الغـرب و الصـهيونيـة أيهـما يسـخِّر الآخـر ؟
2000/09/10م
المقالات
1,749 زيارة
ذهب المراقبون مذاهب مختلفة في هذا الموضوع فمنهم من قال إن الصهيونية هي التي تسيطر على أميركا وعلى الغرب وعلى العالم، ومنهم من قال إن أميركا وقبلها الإنجليز والغرب عامة هم الذين أوجدوا الصهيونية ودولة يهود لخدمة مصالحهم وسياساتهم. ولإدراك حقيقة الأمر لا بدَّ من معرفة كيف ولماذا وجدت المنظمات الصهيونية ودولة يهود؟ ومن أوجدها؟ هل هو نشاط اليهود وإخلاصهم لقضيتهم كما يتبادر للذهن، أو أنها الدول الكافرة المستعمرة، التي أنشأتها لتحقيق مصالح هذه الدول قبل كل شيء؟ ثم ما الغاية من وجود هذه الدولة؟ هل هو العطف على اليهود أو أنها غاية أخرى في نفس مَنْ أوجد هذا الكيان؟
أما القول أو العزف على مقولة العطف على شعب مشرد مضطهد منذ آلاف السنين، فإنه يعارض ما حصل في الدول التي تدعي العطف على اليهود، إذ إن من يعطف على أحد يؤويه عنده ويرعاه، ففي بريطانيا «مؤسسة المنظمات الصهيونية وراعيتها» أصدر الملك إدوار الأول مرسوماً يقضي بطرد اليهود من الأراضي البريطانية. وكان رجال الدين النصارى يجوبون المناطق لإثارة الناس على مناهضة الكفار «اليهود». وقد رحِّلَ من اليهود أكثر من 16 ألف يهودي إلى فرنسا.
وفي فرنسا قرر الملك فيليب طردهم إلى إسبانيا عام 1306م. وفي عام 1489م أمر لويس الثاني عشر ملك فرنسا بنفي اليهود متهماً قادتهم بارتكاب الجرائم، وخيرهم بين النفي وبين التنصر، فقام جامور حاخام مدينة ارل باستشارة مجلس الحاخاميين في استامبول، فرد المجلس الحاخامي عليه: “بأن ملك فرنسا يطلب منكم أن تعتنقوا الديانة المسيحية، فلبوا طلبه، إذ ليس في مقدوركم مخالفته ولكن احتفظوا على الدوام بشريعة موسى في قلوبكم، وتقولون بأنهم يقصدون الاستيلاء على أموالكم فاجعلوا أبناءكم تجاراً، وتؤكدون بأنهم يهدمون مجامعكم وكنائسكم فابذلوا الجهد لأن يصير أبناؤكم كهنة واكليريكيين وهكذا يتسنى لكم هدم كنائسهم”.
وأما في إسبانيا فقد طرد اليهود منها كلية سنة 1493م. وفي روسيا كان الاضطهاد على أشده خصوصاً بعد أن اشترك اليهود في محاولة اغتيال القيصر.
وأما من كان وراء إقامة دولة لليهود في فلسطين فإن المشاهد بالحس أن بريطانيا ـ وهي الحاقدة على الإسلام والمسلمين ـ هي صاحبة هذه الفكرة، والتي لم تألُ جهداً في تحقيق ذلك وقد برزت بشكل واضح في المؤتمر الذي دعت إليه بريطانيا كلاًّ من فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولندا. عقد هذا في لندن سنة 1905م بصورة رسمية وسرية، وقد استمرت جلسات المؤتمر حتى سنة 1907م برئاسة رئيس وزراء بريطانيا السير هنري كامبل باترمان. وقد تم تشكيل لجنة عليا مختصة بالشؤون الاستعمارية مؤلفة من أعضاء الدول المشتركة، واجتمعت هذه اللجنة في لندن سنة 1907م وكانت تضم جماعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول. وانتهى تقرير المؤتمر عام 1907م باتخاذ توصيات عديدة مثل تقسيم مناطق النفوذ بينها وغير ذلك من أمور الاستعمار لأن اليافطة التي عقد المؤتمر تحتها يافطة الاستعمار والمحافظة عليه. وكان من القرارات التي اتخذها هذا المؤتمر قرار إنشاء دولة لليهود في فلسطين، لتحقيق ثلاثة أمور مهمة لخدمة مصالح الدول الكافرة المستعمرة، بزعامة بريطانيا آنذاك، وهي: فصل بلاد المسلمين في المشرق عنها في المغرب ما يجعل وحدتها أكثر صعوبة، والثاني: زرع عدو جديد للمسلمين في بلادهم، في أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومن ثم يستقطب اهتمامهم، وتتركز جهودهم للقضاء عليه، فيخفف ذلك من تصديهم لعداء الغرب الصليبي وينسيهم مآسي الحروب الصليبية.
