1- أميركا هي الدولة الأولى في العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وفي فترة الحرب الباردة التي أعقبت تلك الحرب والتي تمثلت بانقسام العالم إلى معسكرين : رأسمالي تتزعمه أميركا، واشتراكي يتزعمه الاتحاد السوفيتي، كانت القضايا الدولية تبحث على طاولة ما تسمى الدول الأربع الكبرى (أميركا والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا)، وظل الحال كذلك حتى عام 1961 حيت اتفق كينيدي وخروتشوف في مؤتمر فينا على حصر معالجة القضايا الدولية بين دولتيها فيما عُرف بسياسة الوفاق، التي اتسمت بالميل لصالح أميركا باعتبارها الشريك الأقوى دولياً. وبعد مجيء غورباتشوف للسلطة وظهور عوارض الانهيار على الكتلة الشرقية والاتحاد السوفيتي ذاته، بدأت أميركا تتهيأ للانفراد بالهيمنة على العالم كله. وجاءت حرب الخليج الثانية، وما رافقها وتلاها من تمزق الكتلة الشرقية وانهيار الاتحاد السوفيتي فرصة مواتية لواشنطن لتعلن عن ميلاد نظام عالمي جديد يقوم مضمونه غير المعلن على انفرادها بالهيمنة على السياسة الدولية، ومعالجة القضايا الدولية، وإن كانت شكلاً قد طرحت أهدافاً لا ينقسم حولها الغرب لهذا النظام من مثل توسيع وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وسياسات السوق في العالم كله. كما قامت بإحياء وتفعيل دور الأمم المتحدة وخاصة جهازها التنفيذي مجلس الأمن، ليكون الأخير أداتها الشكلية في فرض السياسات الدولية التي تخدم مصالحها تحت غطاء الشرعية الدولية. وأتاح إحياء دور الأمم المتحدة، وتفعيل دور مجلس الأمن الدولي بالذات للدول دائمة العضوية فيه دوراً نظرياً، حيث لكل من هذه الدول صوت واحد، كما أن لكل منها حق نقض أي قرار لمجلس الأمن لا توافق عليه. ولكن واشنطن بما لها من نفوذ عالمي هائل، وبما لديها من أوراق قادرة على أن تلعبها ضد كل مما تسمى الدول الكبرى (بريطانيا وفرنسا وروسيا والصين)، ولإدراك هذه الدول بأنها إن عرقلت ما تريده أميركا من خلال مجلس الأمن ستقوم واشنطن بتنفيذه من خارج هذا المجلس، ظلت هي الدولة التي تقرر ما يصدر عن مجلس الأمن لتغليف سياساتها بالشرعية الدولية، وظلت باقي الدول دائمة العضوية راضخة لواشنطن على أمل الحصول على الفتات، أو على الأقل تجنب عواقب الغضب الأميركي. وأما باقي الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن فهي مجرد عدد، لا تجرؤ أي منها على معارضة أميركا إلا ضمن الحدود التي تسمح بها واشنطن، فالموقف الدولي الراهن أن أميركا كالسابق لا تزال الدولة الأولى في العالم، غير أنها تنفرد الآن بمعالجة القضايا الدولية، سواء غطت هذا الانفراد بقرارات دولية من مجلس الأمن، أو بمشاركة إسمية لغيرها كما هو الحال بالنسبة لقضية الشرق الأوسط، التي تعالجها واشنطن بمشاركة روسيا الإسمية، وخارج نطاق الأمم المتحدة.
