بسم الله الرحمن الرحيم
رداً على شطحات الريسوني:
الخلافة من الضروريات لحفظ الشريعة ومقاصدها
رد افتراءات الريسوني (2)
محمود عبد الكريم حسن
بيـَّنا في العدد السابق افتراءات الدكتور أحمد الريسوني على الشريعة، ورددناها من جهة إنكاره الأدلة الثابتة والقاطعة في دلالتها على وجوب الخلافة، ونتابع في هذا العدد بيان افتراءاته وردها من جهة ثانية، هي جهة المقاصد والوسائل.
أما الجهة الثانية في الرد على الريسوني فهي إنكاره وجوب الخلافة بذريعة أنها من الوسائل.
إن ما ذهب إليه الريسوني من أن أحكام الشريعة قسمان: مقاصد ووسائل، وأن المقاصد مقصودة لذاتها والوسائل مقصودة لغيرها صحيح، قال به علماء كابن القيم والعز بن عبد السلام وشهاب الدين القرافي وأبو إسحق الشاطبي وغيرهم. وأما ما زعمه من إهدار الأحكام التي يعدونها من الوسائل بحجة أنها ليست مقصودةً لذاتها، فهذه فريةٌ وأيُّ فرية، إذ كل ذلك أحكام شرعية، ومن ألغى حكماً شرعياً فقد غيَّر وبدل في شريعة الله وهذا من الضلال.
إن لفظ «الوسائل» اصطلاح يطلق بأكثر من معنى، فهو يُطلق على ما كان حكماً شرعياُ أُريدَ لأجل غيره، ويطلق أيضاً بمعنى الأداة أو الشيء أو العين، أي على ما كان وسيلة مباحة بعموم قاعدة: «الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم»، والوسيلة في هذه القاعدة هي الشيء أو الأداة المباحة التي يجوز استعمالها والانتفاع بها، ويجوز استعمال بديل عنها ما لم يكن محرماً، وذلك كالدابة والسيارة والطائرة …وعندما يُقال إن الوسائل يصح تبديلها لأنها غير مقصودة للشارع، يذهب ذهن السامع إلى الوسائل التي هي أدوات وأشياء مباحة بدليل الأصل في الأشياء الإباحة، فيتقبل جواز تطويرها وتبديلها، بينما موضوع البحث ليس الأشياء والأدوات، وإنما هو الأحكام الشرعية التي اصطلح على تسميتها وسائل لأنها من شأنها أن تحقق أحكاماً غيرها. وبهذا الخلط يقع من يقع في فخ التضليل والتحريف بحجة المقاصد.
إن لفظ «الوسائل» بالمعنى المندرج تحت قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم ليس هو المقصود أبداً بتقسيم الأحكام إلى وسائل ومقاصد.
إن المقصود بتقسيم الأحكام إلى مقاصد ووسائل هو تقسيمها إلى أحكام هي أهداف أو غايات شرعية وهذه هي المقاصد، وأحكام هي كيفيات شرعية لتنفيذ تلك الأهداف وهذه هي الوسائل. وهو ما يمكن أن نعبر عنه أيضاً بلفظ الفكرة وهي الهدف أو الغاية أو المقصد، وبلفظ الطريقة وهي الكيفية الشرعية العملية لتحقيق الفكرة أو تنفيذها. ويندرج معنى الوسيلة أو الطريقة أيضاً تحت عموم دلالة «السبب» عند بعض الأصوليين، كما يندرج أيضاً معنى الفكرة أو المقصد تحت عموم دلالة لفظ «المسَبَّب»، وسيتبين هذا في موضعه.
هذا هو تحرير معنى كلٍّ من المقصد والوسيلة، وتمييز الوسيلة التي هي حكم أريد لأجل حكم أخر عن الوسيلة التي هي شيء أو أداة يُنتفع بها وتدخل في أصل الإباحة. وعدم تفريق الريسوني في بحثه بين هذين المعنيين، كان له أثر كبير في الأخطاء الخطيرة التي خرج بها كما سيتبين.