والثالث: إقامة قاعدة متقدمة للكفار المستعمرين وعلى رأسهم، بريطانيا، زعيمتهم آنذاك، تحفظ لهم مصالحهم، وتنفيذ مخططاتهم ومؤامراتهم، وتؤمِّن لهم تدفق الموارد والتسويق التجاري لمنتجاتهم في المنطقة.
وقد تبنت بريطانيا، أوائل هذا القرن تحقيق ذلك، فقد ناقشت الوزارة البريطانية عام 1914 خمس أوراق بالنسبة لمستقبل فلسطين.
واختارت الرابعة والخامسة، تقضي الرابعة بتحويل فلسطين إلى مستعمرة صهيونية فوراً وتسليمها للمستوطنين الصهاينة. وواجه الاقتراح صعوبات للغاية نظراً للكثافة السكانية العربية، فتقرر تبني الورقة الخامسة، أي وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني لعدة سنوات، تفتح أثناءها أبواب فلسطين للهجرة الاستيطانية اليهودية، ويتم خلالها بناء المؤسسات الاستيطانية التي تقوم بتسلم فلسطين حينما تكون جاهزة لذلك. ثم كان وعد بلفور وصك الانتداب البريطاني على فلسطين من عصبة الأمم، ومن ثَمَّ تولي بريطانيا إقامة كيان لليهود في فلسطين. كل هذا يدل على أن العنصر المؤثر هنا ـ في أهم واقعة في تاريخ المشروع الصهيوني ـ هو المصالح البريطانية لا قوة الصهاينة الذاتية أو «حيلهم الثعبانية». وهذه المصالح هي ذاتها التي كانت تقرر مضمون «القرارات» الكثيرة التي أصدرتها وزارة الخارجية البريطانية أبان فترة الانتداب. سواء أكانت خلال الحرب الأولى مثل وعد بلفور أم بعد الحرب إبان فترة الانتداب.
وأدرك مؤسس الحركة الصهيونية، تيودور هرتزل هذه المصلحة مبكراً واستخدم حاييم وايزمان الاستعارة التجارية ذاتها حين كتب لتشرشل قائلاً: “إن السياسة الصهيونية في فلسطين ليست على الإطلاق تبديداً للموارد، وإنما هي التأمين الضروري الذي نعطيه لك بسعر أرخص من أن يحلم به أي فرد آخر”، وأفاض وايزمان في شرح وجهة نظره مبيناً أن الاستعمار البريطاني بتأييده للمنظمة الصهيونية، قد وضع ثقته في مجموعة مستعدة أن تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية المادية عن الاستعمار “وإذا تبين أن تكاليف الحامية البريطانية ستكون مرتفعة، عندئذ يمكن تنظيم وتسليح المستعمرين اليهود”. ثم يتساءل وايزمان بشيء من الخطابية وبكثير من التوتر: “هل تمت أية عملية استعمارية أخرى تحت ظروف مواتية أكثر من هذه، أن تجد الحكومة البريطانية أمامها منظمة لها دخل كبير على استعداد أن تضطلع بجزء من مسؤولياتها التي تكلفها الكثير؟”. وقال أيضاً: “إذا دخلت فلسطين في نطاق النفوذ البريطاني، وإذا شجعت بريطانيا عملية استيطان اليهود هناك وأصبحت دولة خاضعة لبريطانيا فسيصبح هناك خلال عشرين إلى ثلاثين عاماً مليون يهودي يقومون بخدمة المصالح البريطانية”.
أما بالنسبة لأميركا فلم تكن حاضرة يوم ولدت المنظمات الصهيونية من رحم بريطانيا، ولا يوم ولدت إسرائيل من رحم الدول الأوروبية مجتمعة وعلى رأسها بريطانيا. كانت في عزلتها، وكانت في عالمها الجديد، ولكنها حين قررت الخروج من عزلتها بعد الحرب العالمية الثانية، وجدت هذا اللقيط فاحتضنته، وقامت على إرضاعه وتربيته، مدركة الغاية التي وجدت إسرائيل من أجلها، وبدأت تستعملها كما تشاء.