2- استراتيجية أميركا تجاه أوروبا لا تزال كما كانت منذ الثلث الأول من القرن الماضي حين صدر ما يسمى بمبدأ مورنو، وهي أن تظل أوروبا في حالة توازن، بمعنى أن تظل هناك قوتان متوازنتان في أوروبا بحيث لا يتاح لقوة أوروبية وحيدة الهيمنة على القارة كلها، على أساس أو أوروبا مؤهلة في حالة توحيدها تحت قيادة سياسية واحدة لتهديد أمن أميركا فضلاً عن تهديد مصالحها الحيوية وغير الحيوية. ورغم تعاظم التيار الأوروبي الهادف لتوحيد القارة منذ إنشاء السوق الأوروبية المشتركة وحتى التسعينات، إلا أن هذا التيار بدأ يتراجع وينحسر منذ سنوات بالرغم من اتفاقية ماستريخت التي استهدفت ظاهرياً تحويل القواسم المشتركة لدول المجموعة المتمثلة في منجزات السوق الأوروبية (على الصعد التجارية والاقتصادية والمالية والنقدية وإلى حد ما التشريعية، إلى جانب توقها ليكون لها ثقل مكافئ لثقل الولايات المتحدة في الشؤون العالمية) إلى وحدة سياسية. نقول “ظاهرياً” لأن بعض الدول الأوروبية الموقعة على ماستريخت لديها تحفظات تجاه التخلي عن هويتها الوطنية والقومية، كما لديها مصالح تتضرر من تنفيذ المعاهدة في جميع الحالات. فمثلاً لبريطانيا مصالح خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وعموماً إلى جانب ارتباطاتها الخاصة بكل من كندا واستراليا ونيوزلنده ودول الكومنولث بوجه عام، وهي غير مستعدة للتنازل عنها لشركائها الأوروبيين. كما أن لفرنسا مصالح خارج أوروبا في أفريقيا نتيجة للروابط التي لا تزال تحتفظ بها مع مستعمراتها القديمة في القارة السوداء، وهي كذلك غير مستعدة للتنازل عن هذه المصالح. وإذا كانت بريطانيا وفرنسا ليستا مستعدتين للذهاب بعيداً نحو الوحدة الأوروبية بسبب مصالحهما المهمة خارج القارة، فإن هناك همّاً أكبر يقلقهما هو الخطر الألماني الذي يتمثل في أن ألمانيا بفضل قوتها الاقتصادية الهائلة مرشحة للسيطرة على أوروبا طبيعياً في حالة نشوء وحدة أوروبية حقيقية. وبين كل من فرنسا وبريطانيا ذكريات تاريخية ليست بعيدة عما يمكن أن تحدثه الهيمنة الألمانية. وإلى جانب ذلك بدأت أوروبا منذ أواخر الثمانينات وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما كان يسمى بالمعسكر الاشتراكي، تشهد تنامي المشاعر القومية المتطرفة كالعودة إلى إحياء النازية في ألمانيا، وما شهدته فرنسا من تحول نحو اليمين المعتدل والمتطرف على حد سواء، حيث عاد الديغوليون وأنصارهم ليكتسحوا الانتخابات الفرنسية عام 1992، كما تعززت قوة حزب لوبان القومي المتطرف. وحتى إيطاليا بدأت تشهد مؤخراً تنامي الفاشيّة.
غير أن أميركا التي لم تنسحب من أوروبا، واستطاعت الإبقاء على حلف الأطلسي رغم زوال مبرر وجوده الذي كان يتمثل في الخطر الشيوعي، وإبقائها على روسيا كعملاق عسكري رغم كل ما تعانيه الأخيرة من تدهور اقتصادي ونقدي ومن اضطراب سياسي، والسماح لروسيا بالاحتفاظ بمجال حيوي لهيمنتها السياسية على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي انفصلت عنها شكلاً ولكنها عادت لتنضوي تحت عباءتها فيما تسمى مجموعة الدول المستقلة، وبما لواشنطن من نفوذ في العديد من الدول الأوروبية الغربية المرشحة للوحدة الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا وإيطاليا، ثم في الدول الأقل شأناً كاليونان وأسبانيا والبرتغال، كل هذه العوامل، وغيرها كثير مما لم نتعرض له، من شأنها أن تمكن أميركا من عرقلة التوجه نحو الوحدة الأوروبية بشتى الطرق والوسائل والأساليب، وليس أدل على ذلك من إشعالها حريق البلقان المتمثل حالياً في الصراع الدائر في البوسنة والهرسك، والمرشح للامتداد إلى مناطق أخرى من جمهورية يوغسلافيا السابقة كمقدونيا وكوسوفو، وما ينطوي عليه هذا الامتداد من جرّ دول أوروبية مجاورة وربما غير مجاورة لصراع لا يمكن التكهن بنتائجه، من أول آثاره تعزيز التوجهات القومية في أوروبا وإحياء المرارات التاريخية التي تحول طبيعياً دون الوحدة الأوروبية. وقد أظهرت قمة حلف الأطلسي الأخيرة التي عقدت في بروكسل في مطلع هذه العام أن أميركا لا تزال قادرة على فرض سياساتها على أوروبا حتى في الشؤون الأوروبية، كما حدث حين تبنّت القمة خطة كلينتون تجاه دول أوروبا الشرقية المتعلقة بالضم التدريجي لهذه الدول للحلف، دون إثارة روسيا، تحت شعار التحالف من أجل السلام.
