قبلة الإيمان وقبلة الكفر
2012/04/01م
المقالات
1,904 زيارة
قبلة الإيمان وقبلة الكفر
أبو مريم الشامي
قال الله تعالى في الآية 145 من سورة البقرة: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )
ورد في تفسير ابن كثير ما يلي:
يُخْبِر تَعَالَى عَنْ كُفْر الْيَهُود وَعِنَادهمْ وَمُخَالَفَتهمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ شَأْن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ عَلَيْهِمْ كُلّ دَلِيل عَلَى صِحَّة مَا جَاءَهُمْ بِهِ لَمَا اِتَّبَعُوهُ وَتَرَكُوا أَهْوَاءَهُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ) وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ) وَقَوْله ( وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) إِخْبَار عَنْ شِدَّة مُتَابَعَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لِمَا أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهِ، وَأَنَّهُ كَمَا هُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فَهُوَ أَيْضًا مُسْتَمْسِكٌ بِأَمْرِ اللَّه وَطَاعَته وَاتِّبَاع مَرْضَاته وَأَنَّهُ لَا يَتَّبِع أَهْوَاءَهُمْ فِي جَمِيع أَحْوَاله، وَلَا كَوْنه مُتَوَجِّهًا إِلَى بَيْت الْمَقْدِس لِكَوْنِهَا قِبْلَة الْيَهُود وَإِنَّمَا كون ذَلِكَ صادراً عَنْ أَمْر اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ حَذَّرَ تَعَالَى عَنْ مُخَالَفَة الْحَقّ الَّذِي يَعْلَمهُ الْعَالِم إِلَى الْهَوَى، فَإِنَّ الْعَالِم الْحُجَّة عَلَيْهِ أَقَوْم مِنْ غَيْره، وَلِهَذَا قَالَ مُخَاطِبًا لِلرَّسُولِ وَالْمُرَاد بِهِ الْأُمَّة ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ).
وأورد صاحب الظلال في معرض شرحه لهذا النص: «فهم (أي أهل الكتاب) في عناد يقوده الهوى، وتؤرثه المصلحة، ويحدوه الغرض.. وإن كثيراً من طيبي القلوب ليظنون أن الذي يصد اليهود والنصارى عن الإسلام أنهم لا يعرفونه، أو لأنه لم يقدم إليهم في صورة مقنعة.. وهذا وهم.. إنهم لا يريدون الإسلام لأنهم يعرفونه! يعرفونه فهم يخشونه على مصالحهم وعلى سلطانهم، ومن ثم يكيدون له ذلك الكيد الناصب الذي لا يفتر، بشتى الطرق وشتى الوسائل. عن طريق مباشر وعن طرق أخرى غير مباشرة. يحاربونه وجهاً لوجه، ويحاربونه من وراء ستار. ويحاربونه بأنفسهم ويستهوون من أهله من يحاربه لهم تحت أي ستار.. وهم دائماً عند قول اللّه تعالى لنبيه الكريم: ( وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ )
وفي مواجهة هذا الإصرار من أهل الكتاب على الإعراض عن قبلة الإسلام ومنهجه الذي ترمز هذه القبلة له، يقرر حقيقة شأن النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه الطبيعي :
( وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ).. ليس من شأنك أن تتبع قبلتهم أصلاً. واستخدام الجملة الاسمية المنفية هنا أبلغ في بيان الشأن الثابت الدائم للرسول صلى الله عليه وسلم تجاه هذا الأمر. وفيه إيحاء قوي للجماعة المسلمة من ورائه. فلن تختار قبلة غير قبلة رسولها التي اختارها له ربه ورضيها له ليرضيه، ولن ترفع راية غير رايتها التي تنسبها إلى ربها، ولن تتبع منهجاً إلا المنهج الإلهي الذي ترمز له هذه القبلة المختارة .. هذا شأنها ما دامت مسلمة، فإذا لم تفعل فليست من الإسلام في شيء.. إنما هي دعوى..
ويستطرد فيكشف عن حقيقة الموقف بين أهل الكتاب بعضهم بعضاً فهم ليسوا على وفاق، لأن الأهواء تفرقهم :
( وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ).. والعداء بين اليهود والنصارى، والعداء بين الفرق اليهودية المختلفة، والعداء بين الفرق النصرانية المختلفة أشد عداء.
وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا شأنه وهذا شأن أهل الكتاب، وقد علم الحق في الأمر، أن يتبع أهواءهم بعد ما جاءه من العلم :
( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ )..
ونقف لحظة أمام هذا الجد الصارم ، في هذا الخطاب الإلهي من اللّه سبحانه إلى نبيه الكريم الذي حدثه منذ لحظة ذلك الحديث الرفيق الودود ..