وفيما يلي تفنيد مزاعم الريسوني من هذه الجهة أيضاً، وبيان بطلانها بأدلةٍ وأمثلة واضحةٍ وقطعية الدلالة:
1- قال العلماء بحفظ النفس والمال والنسل كمقاصد ضرورية. إذن:هذه مقاصد مطلوبة لذاتها، فيجب تحقيقها وحفظها. وأمرَ الشارع بقتل القاتل العمد بغير حق، وبقطع يد السارق، وبرجم الزاني أو جلده. فهذه الأحكام مطلوبة لأجل غيرها، أي أن كلَّ واحد منها لم يُطلب لذاته وإنما طُلب لتحقيق مقصد، لذلك فهي من الوسائل.
وتطبيقاً لنهج الريسوني وزعمه يمكن أن نلغي حكم القصاص وحكم قطع السارق ورجم الزاني وجلده، بل أن نلغي الحدود كلها ونستبدل بها وسائل جديدة من مستحدثات القرن الـ21، لأنها وسائل وليست مقاصد. لا ضير أبداً عند الريسوني من إلغاء الأحكام الشرعية المذكورة مع أنها من القطعيات، بل يجب أخذ أحكامٍ أو وسائل حديثة ملائمة لزماننا بدلاً منها!
ومثل ذلك يقال في حد الردة وفي الجهاد، فقتل المرتد أُريد لحكم آخر هو حفظ الدين، فهو يفضي إلى منع الردة. وكذلك الجهاد أريد لغيره، فإذا أسلم القوم أو أعطَوُا الجزية وخضعوا لسلطان الإسلام فلن يُقاتَلوا. فحد الردة وحكم الجهاد من الوسائل في هذه القسمة بين المقاصد والوسائل، فهل نحذفهما من الشريعة أيضاً؟ الجواب بحسب الريسوني نعم.
إن هذه الأقوال بل هذا النهج لا محل له في الإسلام، إذ لا محل مثلاً للقول بوقف تطبيق الآية: ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [، أو الآية: ]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[، أو الآية: ]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [، أو الحديت: «لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلات: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري. فكيف زعم الريسوني ما زعمه! وكيف استنتج ما استنتج وبماذا استدل!
ومما يجدر ذكره أن الريسوني لم يذكر لمفترياته أيَّ دليل من القرآن أو السنة، ولا أي قول لعالم يقول مثل الذي قاله، وكذلك لم يذكر أي مثال أو سابقة ذهب فيها أحدٌ إلى ما ذهب إليه هو بشأن الخلافة!
إن تقسيم الأحكام إلى مقاصد ووسائل أو إلى فكرة وطريقة يعتمد على واقع الأحكام، وهو أمر يلاحظه الفقيه، ويستفيد منه الحاكم والإداري في سياسته الشرعية، وليس من ذلك إلغاء ما كان وسيلةً بحجة المقصد، إذ كلاهما ثبت بدليل شرعي، فلا يغيِّرُه بشر، فليتنبه لهذا الريسوني وسائر المحرِّفة من مقاصديين وغيرهم.
2- إن الذي شرع المقصد هو الذي شرع لأجله الوسيلة، أي ما يوجده من العدم وما يحفظه من الزوال أو الاختلال. وقد شرع – سبحانه – لأجل ذلك أحكاماً منها الحدود وسائر العقوبات الشرعية ومنها الجهاد، وشرع لأجل ذلك كله الدولة التي أناط بها تطبيق الشرع كله والمحافظة عليه، ومن ذلك حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والكرامة الإنسانية والأمن وحفظ الدولة نفسها، وأناط بها كذلك حمل الدعوة الإسلامية والجهاد لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. وهذه الأحكام من الوسائل، وضياعها يؤدي إلى ضياع المقاصد؛ لذلك لا بد من وجودها، والخلافة منها بل هي على رأسها، فلا بد من وجودها. وتغيير أي حكم منها، ومن ذلك وجوب الخلافة، هو إحداثٌ في الدين وتبديلٌ لشرع الله، وهو ضلال حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير. عن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال: «وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون. فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» صحيح رواه أبو داود والترمذي.
