بسم الله الرحمن الرحيم
رداً على شطحات الريسوني:
الخلافة من الضروريات لحفظ الشريعة ومقاصدها
الخلافة من أعظم أركان الضروريات(3)
محمود عبد الكريم حسن
تبين فيما سبق افتراءات الدكتور الريسوني على الشريعة بإنكاره الأدلة الثابتة والقاطعة في دلالتها على وجوب الخلافة، وبتهوينه من شأن الخلافة وعدِّها من الوسائل لا المقاصد، وسيتبين في هذا العدد تطفل الريسوني على علم المقاصد.
وسيتبين تحت هذا العنوان أن الخلافة عند الشاطبي من الضروريات ومن أعظم المقاصد الشرعية. ولبيان ذلك وتوثيقه لا بد من بيان بعض ما يلزم لفهم هذا المنهج. فلا بد – مثلاً – من معرفة معنى الضروريات قبل القول بأن كذا من الضروريات أو لا.
ذهب العلماء الذين يقولون بأن الأصل في الأحكام التعليل وبأن الشريعة معللة بجلب المصالح ودرء المفاسد إلى القول بثلاث مراتب للمقاصد هي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. والضروريات هي أعلاها رتبة، وقد عرفها الشاطبي بقوله: «وهي التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فُقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين». وبهذه الأوصاف تتحدد الضروريات عنده. ويقول: «ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل»، وقد زاد بعضهم سادساً هو حفظ العِرض وزاد بعضهم على الخمسة ثلاثة هي حفظ الكرامة الإنسانية وحفظ الأمن وحفظ الدولة.
ويعد أبو إسحق الشاطبي المتوفى سنة790 هجرية صاحب التأصيل المميز والخاص للمقاصد، وهو الذي حدَّ مستندات هذا المنهج وضوابطه. وما زال حتى يومنا هو المعتمد الأول في هذا الشأن، وكل الباحثين والكتاب في هذا الموضوع عيال عليه، يقرؤون كتابه «الموافقات» ويرددون نصوصه، ولكن كثيرين منهم بل جلهم دخلاء على هذه الفكرة، لم يفهموها ولم يدركوا عمق الشاطبي فيها وقيوده لها، وليس عندهم فيها علم يُعتدُّ به، وإنما يقصدون تحريف بعض أحكام الشرع فيتوسلون بالشاطبي وكتابه وأفكاره لعله يسعفهم في مرادهم. ومن هؤلاء الدكتور الريسوني كما في مقالتيه التي أشرت إليهما، وفي كتاب له أيضاً اسمه «نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي»، مضمونه بعيد عن اسمه، إذ لم يشرح فيه فكرة المقاصد عند الشاطبي، وإنما شرح فهمه الغلط لها، وراح يتهجم على الشاطبي بسبب نصوص له لمس منها تناقضه مع فهمه لها، وبسبب ما يضعه الشاطبي من قيود لمنع تحريف أحكام الشرع والتحلل منه بحجة المقاصد. ومنهم أيضاً الشيخ راشد الغنوشي الذي فعل الأفاعيل وارتكب الموبقات في كتابه «الحريات العامة في الدولة الإسلامية» الذي بالغ فيه بافتراءاته على الشاطبي، بل على الإسلام، وقد بينتُ ذلك بتفصيل في العدد 88 من مجلة الوعي.
لقد قرر الشاطبي أن هذه الضروريات الخمس تتضمن ضروريات كثيرة، ولا تثبت إلا بثبوت ضروريات كثيرة تعد من ضمنها ومن معناها. فمثلاً حفظ الدين أصل ضروري عند الشاطبي، وهو يعني حفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والشهادتين، وهذه الأخيرة تتضمن حكم الردة الذي هو من الضروريات وتكون الردة من أعظم المفاسد. فهذه أركان الدين وهي بمثابة الدين، وإذا قال الشاطبي حفظ الدين أصل ضروري فمراده يتضمن هذه الأركان المذكورة، بل إن منهجه ينص على أن ثبوت حفظ الدين كأصل ضروري لا يثبت عنده إلا عن طريق إثبات هذه الأركان المذكورة كأصول ضرورية، وهذا يتحصل على منهجه بواسطة الاستقراء المفيد للقطع بأحكام هذه الأركان. ومن منهج الشاطبي أن ما لا يتم حفظ الضروريات إلا به فهو من الضروريات، وكذلك فإن معنى الضروريات عنده يوضح ما هو منها وما هو ليس منها.
