فبهداهم اقتده: سلسلة أمهات المؤمنين (10)
2011/03/01م
المقالات
1,840 زيارة
فبهداهم اقتده:
سلسلة أمهات المؤمنين (10)
زينب بنت خزيمة (رضي الله عنها)
نسبها
هي زينب بنت خزيمة بن عبد الله بن عمر بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية، فهي: قرشية، هلالية، مكية.
نشأتها
فتحت زينب عينيها في مكة على مجتمع يموج بفتنة الوثنية، والانكباب على عبادة الأصنام وتقديسها، والاستغراق في شرب الخمروالزنا ووأد البنات…! مجتمع زاخر بالفساد والانحلال، فيه العصبية أقوى رابطة، والحياة فيه للقوي السيد، ولقمة العيش للعبيد الضعفاء مغموسة بالدم والعرق والدموع. مجتمع ينزوي في الصحراء القاحلة الجرداء، لا يرى ولا يعايش إلا قليلاً من نتف الحضارة المادية، يتأثر بها من خلال احتكاك قوافله التجارية، الغادية والرائحة، بين الشام واليمن…
فتحت زينب عينيها على صورة هذا المجتمع بواقعه المنحرف الفاسد، ونجت من السوء، لأنها من بيت عريق في السيادة والثراء، ودرجت في أحضان والديها تنهل من عطفهما وحبهما. لكنها نضجت وأدركت، ثم أصغت بكثير من اللهفة والشوق والتأثر لأحداث عامة تجري في مكة، وكان محورها الأمين محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
زينب وبناء الكعبة
عايشت زينب أيام إعادة بناء الكعبة واختلاف بطون قريش وفروعها حول إعادة الحجر الأسود إلى مكانه من الركن.. وسمعت بحكمة الأمين عليه الصلاة والسلام وكيف حل إشكال واختلاف الناس، وحقن الدماء، ببسط ردائه، وإمساك رؤساء القبائل بأطراف الرداء، وكأنهم جميعاً شاركوا في رفع الحجر الأسود، ونالوا الشرف العظيم. سمعت بذلك فتعلق قلبها بصاحب العقل الراجح والرأي الصائب والحكمة البالغة تعلق إعجاب وإكبار. ولقد هزها ذات يوم رؤية سيد من سادات قريش ينهال على أحد عبيده ومواليه بعصاً غليظةٍ يؤدبه على حد زعمه وانكسرت العصا. فتناول السيد سوطاً متشعب الرؤوس، وراح يضرب به جسد ذلك المسكين، وأخذ الدم يسيل بغزارة، والجراح تتفرج عن اللحم الأحمر الذي بدأ يتناثر في أطراف المكان، حتى خفت حدة صوت المسكين وتلاشى، ولم تعد تسمع منه سوى أنفاس تتردد مع الأنات. وأشد ما تألمت زينب عندما عرفت السبب، لقد جاع العبد المسكين بعد عمل شاق متواصل من الفجر إلى الغروب، فأكل دون أن يؤذن له، فكان أن رأت زينب وشاهدت كل ذلك.
زينب والإسلام
عندما بزغ فجر الإسلام على مكة وشعت أنواره فوق ربوعها، ودعا محمد بن عبد الله الناس إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام والإقلاع عن المفاسد والعيوب الاجتماعية، وإزالة الفوارق بين الناس، فالكل في الإنسانية سواء، وأكرم الخلق أتقاهم، لا أغناهم ولا أقواهم.
عندئذ تعلق قلب زينب بالدعوة الجديدة، بعد أن كان إعجابها في السابق ينحصر ضمن إطار شخصية المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). وكانت زينب (رضي الله عنها) تحت تأثير عدة عوامل تميل إلى حب المساكين والضعفاء والعطف عليهم، وما من شك في أن رؤيتها للمولى الذي عذب بسبب عدم استئذان سيده في تناول العطام وقد أمضّه الجوع وأضنى جسده كان لها أثر عميق في قلبها الطيب، وفؤادها الرحيم، ونزعتها الإنسانية. فكانت كما يروى ويؤثر عنها تدخر قوتها مما تحصل عليه من نفقة، ثم توزعه على المساكين والمحتاجين حتى عرف بذلك القاصي والداني من الناس،و شاع خبرها لدى أوساط مكة جميعاً.