3- إضافةً إلى ما سبق فإن تقسيم الأحكام إلى مقاصد ووسائل لم يكن من معانيه التهوين من شأن ما يسمى وسائل فضلاً عن تسخيفها، ولا أن تُعدَّ أو تُفترضَ غير مرادة لذاتها. صحيح أنها مرادة لأجل غيرها، ولكنها مرادة لذاتها أيضاً لأنها حكم شرعي، فهي إذن من الوسائل والمقاصد في الوقت نفسه، وعدُّها في الوسائل لا يعني أنها ليست مقصودة لذاتها، بل يعني أنها من الأهمية بحيث أنها مقصودة لغيرها أيضاً. فهذا التقسيم إلى مقاصد ووسائل هو اجتهاد لا يضيف شيئاً على دلالة النص ولا ينقص منها شيئاً. فمثلاً قطع السارق وسيلة لمنع السرقة أو تقليلها، لذلك يقال إنه حكم أُريد لأجل حكم آخر هو النهي عن السرقة، ولكن هذا لا يسلب عن هذا الحكم حقيقة أنه مقصود للشارع أيضاً، فهو حكم شرعه الله كما شرع تحريم السرقة؛ لذلك فهو أيضاً مقصود للشارع فيُعدُّ مقصداً شرعياً، ولا يجوز اتخاذ عقوبةٍ غيرِه للسارق. والأمر جارٍ هكذا في كل مقصد وكل وسيلة، وهو ما عليه العلماء والأمة. فقطع السارق – مثلاً – هو الطريقة أو الوسيلة لمنع السرقة وحفظ المال، فلا يجوز اتخاذ طريقة غيرها. وإذا افترضنا خليفةً يحكم بالإسلام ثم وضع للسرقة حكماً بديلاً عن قطع اليد، فقد غيَّر وبدَّل ووجب عليه العودة إلى حكم الشرع، فإن لم يرجع وجب على الأمة التغيير عليه وإجباره على تطبيق حكم الشرع أو عزله، وهذا يعني أن هذا الحكم الذي هو وسيلةٌ أصلاً، صار في هذه الحالة مقصداً، ووجب أن تُتَّخذ لأجل إعادة تطبيقه الطريقةُ أو الوسيلةُ الشرعية، أي إنه في هذه الحالة صار مقصداً أو فكرة. وكذلك يُقال في الخلافة التي هي من الوسائل أو طريقة لتطبيق الشرع، فإذا زالت الخلافة من الوجود فإنها تصير مقصداً ويصبح إيجادها هدفاً تتخذ لأجله الطريقة الشرعية.
أما التفاهات التي يسوقها البعض بتعميمات خداعة وبرصف كلام بلا أدلة، بحيث يقال إن كذا وسيلة فيمكن بل الأفضل إلغاؤها وبخاصة في ظل تطور العلوم والوسائل، فهذا ليس أكثر من ثرثرةٍ تافهةٍ وهتهتةٍ متهافتة.