بدايةً لا يكون المقصد مقصداً عند الشاطبي إلا إذا تكرر طلب الشرع له بحيث يثبت كونه مقصوداً للشارع بالاستقراء المفيد للقطع. وبعد ثبوته مقصداً شرعياً فإن مرتبته في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات لا تتعين إلا بدلالة الشرع، أي بضوابط شرعية لكل مرتبة. وتعيين المقصد مقصداً وكذلك تعيين مرتبته لا يرجع أي من ذلك إلى تقديرات العقل أو المصالح والمفاسد بمقتضى أنظار الناس، وهذا مما ينبغي أن يدركه دارسو المقاصد والشاطبي وموافقاته. وأقوال الشاطبي في ذلك تفوق الحصر منها قوله: «إن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضاً» أي أن بعضها وسيلة لبعض مع أنها كلها مقاصد. ثم يقول: «… يَعتبِر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه، وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات، لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم، بل كان مع ذلك الهرج واقعاً والمصلحة تُفَوِّت مصلحةً أخرى وتهدم قاعدةً أخرى أو قواعد، فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين، وبيَّن في المصالح ما يطَّرد وما يعارضه وجه آخر من المصلحة»، وقوله: «… مع ذلك كان الهرج واقعاً…» أي أن الضروريات لم تكن محفوظة بمقتضى أنظار العقول، وقوله: «…فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة…» أي أن الشرع هو الذي يقرر ما هو مصلحة وما هو عدل ونصفة وما هو غير ذلك، وقوله: «…في كل حين وبين في المصالح ما يطَّرد…» أي أن ما جعله الشرع مصلحةً فهو مصلحة أبداً لا يتغير وما جعله مفسدة فهو كذلك أبداً لا يتغير.
بهذا النص يقرر الشاطبي أن المقاصد لا تتقرر مقاصد (أي مصالح) ولا تتبين إلا بحسب ما جاء به الشارع. ثم يقول إن تعيين مرتبة المقصد يحتاج أيضاً لبيان من الشرع، يقول: «وقد عُلِم من الشريعة جريان الأمور الضرورية الخمسة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يكِرُّ بالإخلال عليها، والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها، كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه، والزنى والسرقة وشرب الخمر، أوما يرجع إلى ذلك مما وُضع له حدٌّ أو وعيد، بخلاف ما كان راجعاً إلى حاجي أو تكميلي، فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحد معلوم يخصه، فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري والاستقراء يبين ذلك».
وبناءً على هذا النص يتبين أن الضروريات من المقاصد هي ما اختصته الشريعة بوعيد أو حد معلوم لحفظه من جانب العدم أو حتى من مجرد الإخلال به. وهنا نسائل (العالم المقاصدي) الريسوني الذي زعم أن الشارع لم يضع حداً أو وعيداً على عدم وجود الإمام؟ نسأله: ألم يتوعد الشارع من لا يبايع خليفة بقوله صلى الله عليه وسلم: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتتة جاهلية»؟
ألم يأمر الشارع بقتل من يشق عصا الطاعة للخليفة وهذا إخلال بوجوده أو بسلطانه، أومن يشق الأمة ويهدد وحدتها، أو يتسبب في أن تصبح الدولة الإسلامية دولتين أو أكثر وهذا أيضاً إخلال بالخلافة وبسلطان الخليفة، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: «من خرج من السلطان شبراً فمات فميتته جاهلية»، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أمركم جميع على رجل واحد وجاء آخر يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه»، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»؟ أليس هذا من الوعيد الذي جعله الشاطبي ضابطاً لتقرير أن المقصد في أعلى المراتب وهو الضروريات!
