الانتخابات الفلسطينية وخارطة الطريق
الكل يجمع أن أميركا لا تريد خيراً ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة 217] ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾ [إبراهيم: 46]. وكل من رفض أوسلو، وهم جل الحركات والتنظيمات والأحزاب والأفراد، رفض خارطة الطريق؛ لأن خارطة الطريق أشد سوءاً من أوسلو، بل إن خارطة الطريق تجاوزت أوسلو، وأرجعت العملية السلمية إلى المربع الأول، حيث أضافت مرحلة انتقالية جديدة، لمدة ثلاث سنوات، بعد أن كانت المرحلة الانتقالية التي نصت عليها اتفاقات أوسلو (ومدتها خمس سنوات) قد انتهت منذ عام 1999، وتجاهلت بذلك حقيقة أن مفاوضات الوضع الدائم كانت قد جرت في كامب ديفيد وطابا، وكان أولى بها أن تبنى على ما أحرزته من تقدم، كما أنها، عند إشارتها إلى مفاوضات الوضع النهائي في عام 2005، لا تذكر بصراحة أن الهدف منها هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والقابلة للبقاء. فبعد أن كانت أوسلو تتحدث عن دولة ذات سيادة، أصبح الحديث في خارطة الطريق عن دولة في حدود مؤقتة، وهذا النوع من الدول لم تعرفه جغرافية العالم ولا تاريخه الطويل.
ولكن الغريب في هذه الأيام، أن جميع الحركات والتنظيمات والأحزاب التي رفضت أوسلو لسوء ما ورد فيها، واعتبرت خارطة الطريق مهزلة، وقبولها تفريط في حقوق الشعب الفلسطيني، وجدناها تتسابق لتنفيذ بنودها، وتتصارع لخدمة السيد بوش، وتنفيذ مخططات أميركا. فعجيب أمر هذه الحركات، ترفض أوسلو، وتقبل ما هو دونها، كفعل يهود عندما استبدلوا المنَّ والسلوى بالبصل والثوم، وإن كانت أوسلو ليست مَنَّاً ولا سلوى، ولكنها بمقاييسهم أفضل من خارطة الطريق، وترفض خارطة الطريق بالجملة وتقبلها بالمفرق.
فخارطة الطريق يتفاعل في تنفيذها كل من الفلسطينيين كأفراد وحركات وسلطة ودول عربية، وهي ليست للسلطة فقط. ففيها بنود يجب على الدول العربية تنفيذها، ففي المرحلة الأولى: «تتحرك الدول العربية بشكل حازم لقطع أي تمويل حكومي أو خاص للجماعات المتطرفة» وفي المرحلة الثانية: «إعادة الروابط العربية الأخرى مع إسرائيل التي كانت قائمة قبل الانتفاضة (المكاتب التجارية… الخ)» وفي المرحلة الثالثة: «تقبل الدول العربية بعلاقات طبيعية مع إسرائيل، والأمن لكافة دول المنطقة، بما يتوافق مع مبادرة قمة بيروت العربية» وفيها بنود يجب على السلطة تحقيقها، فمثلاً في المرحلة الأولى: «تعيين حكومة فلسطينية جديدة، وإنشاء منصب رئيس وزراء و”بصلاحيات” وبما يشمل أي إصلاحات قانونية لهذا الغرض» وقد نفذته السلطة و«تصدر القيادة الفلسطينية بياناً لا يقبل التأويل، يعيد تأكيد حق إسرائيل بالعيش بسلام وأمن، ويدعو لوقف فوري للانتفاضة المسلحة، وكافة أشكال العنف ضد الإسرائيليين في كل مكان، وتوقف كافة المؤسسات الفلسطينية عن التحريض ضد إسرائيل» وقد نفذته السلطة، بل إنهم يستنكرون كل عمل للمقاومة و«تدمج جميع أجهزة الأمن الفلسطينية ضمن ثلاثة أجهزة، وتكون مسؤولة أمام وزير الداخلية صاحب الصلاحيات» وهي تباشر تنفيذ هذا الأمر. وفي المرحلة الثانية: «استمرار تنفيذ التعاون الأمني، واستكمال جَمْع الأسلحة غير المشروعة، ونزع أسلحة الجماعات العسكرية، استناداً للمرحلة الأولى من الاتفاق الأمني». وتركز الخارطة في كل المراحل على الالتزام الأمني من الجانب الفلسطيني. وهناك بنود في خارطة الطريق لا يمكن تحقيقها إلا باستجابة الناس وقبولهم لها مثل الانتخابات.