3– حرب الخليج الثانية، التي مهّد لها دخول القوات العراقية للكويت وإعلان ضمّها للعراق، جاءت فرصة ذهبية لأميركا مكنتها من ضرب عدة عصافير بحجر، ولتحقق من خلالها هدفاً عزيزاً عليها لم تنجح أكثر من خطة لإنجازه، ألا وهو السيطرة على نفط الخليج. ذلك أن العالم سيواجه بشكل متزايد خلال العقود المقبلة استنزاف احتياطاته النفطية، الأمر الذي سيعني صراعاً بين القوى الصناعية الكبرى على تأمين احتياجاتها النفطية من خلال السيطرة على الدول المنتجة للنفط. فمن يسيطر على منابع النفط في القرن الحادي والعشرين ستكون له الغلبة، لأنه سيكون بمقدوره ليس فقط تأمين احتياجاته النفطية، وإنما فرض إرادته السياسية على الآخرين الذين بحاجة لما تحت سيطرته من نفط. وعلى سبيل المثال، فإن سيطرة أميركا على نفط الخليج يجعلها قادرة على التحكم بسياسات الدول التي تحتاج لهذا النفط كاليابان وألمانيا وغيرها من الدول الصناعية التي لا تنتج النفط، أو التي توشك احتياطاتها من النفط على النضوب. وإذا أخذنا في الاعتبار أن بدائل النفط من الطاقة لا تعد حتى الآن بتعويض نضوبه أو فقده، مما يعني تهديداً لعجلة الصناعة والمواصلات وللكثير من مجالات الحياة الأخرى التي تعتمد على النفط، ندرك أن مَنْ أطلق على النفط وصف “الذهب الأسود” قد أخطأ، لأنه في الواقع “الأكسجين الأسود ” أو”الماء الأسود” الضروريان للحياة، وليس مجرد مادة ثمينة وذات قيمة كالذهب.
وهذا كله مدرك عند أميركا منذ أوائل السبعينات حين شهد العالم أول هزة نفطية عقب حرب رمضان. حيث شرعت واشنطن رسم أكثر من خطة للاستيلاء على نفط الخليج، فقتلت الملك فيصل، وأسقطت الشاه، وبعد ذلك جرّت الاتحاد السوفيتي لدخول أفغانستان لتتخذ من دخوله بُعبعاً يدفع دول الخليج للارتماء في أحضانها، وانتهت خططها بتحويل الحرب العراقية – الإيرانية إلى خطر مباشر داهم يهدد دول الخليج، من خلال جعلها تتركز على البصرة، ثم وسعتها إلى مياه الخليج. ومع ذلك فإن كل هذه الخطط لم تفلح في تمكين أميركا من السيطرة على نفط الخليج حتى جاءتها الفرصة بسيطرة العراق على الكويت وإعلان ضمها، مما حمل دول الخليج على الاستسلام لمشيئة واشنطن.