4- تحدث الشاطبي (معلِّم المقاصد) في المقاصد والوسائل، وأكد مراراً أن مقاصد الشريعة إنما تستفاد من الشريعة أي من الأحكام الشرعية، فإذا كانت المقاصد أصولاً للفقه، فأحكام الشريعة هي مصادر وأصول تلك الأصول، وعلى ذلك فمقاصد الشريعة فرع عن الشريعة، وتأتي بعد الشريعة، والشريعة أصلٌ لها، ولا يمكن للفرع أن يلغي الأصل إذ بذلك يلغي نفسه لأنه متفرع عنه. يقول: « كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال» ويقول: «إن في إبطال التكملة إبطال الأصل». ويقول الشاطبي عن الأقوال التي تُلقى على عواهنها، من غير استناد إلى أصول شرعية، بل هي تُبطل أحكاماً شرعية، كأقوال الريسوني في إبطال وجوب الخلافة يقول إنها ليست من العلم ولا تثبت، بل هو منقوضة إذ هي غير مطَّردة، ولا يميل إليها إلا الأغبياء، وهذا نصه: إنَّ «ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكرَّ على أصله بالإبطال، أو على غيره بالإبطال مما صح كونه من العلوم المعتبرة والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات، أو كان منهضاً إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة، فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال، فهو غير ثابت ولا حاكم ولا مطرد أيضاً…»، ويصف الشاطبي هكذا زعماً بقوله: «فربما عده الأغبياء مبنياً على أصل، فمالوا إليه من ذلك الوجه، وحقيقةُ أصلِه وهمٌ وتخييلٌ لا حقيقة له مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء، كالإغراب باستجلاب غير المعهود، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص وأنهم من الخواص، وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب، ولا يحور منه صاحبه إلا بالافتضاح عند الامتحان». هذا هو إذاً قول الشاطبي شيخ المقاصد بالريسوني (العالم المقاصدي) وبمزاعمه.
5- ينقض الشاطبي – وغيره – خزعبلات الريسوني بنصوص واضحة، ويبينون أن الوسائل هي أيضاً مقاصد. فالعلماء الذين ذكروا المقاصد والوسائل وعرَّفوا الأولى بأنها أريدت لذاتها والثانية بأنها أريدت لغيرها، هم أنفسهم قالوا إن الوسيلة أيضاً مقصودة لذاتها، وإن المقصد نفسه يكون وسيلةً لغيره، وكل ذلك يرجع إلى مصالح الإنسان في الدارين، وهكذا يصبح كل فعل وسيلةً، ويستدل الشاطبي لقوله هذا بآيات منها: ] الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ[. ويقول: «الأعمال الشرعية ليست مقصودةً لأنفسها وإنما قُصدَ بها أمور أُخَر هي معانيها، وهي المصالح التي شُرعت لأجلها… فنحن نعلم أن النطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما من العبادات إنما شُرعت للتقرب بها إلى الله والرجوع إليه وإفراده بالتعظيم والإجلال ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد»، فهذا النص يشير به الشاطبي إلى أن العبادات من الوسائل إذ يراد بها غيرها.
فمن أين استقى الريسوني فلسفته في أن المهم هو الغاية والمقصد وأن الوسائل تتبدل؟ وهل نأخذ بفلسفته فنطوِّرَ العبادات أيضاً، أم أن ما شرعه الله للتقرب إليه مع كونه وسيلةً فهو وسيلة ثابتة ومقصودة شرعاً، ولا وسيلة غيرها؟ نعم، ما شرعه الله ثابت، وهذا ما عليه الأمة وعلماؤها ومنهم أئمة المقاصد.
ويقول الشاطبي ما هو أوضح من هذا دلالةً وأفصح تعبيراً، فيمنع الاتكاء عليه لتحريف الشرع بذرائع المقاصد والوسائل أو المصالح، ويؤكد أن المقاصد بعضها وسائل لبعضها، والوسائل مقصودة في أنفسها. يقول: «والأعمال قد يكون بعضها وسيلة إلى البعض وإن صح أن تكون مقصودةً في أنفسها»، وقال: «والوسائل مقصودة شرعاً من حيث هي وسائل»، وقال عن الوسائل: «لأنها لما كانت وسائل إلى مأمور به كان لها حكم ما تُوُسِّل بها إليه». فهل فهم الريسوني أساساً فكرة المقاصد؟
ويقول شهاب الدين القرافي في كتابه «الفروق» وهو من أصحاب القول في المقاصد والوسائل: «المنويُّ من العبادة ضربان: أحدهما مقصود في نفسه كالصلاة، والثاني مقصود لغيره وهو قسمان: أحدهما مع كونه مقصوداً للغير فهو أيضاً مقصود في نفسه كالوضوء، فإنه نظافة مشتملةٌ على المصلحة وهو مطلوب للصلاة…» فهل يا ترى ثَمَّ قائلٌ بتبديل الوضوء بغيره مما هو أبلغ في النظافة مثلاً بحجة أنه مقصود لغيره!