فخارطة الطريق ثلاث مراحل، ولا يتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى إلا باستيفاء متطلبات المرحلة التي سبقتها. فللانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية لا يتم ذلك إلا بعد إجراء الانتخابات، فقد ورد في الخارطة «وتبدأ المرحلة الثانية بعد الانتخابات الفلسطينية» فالانتخابات جزءاً جوهرياً من الخارطة، فقد تكرر ذكرها في معظم بنود الخارطة بحيث لا يتأتى السير في الخارطة دون إنجاز الانتخابات؛ ومن هنا كانت السلطة الفلسطينية حريصة كل الحرص على إجراء الانتخابات؛ لأجل الانتقال لمرحلة أخرى من خارطة الطريق. ومن هنا جاءت خطورة الانتخابات، إذ إنها خطوة متقدمة على طريق إنهاء القضية الفلسطينية، بإجماعٍ من كل الفصائل الفلسطينية المشاركة في هذه الانتخابات. ومن هنا أيضاً جاءت حرمة المشاركة في كل هذه الانتخابات: عملاً، ومساعدةً، وإرشاداً، وتوجيهاً، ودعايةً، وترشحاً، وترشيحاً، وتزكيةً، وانتخاباً. فكل متعلقات الانتخابات تأخذ حكم الحرمة، كما تأخذ مقدمات الزنا حكم الحرمة، فليس الزنا وحده حرام، بل كل مقدماته من تقبيل، وعناق، ولمس، وغيره. وكحرمة كل أمر متعلق بالقتل، فليس مباشرة القتل وحده هو الحرام، بل كل إعانة على القتل من مراقبة، وشراء للسلاح، وحث على القتل، كله حرام.
ولا يقال إن المشاركة في الانتخابات هي لأجل التغيير من الداخل، فكيف نستطيع التغيير والتأثير ونحن خارج هذه المؤسسات؟! فسنعمل على إفشال خارطة الطريق من داخلها!! لا يقال ذلك لأن الرسول لم يتعامل بهذا الأسلوب من التحايل. وقد رفض كل العروض التي كانت من هذا القبيل ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: 6]. وقد فصّل ذلك سيد قطب في بحثه للمفاصلة مع الأنظمة الكافرة، واعتبر أن أي تنازل من الكفار عن جزء من دنياهم -إن تنازلوا- سيقابله تنازل عن جزء أكبر من دينك. فانظر من الخاسر؟! ومن المعلوم بداهة أن من أراد أن يدخل أية لعبة كانت فعليه أن يلتزم بقوانين تلك اللعبة وقوانين اللاعبين، فمن أراد أن يدخل ملعب كرة القدم لا أظنه يحضر القوانين معه، بل عليه أن يلتزم بقوانين اللعبة، سواء وافقت هواه أم لم توافق، وإن خالفها سيجد نفسه ملفوظاً خارج اللعبة. وفي التجربة الأردنية والسودانية والجزائرية عبرة -فالشقي من لم يتعظ بغيره- في الأردن وصل الأمر بالمشايخ في وزارة الزراعة أن يعطوا المزارعين قروضاً ربوية، ووصل الأمر بالشيخ رئيس البرلمان أن يحضر جلسات المجون لجوليا بطرس ويصفق لحسن أدائها، فلا بد للاعب من الالتزام بقوانين اللعبة، وإلا وجد نفسه خارج الملعب، وهذا ما حصل في تجربة السودان أيضاً. إلا أن الحكومات دائماً تتخلص منهم بعد نفاد صلاحيتهم، أو انتهاء الدور المناط بهم. وإذا خُشي منهم فالجزائر ما زالت شاهد ينفطر القلب له.
ولا يقال إن الانتخابات التشريعية والرئاسية فقط هي الحرام، بينما الانتخابات البلدية حلال؛ لأنها مجرد خدمات، وأنت لا بد لك من اختيار الأصلح؛ لا يقال ذلك لأنه ليس هناك انتخابات بلديات، فإن كان اسمها الآن بلديات فَسَيُحَوَّل بعد الانتخابات إلى سلطات محلية، كما نصت خارطة الطريق في المرحلة الثانية: «تحويل السلطة إلى السلطات المحلية من خلال تعديل قانون البلديات». وبالتالي فالانتخابات البلدية جزء من ترتيب الأوضاع السياسية في ظل الحلول. هذه واحدة.