غير أن الاستيلاء على نفط الخليج، رغم أهميته، ليس الهدف الوحيد الذي حققته أميركا من خلال فرصة حرب الخليج الثانية، وإنما هناك أهداف عديدة أخرى ذات أهمية بالغة، بحيث يمكن القول إن حرب الخليج الثانية شكلت منعطفاً بارزاً في السياسات الدولية وفي تعزيز الهيمنة الأميركية على العالم. ولعل أبرز هذه الأهداف المناورة الكبرى الحيّة التي نفذتها أميركا بقيادتها دول العالم في عملية تصدي للعراق. فقد أحيت دور مجلس الأمن وفعّلته وجعلته أداة لإضفاء الشرعية الدولية على تصرفاتها وأعمالها، بحيث بدا للجميع أن واشنطن القوة القائد للعالم كله، وأنها عملياً المنفردة في إدارته، مما برّر لبوش أن يعلن عن ميلاد نظام عالمي جديد. ومن الأهداف المهمة التي حققتها أميركا من فرصة حرب الخليج الثانية أنها مهّدت لها السبيل للشروع في حل ما تسمى بقضية الشرق الأوسط التي ظلت مستعصية على الحل عقوداً عديدة. فبعد تدمير قوة العراق العسكرية، ولو إعلامياً، والشروع في نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، سقط عملياً الخيار العسكري العربي في المواجهة مع إسرائيل لسنين عديدة على الأقل، مما عزّز موقف المنادين بما يسمى “الحل السلمي”. كما أن ما كشفته الحرب مما وصلت إليه قدرة العراق العسكرية غير التقليدية، ووصول الصواريخ العراقية ولو برؤوس تقليدية إلى تل أبيب، أقنع إسرائيل بأن المراهنة على تفوقها العسكري النوعي لن يدوم للأبد، فأية دولة عربية ذات إمكانات مالية قادرة حين تتوفر الإرادة السياسية على امتلاك أسلحة الدمار الشامل، فضلاً عن كون وصول الصواريخ لتل أبيب ألغى خرافة الحدود الآمنة. وإضافة لذلك فإن هجرة مئات آلاف الفلسطينيين من الكويت والخليج الناشئة عن الحب، والذين كانوا في معظمهم متمسكين بفلسطين كلها وليس بما يمكن أن يفرزه أي حل سلمي من فتات، أصبحوا بعد تهجيرهم – في معظمهم – أكثر استعداداً للقبول بالحل الاستسلامي لأسباب لا تخفى على أحد ز وهكذا تهيأت الفرصة لأميركا للشروع في حل قضية الشرق الأوسط وفق الأسس التي تتبناها للحل، والتي جاءت على لسان بوش في خطابه أمام الكونغرس في شهر آذار 1991 بعد انتهاء حرب الخليج الثانية مباشرة، خاصة وأن التشرذم العربي الذي نجم عن هذه الحرب كان عاملاً مساعداً مقصوداً.
ولا شك أن هناك أهدافاً عديدة أخرى حققتها أميركا من حرب الخليج الثانية، ليس أقلها نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتضييق الخناق على الأردن حتى لا يعرقل مساعيها لحل “قضية الشرق الأوسط”، وجعل العراق نموذجاً لما يمكن أن يحلّ بأية دولة ذا قوة إقليمية تفكر في التمرد على واشنطن، وجعل الآلية التي تعاملت بها مع الدول الأخرى، وخاصة الدول الكبرى الحليفة وغير الحليفة، سابقة لها ما بعدها في التعامل الدولي مع القضايا المختلفة.
وكما هو معروف فإن أميركا ظلت منذ السبعينات تعتمد في تنفيذ صياغتها على حل “قضية الشرق الأوسط” ولذلك فإن المتوقع أن تشرع بعد التوصل لاتفاقات “السلام” مع إسرائيل في تنفيذ هذه الصياغة التي ستنطوي على دحرجة الكثير من الرؤوس الحاكمة في الجزيرة العربية والخليج ومنطقة بلاد الشام، وتحويل دولها إلى جمهوريات “ديمقراطية” على غرار مصر والفلبين، ومحتفظة لنفسها بوجود عسكري داخل المنطقة وحولها للتدخل في حالات الطوارئ.
4- على أثر فشل مؤتمر الحوار الوطني في الجزائر، ورفض بوتفليقة أن يكون مجرد رئيس صوَري، اضطرت المؤسسة العسكرية للقفز للواجهة، وعيّنت الأمين زروال رئيساً للدولة، بصلاحيات واسعة على الصعيدين الداخلي والخارجي، رغم رفضها إعطاء مثل هذه الصلاحيات لرئيس الدولة حين كان المنصب معروضاً على بوتفليقة.