وأقوال أهل العلم لا تُحصى في نقض افتراءات الريسوني، وفي بيان أن ما شرعه الله لأجل غايةٍ أو مصلحة ما، فلا يجوز تبديله ولو كان البديل أبلغَ في تحقيق الغاية. وهذا ابن قدامة المقدسي مثلاً يقول في كتابه «روضة الناظر وجنة المناظر»: «ما عُرِفَ من الشارع المحافظة على الدماء بكلِّ طريق، ولذلك لم يشرع المُـتْلَةَ وإن كانت أبلغ الردع والزجر، ولم يشرع القتلَ في السرقة وشربِ الخمر، فإذا أثبتَ حكماً لمصلحةٍ من هذه المصالح لم يُعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم كان وضعاً للشرع بالرأي وحكماً بالعقل المجرد».
ولا يزال قارئ الريسوني يلمس تقصيره وافتقاره إلى صحة الربط والاستنتاج، ومن ذلك مثلاً أنه أثناء تهوينه من شأن الخلافة واستخفافه بها قال: «يتعجب بعض الدارسين المعاصرين كيف لم يجعل العلماء المتقدمون الدولة الإسلامية أو الخلافة ضمن الضروريات الخمس، لذلك فهم يرون ضرورة استدراك هذا النقص الكبير، وقد سمعت مؤخراً في أحد المؤتمرات العلمية الإسلامية عالماً جليلاً يذهب إلى إضافة بعض الضروريات الجديدة إلى الضروريات الخمس المعروفة، وذكر في مقدمة ما أضافه أمن الدولة، فقلت له إن وجود الدولة نفسه ليس من الضروريات الخمس فكيف بأمن الدولة؟» هكذا استدل! وهو استدلال ساقط جداً، فعلى فرض أن وجود الدولة ليس من الضروريات – وهو فرض غير صحيح – فإن هذا لا يفيد عند العقلاء أن أمن الدولة ليس من الضروريات. فإذا كان الزواج مثلاً ووجود الزوجة نفسه ليس من الضروريات ولا من الواجبات، فهل هذا دليل على أن نفقة الزوجة وسكنها وأمنها وحياتها وسائر حقوقها ليس من الضروريات أو من الواجبات؟ وإذا كان تقصُّد إنجاب الولد مثلاً ليس من الواجبات ولا من الضروريات فهل هذا دليل على أن رعايته وحفظ حياته وأمنه ليس من الواجبات أو الضروريات؟ كلا.
وكذلك أمن الدولة، فإذا افترضنا وجود الدولة ليس من الضروريات فهذا لا يفيد في العقل أن أمن الدولة ليس من الضروريات. وهذا يدل على أن ثم مشكلة عند الريسوني في عملية الاستنتاج.
بهذا يسقط زعم الريسوني عدم وجوب الخلافة، كما يسقط تذرعه بمنهج المقاصد والوسائل للصدِّ عن العمل للخلافة، وتبطل دعوته «»إلى وضع أي بديل عنها، فضلاً عن أن يكون البديل من كفر ومنكرات الرأسمالية والديمقراطية، ويتبين أيضاً أن ما سطره في هذا الشأن لا يُعدُّ من العلم، وإنما هو ثرثرة وصفُّ كلام تنقصه الجدية، ويفتقر إلى الاستدلال الشرعي، كما يفتقر إلى الربط السليم والاستنتاج الصحيح.
أنتقل بعد هذا إلى بيان أن الخلافة من الضروريات في مقاصد الشريعة، ثم إلى بيان منهج الشاطبي في وجوب التلازم بين المقاصد والوسائل أو ربط الفكرة بالطريقة، وأن الوسيلة لا يصح اتخاذها إلا لمقصدها، والمقصد لا يصح التوصل إليه إلا بوسيلته.q [يتبع]