إن العرف المشهور بين الناس أن هذه الأفعال، أو تلك الخصال، إنما هي لذوي الأعمار المتقدمة، ممن تجاوزوا سن النضوج العقلي والبدني عند الرجال أو النساء على حد سواء ،غير أن زينب (رضي الله عنها) خرقت هذه العادة، وحطمت هذه القاعدة، وغيرت هذا المفهوم، لأن عمل الخير لا يعرف سناً معينةً أو عمراً بذاته. لقد كانت (رضي الله عنها) في سن السادسة عشرة تقريباً ولم تكن بعد قد دخلت في حمى الإسلام وحوزة الإيمان. وإذا ما ذكر لقب أم المساكين لدى المكيين عرفوا جميعاً صاحبته زينب بنت خزيمة (رضي الله عنها).
زواجها
في سن السادسة عشر أصبحت زينب على أبواب الزواج. وهنا يختلف المؤرخون حول زواجها الأول، فمنهم من يقول بأنها كانت متزوجة من عبد الله بن جحش ابن عمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد مات شهيداً يوم أحد. ومنهم من يقول بأنها كانت متزوجة من الطفيل بن الحارث بن عبد المطلب فهلك عنها، فتزوجها أخوه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب الذي مات شهيداً إثر غزوة بدر، وكلاهما ابنا عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وعلى كل حال فإن كلتا الروايتين تتفقان على أن زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من زينب كان بعد زواجه من حفصة بنت عمر بن الخطاب (رضي الله عنها).
ومن هنا نستدل على أن الرواية الثانية هي الأرجح لأن زواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) من حفصة كان بعد غزوة بدر التي استشهد فيها عبيدة (رضي الله عنه)، وأيضاً نستدل على أن إسلامها وزواجها كانا في مكة المكرمة قبل الهجرة.
مضت أيام الحياة بزينب في مكة بعد زواجها وإسلامها قاسية مريرة شأنها شأن المسلمين الأوائل السابقين الذين تحملوا عبء الصمود في وجه طغيان قريش واستبدادها وظلمها.
عاشت أيام الحرمان والعذاب، وتحملت بجلد قسوة القطيعة الاقتصادية والاجتماعية التي فرضتها طغمة الجاهلين على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجماعة المسلمين.
وقضت (رضي الله عنها) سنوات الشُّعَب الثلاث في ضنك وألم وشدة مسغبة، ولكنها كانت تتزود من إيمانها العظيم لآمالها في المستقبل، وثقتها العظمى التي لا حد لها بالله سبحانه وتعالى،أو أن ما تمر به مع إخوانها وأخواتها إنما هو ابتلاء وامتحان، لا يضاهيه ويهزمه إلا الصبر عليه.
الهجرة
مرت (رضي الله عنها) في تجربة جديدة لا تقل مرارة وقسوة عما سلف، إذ كان من إفرازاتها البعد عن الأهل والوطن، واتساع الشقة بين الإنسان ومرتع صباه وملعب شبابه، وانقطاعه عن الأماكن التي شهدت طفولته وشبابه، فكانت جزءاً من حياته، أو على الأصح جزءاً من حياة زينب (رضي الله عنها) لأنها كانت اجتماعية منذ تفتحها ووعيها، لكنها رضي الله عنها كغيرها من المسلمين والمسلمات تأقلمت في الجو الجديد، وانتظمت في سلك المجتمع الإسلامي المتميز، الذي بنى أول ما بنى على الأخوة في الله، وقد صادف ذلك انسجاماً مع طبيعة شخصيتها وتكونها. فأنساها ذلك بعض همومها من البعد عن الأهل والوطن.
وكانت مع زوجها عبيدة بن الحارث مثلاً طيباً وكريماً في أصول وقواعد البيت الإسلامي المنشود تعاوناً ومحبةً واحتراماً. وليس من شك في أن شخصية زينب (رضي الله عنها) كانت محور ذلك البيت الكريم، بما حباها الله تعالى من نضوج عقلي مبكر، وسماحة خلق، وبساطة في الحياة ورضى وقناعة.
يوم الفرقان
حتى كان اليوم العظيم يوم الفرقان يوم بدر،ولا حاجة بنا أن نعود إلى تفاصيل المقدمات والظروف التي سبقت ورافقت الغزوة. فالذي يهمنا في الحديث عن زينب (رضي الله عنها) هو استشهاد زوجها عبيدة في ذلك اليوم أو بعده بأيام ومن ثم ترملها… فقد كان ذلك نقطة تحول كبرى في حياتها، ودخولها (رضي الله عنها) في عداد أمهات المؤمنين.