ورغم ما يتردد في وسائل الإعلام العالمية والعربية عن وجود خلافات داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية حول الطريقة التي يجب إتباعها إزاء جبهة الإنقاذ : هل تكون بمواصلة الصراع الدموي وتصعيده ولو أدى إلى حرب أهلية شاملة، أم بمحاولة إقامة نوع من الحوار معها، ولو مع فصائلها الأقل تمسكاً بطروحات الجبهة، فإن هذه الخلافات لا تعني أن الزمام أفلت من يد خالد نزار رجل الجزائر القوي، بل تعني أن هناك مراكز قوى داخل الجيش مختلفة معه، يمثلها رئيس الأركان ووزير الداخلية في حكومة رضا مالك. غير أن أمين زروال المعيّن رئيساً للدولة بصلاحيات واسعة يُنقل عنه أنه يفضل تجربة الحوار مع جبهة الإنقاذ كما هو حال خالد نزار. وكما هو معروف فإن زروال لواء متقاعد منذ سنوات، ونزار هو الذي تنازل له عن حقيبة الدفاع، التي أجبر الجيش الشاذلي بن جديد على التخلي عنها في أواسط عام 1991 لخالد نزار، حين أجبره كذلك على إقالة رئيس وزرائه المعيّن حديثاً لإحلال الغزالي مرشح العسكر مكانه، وعلى تأجيل الانتخابات البرلمانية إلى مطلع عام 1992. وحتى الآن ليس هناك ما يدعو للقول بأن زروال سيحل محل نزار، بل أغلب الظن أن نزار لا يزال الرجل القوي، وأنه هو الذي رتب الأمور على هذا الوجه لثقته بولاء زروال. وإذا صح هذا الاستنتاج فإن من المتوقع أن يحدث تحول في الوضع الجزائري لصالح الحوار مع جبهة الإنقاذ.
ولإلقاء الضوء على ما يجري في الجزائر حالياً لا بد من العودة للستينات حين اضطرت فرنسا للتخلي عن الجزائر، وتولت جبهة التحرير الوطني الجزائرية السلطة باعتبارها الواجهة السياسية لجيش التحرير الذي خاض الحرب ضد فرنسا، والتي قدرت خسائر الجزائريين فيها بحوالي “مليون شهيد”.
وهكذا جاء أحمد بن بللا عميل أميركا للسلطة. غير أن هواري بومدين، القائد الأسطوري لجيش التحرير الجزائري الذي كان ينطلق من قواعد في تونس والمغرب، قام بانقلاب عسكري، وأقصى بن بللا عن السلطة وحلّ محله. وبدأ بومدين عميل الإنجليز يرتب أموره على أسس جديدة، كان أولها تقليص نفوذ الجيش، وتوسيع دور جبهة التحرير الوطني الجزائرية. فقام بعمليات تطهير في الجيش كان أبرزها التخلص من طاهر الزبيري الذي نفّذ انقلاب بومدين. وكما هي عادة أحزاب السلطة فيما يسمى بالعالم الثالث، فإن جبهة التحرير استشرى فيها الفساد، مما أثار الكراهية في نفوس الشعب والجيش في الجزائر.
وحين مات بومدين، كان خليفته الطبيعي عبد العزيز بوتفلبقة، غير أن العسكر وأنصارهم داخل جبهة التحرير فرضوا الشاذلي بن جديد، الذي كان يتولى قيادة منطقة عسكرية مهمة في غرب الجزائر. وحاول الشاذلي في البداية الاستناد إلى ولاء الجيش وجبهة التحرير، والموازنة بينهما. غير أنه لم يلبث أن بدأ يعمل على تقويض هذه الجبهة، الأمر الذي لاقى تأييداً بين أوساط الشعب. وحين ساءت الأوضاع الاقتصادية في الجزائر عام 1988 لدرجة حملت الناس للخروج للشوارع للتعبير عن سخطهم والمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية ومحاسبة المفسدين، لم يتردد الشاذلي في تحميل جبهة التحرير المسئولية عن معاناة الشعب، كما اتخذ تدابير من شأنها تقليص نفوذ الجبهة، ومن أهمها السماح بالتعددية السياسية، مما أفسح المجال لجبهة الإنقاذ للبروز والتوسع لأن الناس اعتبروها البديل المنقذ مما هم فيه. ويبدو أن الشاذلي راهن على ارتياح الناس للإجراءات التي اتخذها، وعلى إمكانية التفاهم مع بعض فصائل جبهة الإنقاذ، فقرر إجراء انتخابات عامة ظن أنها ستفرز له غطاء شرعياً لحكمه، بدل الاعتماد على ولاء الجيش، وبعد أن تضاءل نفوذ جبهة التحرير. لكن الجيش تدخل كما أسلفنا، وفرض عليه رئيساً للوزراء، وأجبره على التخلي عن وزارة الدفاع، وتأجيل الانتخابات. ولما ظهرت نتائج الجولة الأولى للانتخابات في مطلع 1992، صُعق الجيش من الفوز الساحق الذي حققته جبهة الإنقاذ، فألغى نتائج الانتخابات، وأقال بن جديد، وشكّل مجلساً صورياً للرئاسة، جاء له برئيس من الزعماء التاريخيين للثورة الجزائرية، هو محمد بوضياف، الذي كان يُقيم في المغرب منذ ما يزيد على عشرين عاماً. ولما شعر العسكر أن بوضياف بدأ يتصرف على أساس أنه ليس مجرد واجهة، ويعمل لتعزيز مكانته، تخلص منه باغتياله، وجاءوا بعلي كافي كواجهة، واعتبر علي كافي مما حدث لبوضياف، ولذلك لعب دوره المرسوم جيداً حتى حانت ساعة رحيله.
