سياسة تضليل العمل الإسلامي (1)
2000/01/06م
المقالات
2,093 زيارة
إن مسألة الصراع بين الحق والباطل قد وجدت بين بني البشر منذ خلق آدم عليه السلام، وذلك عندما أعلن إبليس ـ لعنة الله عليه ـ عصيانه لله تعالى، وحربه على نبي الله آدم عليه السلام وعلى ذريته من بعده، وتوعد أنه سيصرفهم عن الصراط السوي المستقيم إلى طرق الضلال والانحراف والاعوجاج. قال تعالى: (قال أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنك من المنظرين * قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين * قال اخرج منها مذءوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين)الأعراف14ـ 18.
وكانت الحادثة الأولى في هذا الصراع ما وقع من إغواء إبليس لعنة الله عليه لآدم عليه السلام، وإيقاعه في المعصية بعد أن دلاّه بغرور، فأكل من الشجرة التي نهى عنها، قال تعالى: (فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور فذاقا الشجرة…) الأعراف20ـ22.
ولم يقف الحد عند هذه المعصية بل استمر هذا الصراع في ذرية آدم عليه السلام، وكانت الحادثة الأولى بين ذرية آدم عليه السلام ما حصل مع قابيل وهابيل حين قرب أحدهما قربانا فتقبل منه، فأغوى الشيطان أخاه بالحسد، فسولت له نفسه قتل أخيه فقتله. قال تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين * … فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخسرين) المائدة 27ـ30.
وقد كان أشد هذا الصراع بعد ذلك هو الذي حصل بين أنبياء الله رضوان الله عليهم أجمعين وبين أقوامهم، فكان كلما جاء نبي قومه برسالة حصل التصدي والإعراض، والحرب الشعواء، وفي بعض الأحيان كان ينتهي هذا الصراع بقتل الأنبياء. والقصص القرآني مليء بهذه الشواهد التي تحكي قصة المواجهة والتصدي والتحدي لأنبياء الله، كقصة إبراهيم عليه السلام، وصالح، وشعيب، ويونس، وموسى، وعيسى عليهم صلاة الله وسلامه أجمعين.
ولعل أشد تلك المواجهة والصراع هو ما حصل بين رسولنا عليه السلام “محمد بن عبد الله” وبين قومه من قريش، في مكة المكرمة.
لقد جاءهم الرسول عليه السلام بأفكار جديدة تنزع ما كان بين ظهرانيهم من عادات وتقاليد وأعراف فاسدة، وتنزع من قسم منهم السيادة المبنية على العصبية والفساد والظلم. فكيف واجهت قريش رسول الله r، وكيف تمثلت الحرب على الرسول، وما هو أخطرها ؟؟
لقد تمثلت تلك الحرب الظالمة بعدة أساليب منها:
l اتهامه عليه السلام بالافتراء والاختلاق، قال تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا بريء مما تجرمون) هود35. وبالجنون والسحر، قال تعالى:(وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون)الحجر6، (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم أن هذا إلا سحر مبين)سبأ43.
l واتهم بتلقي القرآن عن بشر من الأعاجم، قال تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) النحل103.
وعندما فشلت محاولاتهم الفكرية لجأوا إلى استخدام القوة المادية، والبطش، والتعذيب، والتسلط فعذب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولاقى الأذى والتعب والمشقة، وعذب صحابته رضوان الله عليهم حتى استشهد قسم منهم، وهاجر آخرون هرباً بدينهم إلى الحبشة، وحوصروا في شعب أبي طالب حتى ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت. رغم كل هذا الاضطهاد صبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعندما رأت منهم قريش صلابة وصموداً حاولوا استرضاءهم وتضليلهم وخديعتهم.
لقد حاول الكفار استخدام سياسة التضليل في عهد النبوة في مراحل الدعوة، قبل الدولة، واستخدموها كذلك بعد قيام الدولة وبروز قوة الإسلام، وظلت هذه السياسة مستمرة حتى بعد وفاة النبي عليه السلام عبر التاريخ الإسلامي حتى يومنا هذا.