أليس في قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الإمام جُنَّة يُقاتل من ورائه ويتَّقى به» بياناً لعظم مكانة الإمام وأهمية وجوده، وأنه بغيابه تفقد الأمة الدرع الذي يحميها وتتقي به؟
وبناءً على هذه النصوص، وتطبيقاً لمنهج الشاطبي في المقاصد وفي الضروريات، فالخلافة – خلافاً لما افتراه الريسوني – من المقاصد الضرورية لما يترتب على وجود الإمام من مصالح مطلقة ولما رتب الشارع على فقده أو الإخلال به من وعيد.
ويمضي الشاطبي في بيانه ضوابط تعيين مرتبة المقصد أو العمل المراد للمحافظة على ذلك المقصد فيقول: «إن الأوامر في الشريعة لا تجري في التأكيد مجرىً واحداً، وإنها لا تدخل تحت قصد واحد، فإن الأوامر المتعلقة بالأمور الضرورية ليست كالأوامر المتعلقة بالأمور الحاجية ولا التحسينية»، ثم يقول: «فالضابط في ذلك أن يُنظر في كل أمر: هل هو مطلوب طلب الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات؟ فإن كان من قسم الضروريات مثلاً نُظر: هل هو مطلوب فيها بالقصد الأول أم بالقصد الثاني، فإن كان مطلوباً بالقصد الأول (المقصد الأول أي أنه صريح في الدلالة على ذلك المقصد) فهو في أعلى المراتب في ذلك النوع (أي من الأنواع الخمسة)، وإن كان من المطلوب بالقصد الثاني (المقصد الثاني أي أنه ليس صريحاً في الدلالة عليه أو قد لا يدل عليه ولكنه ممنوع بتاتاً أن يتعارض معه) نُظِر: هل يصح إقامة الضروري في الوجود بدونه حتى يُطلق على العمل اسم ذلك الضروري أم لا، فإن لم يصح فذلك المطلوب قائم مقام الركن والجزء المـُـقام لأصل الضروري، وإن صح أن يُطلق الاسم بدونه فذلك المطلوب ليس بركن، ولكنه مكمل ومتمم، إما من الحاجيات وإما من التحسينيات…»
وبهذه الضوابط لمعرفة ما هو من المقاصد الشرعية وفي أي مرتبة هو ننظر: هل تقام أي من الضروريات الخمس بدون الدولة الإسلامية؟ فإن كان يمكن حفظ الضروريات الخمس كلها بدون الخلافة تكن الخلافة في مرتبة دون الضروريات، أي في مرتبة الحاجيات أو التحسينيات، وإن لم يكن ذلك ممكناً تكن الخلافة ركناً في الضروريات، أي تكون ضرورية. ولو نظرنا لوجدنا أنه لا يمكن إقامة أيٍّ من تلك الضروريات بغير دولة، ولا دولة في الإسلام إلا الخلافة، وعليه فالخلافة من الضروريات في الشريعة وعلى منهج المقاصد.
وألفت نظر المهتمين بمنهج الشاطبي وبمقاصد الشريعة عموماً إلى أن النصوص التي أوردتها أعلاه عن الشاطبي هي أصول وضوابط في تعيين المقاصد ومرتبتها، والنص أعلاه يفيد أن المقاصد الخمسة أو الأنواع الخمسة هي المقاصد الأُوَل في الضروريات، والمقاصد أو الأحكام أو الأعمال الأخرى يُنظر فيها، فإن كانت مما لا يقوم أحد المقاصد الضرورية الخمسة إلا بها فهي من الضروريات في ذلك النوع الذي لا يقوم إلا بها، فالجهاد لا يُحفظ الدين بفقده، لذلك فهو من الضروريات في حفظ الدين، وكذلك الإمامة العظمى، وقد عبر الشاطبي عن هذا بوضوح فقال: « فالجهاد ضروري والوالي فيه ضروري»، ومثل ذلك أركان الإسلام الخمسة، وكذلك قتل المرتد. والعقوبة والقصاص في القتل لا يقوم حفظ النفس إلا به، لذلك فهو من الضروريات في هذا النوع أي في حفظ النفس. ولو نظرنا إلى الخلافة لوجدنا أنها ركن في كل واحدةٍ من الضروريات الخمس، لذلك فهي ركن المقاصد الضرورية وأهمها وإن كانت من الوسائل أو الطريقة، وقد تبين فيما سبق أن الوسائل مقاصد أيضاً. q [يتبع… ]