إن الأمر هنا يتعلق بالاستقامة على هدي اللّه وتوجيهه، ويتعلق بقاعدة التميز والتجرد إلا من طاعة اللّه ونهجه.
ومن ثم يجيء الخطاب فيه بهذا الحزم والجزم، وبهذه المواجهة والتحذير.. ( إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) ..
إن الطريق واضح والصراط مستقيم.. فإما العلم الذي جاء من عند اللّه. وإما الهوى في كل ما عداه.
وليس للمسلم أن يتلقى إلا من اللّه. وليس له أن يدع العلم المستيقن إلى الهوى المتقلب. وما ليس من عند اللّه فهو الهوى بلا تردد…» (في ظلال القرآن، ج 1، ص: 135)
بعد أن استعرضنا أعلاه شرح الآية، ينبغي لنا أن ننزلها على الواقع المؤلم الذي تعيشه أمة الإسلام بعد دراسة هذا الواقع وتشخيصه. إن مما لا شك فيه أن الثورات التي قامت ولا تزال في بعض البلاد العربية تحمل في طياتها بشائر الفرج والنصر للأمة من بعد كبوة كدنا من خلالها أن نحسبها في عداد الأموات… ولكن ما يحز في النفس ويؤلم الفؤاد أن يلدغ بعض إخواننا الثوار من نفس الجحر الذي لدغوا منه من قبل، وما كان ينبغي لمؤمن أن يفعل هذا نظراً لتوجيه الرسول صلوات الله وتسليماته عليه بأن: «لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين».
فإخواننا في تونس ومصر واليمن وليبيا والمغرب وسوريا قد عزموا على إسقاط الطغاة، وبالفعل قد سقط بعضهم والبعض الآخر مآله إلى السقوط الحتمي بإذن العزيز الجبار. إنما نجد البعض منهم للأسف قد نسوا أو تناسوا أن هناك مصنعاً طاغوتياً قد أنتج هؤلاء الطغاة وأنظمتهم الكفرية، وما لم يوقفوا محركات هذا المصنع ويقطعوا أوصاله الطاغوتية، فسوف يعود عليهم نفس الطاقم من الطغاة -الذين بذلوا الأرواح والممتلكات من أجل دحرهم وأنظمتهم العفنة- ولكن بوجوه جديدة وأقنعة مجمَّلة سرعان ما تكشف عن أنيابها ونتانتها لماّ يُمكّن لها في الأرض من قبل نفس المصنع الذي أنتجها والذي يحرص على إبقاء النظام نفسه بيده، مهما تبدلت الوجوه والشخصيات… ويتمثل هذا المصنع في أعداء الدين والإنسان من الغرب الرأسمالي الكافر وأحلافه الذين ما فتئوا يسوقون لبضاعتهم الفاسدة وقبلتهم أو منهجهم المتهالك المعروف باسم الديمقراطية أو العلمانية أو الليبرالية أو المدنية أو ما شاكلها من الألفاظ التي تصب في نفس المصب الذي لدغ المسلمون منه على مدى عقود عجاف منذ سقوط دولة الخلافة الإسلامية قبل حوالى 90 سنة. ولكن هذه المرة وإدراكاً من هذا الغرب الماكر بأن الأمة تميل فطرياً إلى تحكيم دينها وقبلته في حياتها، وقد أيقنت أنه لا نجاة لها إلا بنهج الإسلام ونظامه العادل، أصبح يبحث ويتصل بوجوه متلبسة بالعباءة الإسلامية وتوصم بما يسمى بالاعتدال حسب المقياس الغربي ليعرض من خلالها مشروعاً خبيثاً للنظام الجديد القديم، والذي يمكن أن يُطلق عليه عبارة: «الإسلامقراطية» وهو عبارة عن إناء سياسي مزج فيه الطيب مع الخبيث، وخلطت فيه قبلة الايمان مع قبلة الكفر، ليلبسوا على الناس دينهم، ويقدموا لهم طبخة الدولة الديمقراطية ذات المرجعية الإسلامية وكان الأجدر أن تسمى بدولة الباطل على أكتاف الحق، إذ إن ما يسمى الديمقراطية تعني فيما تعنيه أن تُجعل هناك آلهة من البشر تعبّد الناس لها ليس بهيئة الركوع أو السجود، وإنما عن طريق اتباع ما يسنه أهل الزيغ من قوانين وتشريعات ما أنزل الله بها من سلطان…
روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي: «يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك»، فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) حتى فرغ منها، قلت له: إنا لسنا نعبدهم، فقال : «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه»؟ قال قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم» وكم صدق عبد الله بن المبارك ذلك التابعي الجليل حين قال:
وهل بدل الدين إلا الملوك
وأحبار سوء ورهبانها؟
لقد عرضت قريش على النبي صلى الله عليه وسلم أن تعبد إلهه يوماً ويعبد هو آلهتها يوماً آخر وذلك تماشياً مع منهج الوسطية والتميع -الذي يُروج له بكثرة في هذه الآونة- من أجل حقن الدماء وإنهاء الصراع وإشاعة الألفة والسماحة في المجتمع المكي، فما كان من حبيب الله إلا أن واجههم بوحي ربه قائلاً:
( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) ) نعم لنا ديننا الحق، لنا إسلامنا وقبلتنا ومنهجنا المتفرد المتميز عن أي دين أو قبلة أو منهج آخر، ولا يمكن أن تتفق قبلة الديمقراطية مع قبلة الإسلام في حال من الأحوال، فكما أنهم لا يمكن أن يتبعوا قبلتنا مهما آتيناهم من بينات وآيات وعبر، فكذلك لا يمكن أن نتبع قبلتهم مهما حاولوا أن يزينوها ويزخرفوها ويؤطروها بأي إطار كان. والجدير بالذكر أن هذه القبلة التي يسوقونها لخير أمة أخرجت للناس قد أصبحت مترنحة وآيلة للسقوط، فقد بدأ أصحابها بالكفر بها بعد أن جرت عليهم الويلات والمآسي على شتى الصعد مما لا يحصيه إلا رب البرية عز وجل. وما بعضهم بتابع قبلة بعض، بحيث نجد أهل الباطل متعددي الوجهات والمشارب، ونكاد لا نجدهم يتحدون إلا على محاربة الحق المتمثل في الإسلام، هذا إذا قدّر لهم أن يجتمعوا على ذلك وما نحسبهم بقادرين دوماً على هذا الاجتماع في التآمر. إذ إن مكر رب العزة جل جلاله غالبٌ مكر هؤلاء الذين تحركهم المصالح والأهواء، ويمكن أن يبيع بعضهم بعضاً إذا صادفوا في ذلك مصلحة مادية أكبر بينما أهل الحق متمسكين بمعية الله لهم، وواثقين أن إله الكون المتحكم بجميع شؤون خلقه لن يخذل عباده المتقين الصادقين الثابتين على نهجه بلا حيدة عن قبلته مهما تناوشتهم الأهواء أو جارت عليهم الصعاب، ومتيقنين أن النصر حليفهم مهما تكالب عليهم الأعداء من كل حدب وصوب… وأخيراً نقول: إذا أتى في هذه الآيات الكريمات تحذير للنبي المعصوم –أعظم خلق الله- من اتباع أهواء أهل الباطل غير المتبعين لقبلته في قوله عز وجل: ( وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فمن باب أولى أن يأتي هذا التحذير مشَدَداً لأتباعه غير المعصومين والمعرَّضين للضعف والزلل أثناء سلوك الطريق الشاق الطويل في مقارعة أهل الباطل…
وهذا في الحقيقة يعطي دفعاً قوياً لحملة الدعوة المخلصين الساعين لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة بأن النصر والاستخلاف سيكون لا محالة حليفهم ما داموا ملتزمين بقبلة الحق الصافية، ومعرضين عن قبلة الباطل وأهواء أهل الكفر والنفاق، والله معهم ولن يترهم أعمالهم، والله موهن كيد أعدائهم مهما بلغت قوتهم وطغى جبروتهم…
فليت شعري، كيف يتبع المسلمون أهل الباطل بينما باطلهم ليس واحداً؟ وكيف يتبعونهم وهم لا يتبعون بعضهم؟ وكيف يتبعونهم وعند المسلمين الحق من ربّهم؟… إن المؤمن الحق يثق بكلام الله سبحانه وتعالى، ويثبت عليه، ولا تتبدل وجهته وتتغير قبلته مهما تألّبت عليه الأوضاع، فكما أن قبلة الصلاة يحرم عليه أن يغيّرها، فكذلك قبلة الاتباع والطاعة يحرم تغييرها. وبما أن الخطاب في هذه الآيات هي للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته، فليتصوّر أحدنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم اليوم تُعرض عليه مثل هذه العروضات من الديمقراطية والمدنية… فهل كان سيأخذها؟! فليراجع من يسميهم الغرب بـ(المسلمين المعتدلين) أنفسهم قبل أن تزلّ قدمهم. ونذكرهم أن الدين محفوظ ولا مبدل لكلماته، وإنما هي فتنة مهلكة لهم، سينجي الله المؤمنين الصادقين منها بعونه ولطفه وذلك بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، والتي آذن فجرها بالانبلاج إن شاء الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
2012-04-01