من يبارز؟
كانت عادة الحروب في تلك الأيام أن تبدأ بالمبارزة الفردية، وكانت قريش في ذلك اليوم هي المصرة على القتال. فبعد أن حجز المسلمون الماء عن قريش وتصدوا لها وقبلوا التحدي، برز من صفوف قريش ثلاثة فرسان يطلبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُخرج إليهم أندادهم من المسلمين، فنزل بعض الأنصار إلى حلبة المبارزة حباً في الجهاد وإثباتاً للعهود والوعود التي قطعوها على أنفسهم، وتأكيداً للبيعة فردهم فرسان قريش، وقالوا إنما نريد أكفاءنا من أقربائنا الذين فارقوا ديننا وأثاروا العدواة والبغضاء بيننا وبينهم.
فبرز إليهم بناء على أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثة من أهل بيته وخاصة أهله، هم: حمزة بن عبد المطلب عمه، وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث ابنا عمه.. وأما القرشيون الثلاثة فكانوا عتبة بن ربيعة وأخاه هشام بن ربيعة وابن عتبة الوليد بن عتبة. فتصاولوا وتجاولوا، وأثاروا تراب الأرض بحوافر خيولهم، حتى غطى النقع أشخاصهم، ثم ما لبث حمزة أن قضى على خصمه، وكذلك علي (رضي الله عنهما)، أما عبيدة فقد تعرض لضربة من الخصم أصابته في ساقه وأدت إلى جرح بالغ، لكن حمزة وعلياً أعانا عبيدة على خصمه واستنقذاه، وقتلا عدوه، ثم عادا بعبيدة إلى معسكر المسلمين، يئن من شدة الألم ونزف الدماء. وانتهت معركة بدر بانتصار ظافر مؤزر للمسلمين، وهزيمة ساحقة لحقت بالمشركين… وعاد موكب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة بين تهليل وتكبير وفرحة غامرة، وعاشت المدينة أياماً جميلة وكأنها في عرس وبهاء. إلا بيت زينب بنت خزيمة (رضي الله عنها) فقد كانت في هم شديد وحزن بالغ على زوجها وحبيبها الجريح المسجى على الفراش، يعاني سكرات الموت. الحبيب الذي قضت معه أجمل أيام حياتها وأطيب زمان المشاركة، فقد راحت ترعاه وتعتني به، وتقدم له كل ما يمكنها من إسعاف، برجاء أن يشفى وتعود إليه عافيته ،وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض أصحابه يزورونه في البيت ليطمئنوا عليه ويواسوه في محنة مرضه، ويشجعونه، ويبعثون في نفسه وقلبه الأمل والرجاء. لكن عبيدة قضى شهيداً، واختاره الله إلى جواره، فبكته زينب بدمع وحزن بالغ، متذكرة أيام صحبته وهنائها معه. ثم احتسبته عند الله تعالى داعية له بحسن الثواب.
الزواج وأم المؤمنين
بعد استشهاد عبيدة سعى (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى زينب وقد انقضت عدتها فخطبها لنفسه، فأجابت على استحياء، وقد جالت الدموع في عينيها لأن ذكرى عبيدة ما تزال قريبة العهد. أجابت (رضي الله عنها) بأن جعلت أمرها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فبنى بها، وأدخلها بيوت أزواجه، واتخذ لها حجرة خاصة بها.
أم المساكين
وظلت زينب (رضي الله عنها) تلقب بـ«أم المساكين» منذ أن كانت فتاة صغيرة، إلى أن لحقت بالرفيق الأعلى، وكانت مدة إقامتها في بيت النبوة قصيرة، لم تتجاوز بضعة أشهر. إلا أن حجرتها كانت مقصد المساكين والفقراء والمحتاجين والجائعين والمحرومين، تقتصد من نفقتها، وتدخر جزءاً من طعامها ونصيبها فيما خصت به، ثم تمنحه لهذه الطائفة من الناس، حباً بالله وتقرباً إليه، وسعياً إلى رضاه.
الوفاة
كانت (رضي الله عنها) قد أتمت الثلاثين من عمرها، حين داهمها مرض الوفاة، في عز الشباب، ومعية الصبا. ولقد كان يوم وفاتها يوماً حزيناً، إذ تركت رغم قصر مدة العشرة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب الأثر وأعمقه في قلب المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم). فقد مرت أيام العشرة هنية طيبة، لا صخب فيها ولا نصب ولا وصب، ولا مشقة ولا عسر. غُسّلت (رضي الله عنها) وكفنت، وصلى عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم دفنت بالبقيع، ولقد نزل إلى حفرتها اثنان من أقربائها. وبعد أن ووريت الثرى عاد الجميع وفي مقدمتهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسترجعون ويدعون لأم المساكين بحسن المآب وعظيم الثواب. رضي الله عنها وأكرم نزلها ومثواها…
2011-03-01