزاد تقرباً من الله، ومحبةً له والتزاماً، وما يحدثه هذا الدور من أثر في نفس حامل الدعوة، فإنه يحدثه في الآخرين. ما يجعلهم يقبلون على دعوته مقتنعين ويستطيع أن يحملهم ما يحمله من دعوة إلى الآخرين. بينما نرى أن الدور الثاني مطلوب لغيره أي لأجل معرفة الحكم الشرعي، والعناية به تؤدي إلى تقوية عقليته وتنمية قدرته على التفكير والمجادلة بالتي هي أحسن، والاستنباط، وكلما قوي التزام حامل الدعوة بما أداه إليه استنباطه زكت نفسه وعمر قلبه وامتلأت نفسه بالرضى والاطمئنان.
من هنا فإن على حامل الدعوة أن يحقق التوازن بين عقليته ونفسيته فلا ينشغل بإثبات المسائل دون أن يعنى بنفسه وبالتزامها. بل لا بد أن يعنى بالاثنين سوياً. فيقوّي عقليته بالثقافة الإسلامية، ونفسيته بالالتزام والتقوى والطاعات، فيكون بذلك صادقاً مع نفسه، ومع ما يدعو إليه الآخرين، ويشكل عندهم المثل الصالح لما يدعو إليه.
ومن هنا كان حامل الدعوة الذي يعتنق الإسلام عن عقل وبينة وذلك باستعمال عقله كحَكَم، ويفهم أحكام الله فهماً صحيحاً وذلك باستعمال عقله في فهم النصوص استعمالاً منضبطاً، ويطبق أحكام الإسلام على نفسه وذلك بربط أعماله بالحكم الشرعي، يكون ذا شخصية إسلامية مؤثرة يعرف بسيماه بين الناس، ويظهر فيهم كأنه شامة. وحامل الدعوة حين يتصف بالشخصية الإسلامية يصبح مؤهلاً للجندية والقيادة في آن معاً، جامعاً بين الرحمة والشدة، والزهد والنعيم، يفهم الحياة فهماً صحيحاً، يستولي على الحياة الدنيا بحقها، وينال الآخرة بالسعي لها…، وذلك لأنه يمتلك ناصية الفهم الصحيح والالتزام المنضبط. ولكن هذا الفهم وهذا الالتزام له حدوده الدنيا وحدوده القصوى، وحامل الدعوة يجب أن يرتقي بعقليته ونفسيته حتى تصبح شخصيته قريبة من شخصية الصحابة والتابعين، وحتى يصدق عليه القول إنه من تابعيهم بإحسان، وحتى تتجلى فيه العبودية لله بأجمل صورها وهي صورة يتشوق حَمَلة الدعوة جميعهم إلى بلوغها، ويتشوق المسلمون إلى رؤيتها في الواقع. فحامل الدعوة بحق تعلمه أجواؤها الصعبة وطريقها الشاقة، وضعف النصير، أن يكون متذللاً لخالقه وبارئه فقط، ملتجئاً إليه وحده، خاشعاً في صلاته، متضرعاً إليه في سره وعلنه، مفكراً في فضله ونعمه، صائماُ في حار الأيام خوفاً من أحرها، مؤدياً لزكاته، غاضّاً لبصره، حافظاً لأماناته، وفياً بعهده، منجزاً وعده، مجاهداً في سبيله فإن لم يستطع فمحدثاً نفسه بالغزو داعياً إلى الله بالحسنى، يكلم الله في تلاوته للقرآن وقيامه… وقد وصف الله سبحانه الصفات التي يحبها في المؤمنين والتي تقربهم منه وتقربهم من نصره ورحمته واستحقاق رضاه وجنته. قال تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود) وقال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) وقال: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون) وقال تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياما) وقال تعالى: (لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وأولئك لهم الخيرات، وأولئك هم المفلحون أعدّ الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم) وقال: (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين).
هذه هي طريقة تكوين الشخصية وطريقة تنميتها. وهي نفسها طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد كان يدعو الناس للإسلام بدعوتهم للعقيدة الإسلامية حتى إذا أسلموا قوّى في نفوسهم هذه العقيدة، ولحظ التزام بناء عقليتهم ونفسيتهم على أساسها، ثم يأخذ يبين الآيات القرآنية التي تنـزل عليه من عند الله، ويشرح الأحكام ويعلم المسلمين الإسلام. قال تعالى: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) فتكونت بين يديه ومن أتباعه شخصيات إسلامية كانت أعلى الشخصيات في الكون بعد شخصيات الأنبياء. هذا هو الخط التصاعدي الذي على حامل الدعوة أن يلحظ موقعه فيه. فكلما رقي به قرب من الله سبحانه وتعالى.
إن المسلمين يميلون إلى الأخذ من حامل الدعوة الصادق الذي يجمع بين قوله وفعله، فمما لا شك فيه أن حامل الدعوة عندما يظهر عليه أثر التقوى والالتزام وتزكو نفسه، وتظهر عليه سماحة الإسلام، وإشراقه، فإن الله سبحانه يفتح عليه العقول، ويأسر القلوب ويجعل النفوس تهوي إلى دعوته. وبهذا يكتمل عطاء الدعوة ويكتمل كسبها وتبلغ أهدافها وينجي حامل الدعوة نفسه وغيره، فإذا كان إرضاء الله مطلوباً من المسلمين فعند حامل الدعوة هو المطلب الأول. وإذا كان مطلوباً من المسلمين أن يقوموا بحق الله عليهم في الدعوة، فإن حامل الدعوة إمامهم، وإذا كان مطلوباً من المسلمين أن يحسنوا علاقتهم مع ربهم فهو يتبع أحسنها… فحامل الدعوة لو نظر وتأمل بما يدعو وإلى ما يدعو، لوجد أنه يدعو إلى الإيمان بالله الخالق العليم القوي القدير الحي القيوم، الذي يستأهل العبادة، والذي تحب النفس أن تنشغل بعبادته، ويدعو إلى طلب رضاه والابتعاد عن كل ما يغضبه… فهذا الذي يدعو إليه هو أولى بالإيمان به، لأنه توصل إلى ذلك عن قناعة، ولأنه استحضر الأدلة الكثيرة التي تثبت صحة دعواه، ولأنه أكثر من الدعوة إليه… فهو في كل مرة يدعو إلى الله تزداد نفسه إيماناً وقلبه اطمئناناً وعقله يقيناً. ومتى امتلأت نفس حامل الدعوة بالإيمان بالله امتلأت بمحبته وبمحبة طاعته وسجدت لله راغبة، لذلك نرى أن إعمال حامل الدعوة لعقله في أفكار دعوته يجب أن يسير جنباً إلى جنب مع إشغال قلبه، يضاف إليهما التزام الجوارح.
إن هذا الحديث عن عمل الفطرة وعمل العقل وارتباطهما، وعن تكّون العقلية والنفسية وتنميتهما، بهذا الإسهاب الغرض منه أن يعلم حامل الدعوة كيف يتكون الرأي عند المسلم، وكيف يتكون الموقف عنده، ليعمل على ضوء ذلك ويهتدي بإرشاده، وليلتزم حامل الدعوة بما يجب أن يلتزم به عن قناعة، وليكون مثالاً وقدوة لغيره .
2000-09-10