وقبل استعراض الأساليب التي اتبعت في عهد النبوة والخلافة الراشدة لا بد من الوقوف قليلا عند معنى التضليل. فما المقصود بهذه الكلمة لغة وشرعاً ؟؟
ورد في لسان العرب لابن منظور: أضللت الشيء إذا غيبته، وأضللت الميت إذا دفنته، وورد في كتاب الله عز وجل: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة، ويريدون أن تضلوا السبيل) النساء44، أي يريدون أن تغيبوا أو تبتعدوا عن الحقيقة والاستقامة. وقال: (إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون)الأنعام116، ومعنى يضلوك أي يصرفوك عن مادة الصواب إلى الباطل.
وورد في الحديث: «… وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم. وقال عليه السلام أيضا: «من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له…» رواه مسلم.
ومن استعراض هذه المعاني نرى أن كلمة التضليل معناها: صرف الإنسان عن الحق إلى الباطل عن طريق تغييب الحقيقة أو إخفائها، أو التورية بها، أو تشويه صورتها في الذهن أو عن طريق القدح والتشويه والطعن.
لقد حاول الكفار في مراحل الدعوة الأولى استخدام هذا الأسلوب من التضليل، فعرضوا على الرسول عليه السلام أن يعبد آلهتهم ويعبدوا إلهه مثل ذلك، أو أقل من ذلك. عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إن قريشا دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه مما أراد من النساء، فقالوا: هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة فيها صلاح، قال ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فجاء الوحي من عند الله: (قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين)الكافرون.
أما بعد الدولة والقوة والمنعة، فقد استخدم الكفار أساليب من التضليل، حاولوا فيها خديعة المسلمين وصرفهم عن الحق إلى الباطل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتصدى لهم في كل مرة، ويردهم عل أعقابهم خاسرين. من هذه الأساليب تبنى جزء من الفكرة، أو تبنى الفكرة بأكملها، أو الخداع في الأعمال والأقوال.
ولعل حادثة مسجد الضرار فيها درس بليغ في أساليب التضليل، وفيها من العظة والموعظة درس في كيفية التصدي والحذر من هذه المكائد. فقد جاء قسم من المنافقين على رأسهم المنافق الكبير أبو عامر الراهب، وتبنوا فكرة بناء مسجد، والفكرة بحد ذاتها فكرة طيبة وعظيمة، ولكنها في هذا الموضع خبيثة وخطيرة. حيث تذرع هؤلاء المنافقون بأنهم يريدون التخفيف من مشقة الطريق وعتمة الليل، والبرد والمطر، والحقيقة المخفية هي غير ذلك، حيث كان الهدف هو التضليل بهذا العمل، من أجل تفريق المسلمين، والإضرار بهم، ومقابلة رسل الروم الذين يأتونهم والتآمر معهم واتخاذ المسجد غطاءً لذلك. وقتل من يستطيعون قتله داخل المسجد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد انطلت هذه الفكرة على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنها لم تنطلِ على الرسول عليه السلام بوصفه نبياً يوحى إليه من ربه، حيث جاء الجواب من الحق تبارك وتعالى ليحذر المسلمين من هذا الصنيع، وليكون درسا لهم في المستقبل حتى قيام الساعة. قال تعالى:(والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبداً لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين) التوبة 107ـ 109.
وأسلوب آخر حاول الكفار به تضليل المسلمين وصرفهم عن جادة الصواب، اتبعته طائفة من أهل الكتاب، حيث قالت نؤمن بما أنزل على محمد أول النهار ثم نكفر آخره، فإذا رأت العرب ذلك ظنت بدين محمد سوء، وارتدت عن إيمانها، (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) آل عمران71.