ويظهر من هذا الاستعراض الموجز لتاريخ السلطة في الجزائر منذ الاستقلال وحتى الآن أن هناك انفصالاً بين هذه السلطة وبين الشعب، وهذه نتيجة حتمية لكل سلطة لا تستند إلى الشعب، وخاصة إذا كانت هذه السلطة تعمل لصالح القوى الدولية التي تسندها، ضاربة عرض الحائط بمصالح الأمة.
أما عن الارتباطات الدولية للسلطة في الجزائر منذ الاستقلال، فإن بن بللا كما أسلفنا كان عميلاً لأميركا، فيما كان بومدين عميلاً للإنجليز. غير أن بومدين لكف أذى أميركا دأب على تملقها، والاستجابة لمطالبها. ومن أبرز ظواهر هذه الاستجابة احتضانه لجبهة البولساريو التي تدعمها أميركا في مطالبتها بفصل الصحراء الغربية عن المغرب، الأمر الذي جعل علاقات الجزائر بالمغرب أقرب إلى القطيعة.
إلا أن تملق بومدين هذا ومن بعده ابن جديد لأميركا لم يُحوّل وضع الجزائر إلى التبعية الأميركية، وإن كان يُظهر أن الجزائر تسير في خط موافق للسياسة الأميركية، وموقف أميركا ضد الحكم وضد الجيش في الجزائر عندما ألغى نتيجة الانتخابات، وحلّ الجبهة، واعتقل قادتها ورجالها بدل على ذلك، ويدل على أن الجيش في الجزائر لم يكن على علاقة تبعية لأميركا حتى ذلك الوقت.
ويبدو أن أميركا قد استطاعت أن تتسلل إلى الجيش الجزائري، واستطاعت كسب بعض قادة الجيش. ومما يصلح مؤشراً على ذلك الاستقبال الحافل، والإكرام الزائد الذي حظي به خالد نزار ووفد الضباط المرافق له عند زيارتهم مؤخراً للسعودية، واجتماعهم بالملك فهد وبكبار الأمراء، واجتماعهم بالأمير بندر بن سلطان سفير السعودية لدى أميركا. وكذلك سكوت أميركا عن المجزرة التي ينفذها العسكر ضد جبهة الإنقاذ، مع أن أميركا تتربّص بكل حاكم في العالم لا ترضى عنه لتندد بسياسته القمعية، وتشن ضده حملة إعلامية عالمية. ويلاحظ أن سكوتها الآن على مجازر الجيش ضد جبهة الإنقاذ يتناقض مع موقفها السابق ضد هذا الجيش عندما ألغى نتيجة الانتخابات، وحلّ جبهة الإنقاذ واعتقل قادتها ورجالها.
وعلى أي حال، فإن قفز العسكر للواجهة في الجزائر لا يضمن لهذا البلد المسلم الاستقرار، ولا يعد به. كما أن وجود خلافات بين صفوف العسكر قد يؤدي للعبة كراسي على السلطة لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها.
والحل الوحيد للأزمة الجزائرية هو تمكين الشعب الجزائري ذي الغالية المسلمة والتي لا تقبل بغير الإسلام، من اختيار حاكم مسلم له اختياراً مباشراً يحكمه بالإسلام، أو تمكينه من اختيار ممثلين له دون تدخل من أحد، ودون فرض أحد، ليختار هؤلاء الممثلون حاكماً يبايعونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله.
18 من شعبان 1414هـ
30 / 01 / 1994 م