ويؤكد وزير المال الإسرائيلي يعقوب ميريدور مدى رخص المشروع الصهيوني وانخفاض ثمنه. ففي حديث إذاعي له في راديو القوات المسلحة الأميركية ذكر: “أن إسرائيل تحل محل عشر حاملات طائرات”، ثم قدم الوزير الإسرائيلي كشف حساب بسيط جاء فيه “إن تكلفة بناء الحاملات العشر هذه تبلغ 50 بليون دولار”ن وأضاف الوزير ـ وهو الخبير بالأمور الاقتصادية ـ أنه لو دفعت الولايات المتحدة فائدة قدرها 10% على تكاليف تشييد هذه الحاملات لبلغت 5 بلايين دولار، في حين أن المعونة الأميركية لا تصل بأية حال إلى هذا القدر. واختتم ميريدور حديثه بملحوظة وقال: “أين إذاً بقية المبلغ؟”.
وعلى الخط الإعلامي نفسه ذكر أرييل شارون أن “المعونات التي قدمتها الولايات المتحدة للكيان الصهيوني لا تزيد على ثلاثين مليار دولار”، ثم قال بشكل جدي ما قاله ميريدور بشكل فكاهي: “إن الولايات المتحدة لا تزال مدينة لنا بسبعين ملياراً”، وترد الفكرة نفسها في مقال لشلومو ماعوز المحرر الاقتصادي في ألـ “جيروزاليم بوست” بعنوان «صفقة استراتيجية» حين أشار إلى أن الإسرائيليين يعرفون جيداً أن مساعدة الولايات المتحدة للدولة الصهيونية هي في جوهرها مساعدة لخدمة مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية “فالولايات المتحدة تدفع سنوياً 130 بليون دولار لقواتها في حلف شمال الأطلسي و40 بليوناً للوفاء بالتزاماتها في المحيط الهادئ، وبالتالي فمساعداتها العسكرية والمدنية لإسرائيل صغيرة بشكل مضحك، إذا ما قورنت بالمبالغ الآنفة الذكر، خصوصاً إذا ما تم النظر إلى هذه المساعدات باعتبارها استثماراً لحماية مصالح أميركا في المنطقة”.
هذا هو المفهوم الغربي لإسرائيل. فالمدافعون عنها في الولايات المتحدة لا يتحدثون عن المغانم الاقتصادية الثانوية أو المغارم الاقتصادية التافهة، وإنما يشيرون دائماً إلى الحليف الذي يمكن التعويل عليه، وإلى المغانم الاستراتيجية الأساسية الهائلة، وقد عبَّرت مجلة “الايكونومست” في «20 تموز/ يوليو 1985» عن موقف هؤلاء بقولها: “إذا كان من الحكمة لأميركا أن تدفع 130 بليون دولار كل عام تكاليف حلف الأطلسي، فمن المؤكد أن إسرائيل وهي المخفر الأمامي والقاعدة المحتملة، تستحق مبلغاً تافهاً مثل 4 بلايين دولار”.
ولخص صحافي إسرائيلي كل المواضيع والاستعارات السابقة في قوله إن الزعماء الإسرائيليين مضطرون دائماً أن “يُذكِّروا القيادة الأميركية في واشنطن بمقدار تكلفة وجود الجيش الأميركي في غرب أوروبا مقابل تكلفة الهبات الممنوحة لنا” وبيَّن “أن الجيش الإسرائيلي ليس خدمة حربية كامنة وحسب، وإنما أيضاً خدمة رخيصة، بل إنها أرخص من أي خيار عسكري آخر محتمل أميركياً في منطقتنا”. وحسب ما جاء في مقاله أن البنتاغون يوافق على هذا الرأي، ولذا لا يبدي “أي تأفف إزاء الحساب الذي يقدمه الإسرائيليون، حتى أن هناك من يرى فيه أنه رخيص نسبياً”.
هذا هو السر الحقيقي للنجاح الصهيوني في الغرب، فهو لا يعود لسيطرة اليهود على الإعلام، أو إلى لباقة المتحدثين الصهاينة، أو إلى مقدرتهم العالية على الإقناع والإتيان بالحجج والبراهين، أو إلى ثراء اليهود وسيطرتهم على التجارة والصناعة، وإنما يعود إلى أن «صهيون الجديدة» هي جزء من التشكيل الاستعماري الغربي، وإلى أن الإعلام واللوبي الصهيونيين يمثلان أداته الرخيصة.
وهذه حقيقة ثابتة قاطعة بالنسبة ليهود، فهم لا قوة ذاتية لهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، كما بيّن الله سبحانه في كتابه، أما الحبل من الله فقد انقطع منذ أن حرفوا دينهم وقتلوا أنبياءهم، وبقي الحبل من الناس، فتطفلهم على القوى الدولية وخدمتهم لمصالحها هو الذي يبقيهم في مواقعهم، ولكن إلى حين، وإن غداً لناظره قريب
2000-09-10