موضوع إعجاز القرآن
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
ثمّ إنّ الله سبحانه لإقامة الحجة عليهم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثل سور هذا القرآن، ثم أعلمهم زيادة في التحدي أنهم لن يأتوا بمثله مهما دعوا من شهداء يساعدونهم من دون الله.
ومن الجدير ذكره أن الله سبحانه قد كان تحداهم في مكة أن يأتوا بسورة فعجزوا وذلك في سورة يونس (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) يونس/آية38 وهنا في البقرة وبعد الهجرة يؤكد الله سبحانه هذا التحدي مرة أخرى، لذلك جاءت الآية الكريمة في البقرة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) باستعمال (من) قبل مثله والتي تفيد هنا التوكيد لأن (مِن) زائدة للتوكيد. ولأن آية البقرة تأكيد للتحدي السابق في سورة «يونس» لذلك جاءت الآية اللاحقة حاسمة في عجزهم الأبدي عن الإتيان بسورة مثله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) لإقامة الحجة القاطعة على أن هذا القرآن العظيم كلام الله سبحانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد.
بعد ذلك بيّن الله سبحانه في آخر الآيات أنه أعدّ نارًا عظيمة للكافرين، وجنات للمؤمنين تجري من تحتها الأنهار، تحوي رزقاً من كلّ ما يشتهون من الثمار، متشابه في الجودة والحسن والطيب، ولهم كذلك أزواج مطهرة من كلّ إثم وأذى.
ثم يذكر الله سبحانه تفضله على عباده المؤمنين الصادقين بتخليدهم في الجنات في نعيم مقيم وخير عميم.
وهنا لا بدّ من وقفة عند إرسال الله للرسل ومعجزاتهم فنقول:
-
إن الله سبحانه قد خلق الخلق لحكمة وهي عبادته (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/آية56.
-
أرسل الله رسلاً ليبينوا للناس كيف يعبدونه – جلّ ثناؤه – واقتضت رحمة الله أن لا يعذِّب حتى يرسل رسولاً يبلغ عن الله سبحانه ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) الإسراء/آية15 (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) النساء/آية164.
-
أرسل الله سبحانه رسله للناس بمعجزات تحداهم بها لتُثْبِت للمرسَل إليهم بالحجة القاطعة أنَّ صاحب المعجزة المرسَل هو رسول من عند الله.
وقد اقتضت حكمة الله أن تكون المعجزة المتحدَّى بها والمرسلة مع الرسل لأقوامهم هي في أعظم شيء عندهم زيادة في التحدي وقوة في الإعجاز.
-
كان للسحر في عهد موسى – عليه السلام – شأن عظيم عند فرعون الطـاغـيـة وآلِه، فكانت معجزة موسى تشبه السحر (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) الأعراف/آية107-108 فظن فرعون أن الأمر سـهـل لعـظـمـة السـحـر عنده، فجمع السحرة لإبطال معجزة موسى – عليه السلام – (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)) الأعراف/آية111-114 ولقد التقى موسى – عليه السـلام – السـحـرة في يـوم عـيـد علـى مـلأ من الناس فأبطل الله السحر وأظهر معجزة نـبـيـه (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) ) الأعراف/آية116-117 عندها أدرك السحرة أن موسى – عليه السلام – رسول من عند الله حقاً وأن ما جاء به ليس سحراً، فآمنوا بالله رب العالمين وكان إيمانهم عجباً، فبعد أن اشترطوا على فرعون في البداية أجراً إن كانوا هم الغالبين تراهم الآن ينسون الدنـيا ويتحدَّوْن فرعون الطاغية وهو يهددهم بالقتل والصلب دون أن تضعف لهم عزيمة أو تلين لهم قناة (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) ) الأعـراف/آيـة124-126. (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) طه/آية72.
-
وفي عهد عيسى – عليه السلام – كان للطب شأن عظيم، وكان قد استعصى على الأطباء إحـيـاء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فجاءت معجزة عيسى – عليه السلام – قوية واضحة التحدي في أعظم علم عندهم (وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ) آل عمران/آية49. ولما حاولوا قتله شبه لهم ولم يمكنهم الله من قتله أو صلبه بل رفعه الله إليه ونجاه من شرهم (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)) النساء/آية157-158.
ولقد كان إيمان أصحابه – عليه السلام – عجباً كذلك «قال كونوا كأصحاب عيسى نشروا بالمناشير وحمّلوا على الخشب، فوالذي نفسي بيده لموتة في سبيل الله خير من حياة في معصيته» الحديث.
-
وفي عهد رسول الله ﷺكانت صناعة العرب هي الفصاحة والبيان يعقدون لها أسواقاً يتنافسون فيها في أعذب الكلام وأبلغه، فكانت معجزة محمّد ﷺأن أنزل الله عليه قرآناً يتلى عليهم من جنس كلامهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. تحداهم أولاً أن يأتوا بمثل هذا القرآن (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) )الإسراء/آية88. ثم بعشر سور من مثله( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) ) هود/آية13. ثم بسورة من مثله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) ) يونس/آية38.
فلم يأتوا بمثله وهم بأشدّ الحاجة لإبطال دعوة رسول الله ﷺ لو كانوا يستطيعون. وهذا التحدي والإعجاز قد تمّ في وقت كان العرب أقحاحاً يدركون معنى التحدي والإعجاز، فعندما لم يستطيعوا علموا أنه من عند الله، فكان إيمانهم كذلك عجباً لا يخشون في الله لومة لائم، يستشهدون وهم صابرون كأنهم يرون قصورهم في الجنة رأي العين إيماناً بالله ورسوله «صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة». وذاك لا يجري على لسانه إلا أحد أحد، وهو يعذب بشدة في سبيل الله، وآخر تقطع منه أجزاء من لحمه وهو حي وهو ثابت كالجبال الراسيات يساومونه على تركه مقابل أن يتمنى مجرد أمنية أن يكون رسول الله ﷺ مكانه يعذب وهو سالم في أهله، فيقول – رضوان الله عليه -: «والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحبّ أصحاب محمّد محمداً. ثمّ قتلوه فاستشهد يرحمه الله». فأعزهم الله بدينه ونصرهم بنصره ففازوا في الدارين ونعم أجر العاملين.
-
كانت تلك المعجزات للرسل دليلاً قاطعاً على صدق نبوتهم، غير أن معجزات الأنبياء السابقين كانت مؤقتة، يشاهدها الذين حضروها في وقتها، فلا تستمر بعد انقضاء رسالتهم في قومهم، أما معجزة رسول الله ﷺفهي باقية خالدة تتحدى الناس أجمعين في كلّ زمان ومكان، فالقرآن العظيم باقٍ خالدٌ يتحدى الناس، حاضراً لا غائباً، دائماً لا مؤقتاً. فرسالة الإسلام هي خاتمة الرسالات وهي للناس كافة إلى يوم الدين، ورسالات الأنبياء السابقين خاصة لأقوامهم “أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من قبلي: كان كلّ نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كلّ أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد من قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهوراً أو مسجداً، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)) الأنبياء/آية107 ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) سـبأ/آية28. فهذا القـرآن العـظـيم هو معـجـزة رسـول الله ﷺوهو كلام الله سـبحـانـه ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) )آل عمران/آية138 (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) ) الإسراء/آية9.