أما الأسلوب الآخر، والذي يعتبر من أشد هذه الأنواع خطراً فهو تبني الفكرة نفسها، حيث خرج من بين العرب من يدعي النبوة افتراءً على الله ورسوله والمؤمنين، فظهر مسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة، وظهرت سجاح التميمية في بني تغلب في الجزيرة، وقد انخدع الناس بهذه الضلالة، وهذا التضليل، وصار لهؤلاء المجرمين أتباع كثر، ولم ينفع معهم في نهاية المطاف إلا السيف يجذّ رقابهم عن أجسامهم لتنتهي هذه الفكرة وتموت، وينتهي أتباعها في ذلك الوقت.
لقد كانت هذه من الأساليب الخطيرة التي استخدمها الكفار في عهد رسول الله عليه السلام وفي عهد الخلافة الراشدة من بعده، أما الطريقة التي واجهها بها عليه السلام وواجهها خلفاؤه رضوان الله عليهم فكانت طريقة واحدة لا غير، وهي طمس الظلام بالنور، والباطل بالحق، وعدم المهادنة أو الاطمئنان أو الاقتراب من دائرة الكفار، مهما كانت إغراءاتهم، ومهما كانت عروضهم، ومهما حاولوا بشتى الوسائل والأساليب. فالكفر هو الكفر، والإيمان هو الإيمان، كل منهما يسير في خط، ولا يلتقيان أبدا، والكفر عدو للإيمان مهما تلون وغير وجهه مصداقا لقوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) الأنفال36، وقوله: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) البقرة217، وقوله: (ولن ترضى عنه اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) البقرة120. والباطل لا يقوى على الحق أبدا إذا تمسك اتباع الحق به وصبروا وصمدوا على ذلك. فكما واجه عليه السلام الحرب الفكرية، وحرب الكذب والاتهام، والحرب المادية، كذلك واجه حرب التضليل بهذا النور الإلهي السامي الذي لا يقوى عليه ضلال ولا ظلام، ولا تقف أمامه الأطمسة.
لقد اتخذ هذا الأسلوب من الحرب ضد المسلمين في العصر الحديث، تماما كما اتخذ قديما، لقد اتخذ في أوائل القرن لهدم صرح الدولة الإسلامية العثمانية، فقد وجه الكفار أنظار المسلمين إلى فكرة القومية ليصرفوهم عن الوقوف على السبب الذي أضعف دولتهم حتى غدت رجلاً مريضاً، وكانت الفكرة القومية بشقيها العربية والطورانية من الخناجر المسمومة التي أصابت مقتلاً في جسم الدولة.
وضللوا المسلمين بفكرة القوانين الغربية لإدخالها في قوانين الدولة على اعتبار أنها سبب في تقدم الشعوب الأوروبية، وضللوها كذلك بحمل المعول أو الخنجر لقتل هذا الرجل المريض بدل إعطائه الدواء لشفائه.
واتبعوا أساليب من التضليل السياسي كذلك تجاه الدولة العثمانية، منها إشهار بعض الزعامات العميلة بإثارة حروب مصطنعة معه، يكون فيها عميلهم هو المنتصر، ويتظاهر المستعمر بأنه مهزوم كما حصل وتظاهرت بريطانيا بالهزيمة أمام قوات الجيش العثماني بقيادة مصطفى كمال أتاتورك في معركة غاليبو أنا فورطة سنة 1915. واكتسب هذا شهرة كبيرة أهلته فيما بعد لاستلام الأمور واستلام الحكم.
ولا يزال هذا الأسلوب الخبيث من الحرب الماكرة ضد الإسلام وضد العمل الإسلامي يتخذ وسيلة لصرف المسلمين عن جادة الصواب، أو الإيقاع بهم في شراكه، وذلك حتى يصرفهم عن هدفم في إعادة الإسلام إلى واقع الحياة باستئناف الحياة الإسلامية عن طريق إقامة دولة الإسلام، فلم يقف عداء الكفار عند هدم هذه الدولة في خلافة بني عثمان، بل يعملون بكل الوسائل والأساليب الخبيثة من التضليل لإجهاض العمل الإسلامي لإعادة دولة الإسلام.
فكيف تتمثل أساليب الكفر في التضليل هذه الأيام، وكيف يواجه حملة الدعوة هذه الأساليب الماكرة الخبيثة
[يتبع]
2000-01-06