أما الثانية فالقضية ليست أن الانتخابات البلدية حلالاً، فهي وكالة على مباح، وإنما القضية أن الانتخابات بوصفها انتخابات تعتبر جزءاً رئيساً من خارطة الطريق، فلا يمكن الانتقال للمرحلة الثانية من الخارطة دون إجراء الانتخابات، فبمجرد التسجيل للانتخابات تكون قد وافقت على الخارطة، وان تُمَرَر مشاريع أميركا على المسلمين وبلاد المسلمين، فبدل أن تكون على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يؤتينَّ من قبلك، تكون قد فتحت الثغرة، وشجعت غيرك على فتح ثغرته، ومكنت أعداء الله من اقتحامها، وأي ذنب أعظم من أن تمكن أعداء الله من بلاد المسلمين ومقدساتهم وأعراضهم؟!. فالانتخابات فكرة من أفكار خارطة الطريق، ولا تستطيع أن تَجتَزئ الخارطة وتقول أنا أقبل هذا الجزء؛ لأنه يجوز لي شرعاً أن أمارسه، أما باقي أجزاء خارطة الطريق فسأقاومها بكل ما أوتيت من قوة؛ لا يقال ذلك لأنه ليس مطلوباً منك في خارطة الطريق غير هذا الجزء، وهو أن تُنجح فكرة الانتخابات، أما باقي البنود فهي مطلوبة من السلطة، وهي لن تشاورك في تنفيذها، بل إنها ستعتبر مجرد قبول التسجيل للانتخابات منح للثقة لها ولخارطة الطريق معاً، وتبوء أنت بالإثم والعياذ بالله.
وإذا قيل إن القبول بالانتخابات ليس قبولاً بخارطة الطريق. فالسؤال هو: من أين أتت فكرة الانتخابات والإصلاحات عند السلطة؟! أهي من بنات أفكارها؟! أم من بنات أفكارها أن تشهد على نفسها بالفساد؟! ومن ثم تقر انه لا بدَّ من انتخابات وإصلاحات. بل إن الانتخابات والإصلاحات جزء جوهري من خارطة الطريق.
وقد أظهرت الانتخابات الفلسطينية إفلاس كل الحركات المشاركة فيها، إذ بدل أن تطرح نفسها ومشاريعها، وتحشد قواها الحزبية والحركية والتنظيمية، اتجهت نحو العشائرية والقبلية والعائلية، وتركت كل ما كانت تطرح من سنوات طوال، وأخذت تحشد عشائرياً معترفة بفشلها وشاهدة -كما شهدت السلطة على نفسها بالفساد- على عدم تأثيرها في الجماهير، فأثارت النعرات القبلية والأحقاد بين الناس.
فبدل أن تعمل هذه الحركات، كما كانت تدعي، على إزالة الفساد، إذا بها تكرس الفساد، وتعمل على تثبيته. وبدلاً من وضع الرجل المناسب على رأيهم في المكان المناسب وجدتها تضع ابن العشيرة في الموقع الذي يليق بالعشيرة بغض النظر أهناك من هو أكفأ منه أم لا.
ولذلك فهي انتخابات ركزت الفساد، وأظهرت التنظيمات والحركات على حقيقتها، فلا امتداد شعبياً لها، وليس لديها طرح فكري يقنع الناس. وإنما هي تنظيمات وحركات تقوم بأعمال مادية يُعجب بها الناس فيصفقوا لها، أو هي تنظيمات استهوت الجائعين فهتفوا لها لتمدهم بالطعام وقلة هم. ومن خلال هذا وذاك تتزاحم هذه الحركات على كرسي تجلس عليه من خلال هذه الانتخابات، غير آبهة بمن صنع هذا المقعد؟ وما هو المطلوب من الذي يجلس عليه؟ وما هو ثمنه؟
وهذه الانتخابات أعلنت السلطة مراراً وتكراراً أنها تريد إجراءها، وقد جاء موعد بدء التسجيل لها الآن لسببين:
1. إلهاء الناس عن الواقع المأساوي الذي يعيشون، وعن اللوك في فساد السلطة، خاصة بعد أن تراشق أقطابها الاتهامات علانية، وقاموا بخطف بعضهم البعض. وأصبح وضع السلطة أشبه بوضعها قبل الانتفاضة الثانية، فظهر عجزها، وقلة حيلتها، وعدم امتلاكها لأي شيء، بالإضافة لما يقوم به شارون من جرائم دون أن يستنكرها أحد.
2. الهدوء في منطقة الشرق الأوسط، وقبول المنطقة السير في الحلول الأميركية، يعتبر ورقة رابحة في يد بوش في الانتخابات الأميركية القادمة. فالتسجيل للانتخابات هو ما يريده بوش الآن. أما أن تحدث انتخابات فذاك أمر مختلف، وغالباً لن يحدث، وإن حدث فسيتخير له الزمان الذي تكون فيه النتيجة مضمونة لمن يريدون.
وفي النهاية فالانتخابات في البلاد المحتلة: أفغانستان، والشيشان، والعراق، وفلسطين، لا تعدو كونها وسيلة لإظهار ممثلين لشعوب تلك المناطق، قادرين على تنفيذ ما تمليه عليهم الدول المحتلة، بعد أن استُنفدت صلاحيات الحكام في تلك المناطق؛ ومن هنا كانت الانتخابات، وإن كانت في أصلها مباحة، إلا أن الظروف والملابسات التي رافقتها جعلت هذه الانتخابات وكالة على حرام؛ فيحرم أي نوع من المشاركة فيها .
أبو رسل