العدد 465 -

السنة التاسعة والثلاثون، شوال 1446هـ الموافق نيسان 2025م

“أمرُ الله تعالى نافذ”

خليفة محمد – الأردن

 

قال تعالى:

( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [سورة القصص، 7].

تضمّنت هذه الآيات لقطة من لقطات قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم، يقول عنها الشيخ الشعراويّ رحمه الله: “وأكبر القصص في القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام، ويذكرنا القرآن الكريم بها دائماً لأنّ أحداثها تعالج قصة أسوأ البشر في التاريخ، وفي كل مناسبة يُذكّرنا الله بلقطة من حياة هؤلاء”. فعالجت قصة فرعون وإفساده في الأرض، وقصة بني إسرائيل وقتلَهم الأنبياء واتخاذَهم العجل وغير ذلك مما حاولوا فيه تعجيز الأنبياء.

         ووحيُ الله سبحانه وتعالى إلى أمّ موسى إمّا أنْ يكون وحيَ إلهام كما نقل الطبري عن قتادة أنّه كان يقول في معنى هذه الآية: “قذفنا في قلبها”، وإمّا وحيَ إعلام كما نقل القرطبيّ عن مقاتِل أنّه قال: “أَتَاهَا جِبْرِيلُ بِذَلِكَ”، مع إجماع المفسّرين على أنّ أمّ موسى لم تكنْ نبيّة، أي لم يكن ذلك الوحيُ وحيَ الرسالة. وكانت مناسبة هذا الوحي من الله سبحانه وتعالى إلى أمّ موسى كما روى الطبريّ عن السُّدّيّ، قال: أمر فرعونُ أنْ يُذبَحَ مَن وُلِدَ من بني إسرائيل سنة، ويُتركوا سنة، فلما كان في السنة التي يُذبَحون فيها حملت بموسى، فلما أرادت وضعه حزنت من شأنه، فأوحى الله إليها (أَنْ ‌أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ}.

          والآيةُ الكريمة تضمّنت خبرَين:

الأول: أوحينا إلى أمّ موسى.

والثاني: إذا خِفتِ عليه.. لأنّه مُشعِرٌ أنّها ستخاف عليه.

وتضمّنت أمرين:

الأول: أرضعيه.

والثاني: ألقيه في اليمّ

وتضمّنتكذلك نهيَين:

الأول: لا تخافي.

والثاني: لا تحزني.

         وتضمّنت بشارتَين:

الأولى: إنّا رادُّوْهُ إليك.

الثانية: جاعِلوْهُ من المرسَلين.

         لذلك عدّها كثير من المفسرين مثالاً على الإعجاز القرآني بلاغةً وإيجازاً.

         وتتجلّى عظمة الله عزّ وجلّ وبديعُ تدبيره وبالغُ حكمته في هذه المعاني، فقد جرت عادة الناس أنْ يحرصوا أشدّ الحرص على ما يخافون عليه، فللقارئ الكريم أنْ يتخيّلَ أنّه إذا خاف على ولده أنْ يقولَ له قائل: ارمِه في البحر! لكنّ القائلَ هنا هو رب العالمين، خالق السماوات والأرض وما فيهن، خالقُ الأسباب سبحانه، القادر على إمضاء ما يريد، فأمر أمّ موسى أنّ ترضعه، وفي هذا حكمة بالغة تتضح نتائجها في قوله تعالى في السورة نفسها: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ)، فلا يقبَلُ إلا حليب أمّه، ليكونَ مَدعاةً لتدخّل أختِه فتعرضَ عليهم أنْ تدلّهم على أهل بيت يكفلونه لهم، فيكون الله سبحانه وتعالى قد رَدّه إلى أمّه، وتتحقّق البشارة الأولى، فلا تخاف ولا تحزن عليه.

         وجاء الأمرُ الثاني لأمّ موسى بعد إرضاعه إذا خافت عليه أنْ تُلقيَه في اليَمّ، يقول ابن عاشور في تفسيره: “وَالْيَمُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُرَادِفُ الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ فِي كَلَامِهِمْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُسْتَبْحَرِ، فَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ يُسَمَّى بَحْرًاً، قَالَ تَعَالَى: (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [سورة فاطر، 12]، فَإِنَّ الْيَمَّ مِنَ الْأَنْهَارِ”، وإلقاؤه في اليَمّ كان في تابوت كما فسّرته آيات سورة طه، في قوله تعالى: (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ  فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) [سورة طه، 38-39]،والغرض من هذا الأمر أنْ يصلَ الرضيع إلى قصر فرعون، ويكون بين يديه، فيأخذ بذلك ضماناً ألاّ يُقتَل، لإلحاحِ امرأة فرعون على ذلك: (وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) [سورة القصص، 9] بعدما ألقى الله سبحانه وتعالى محبته في قلبها (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ) [سورة طه، 39]، معَ ما في ذلك من تَحَدٍّ لفرعون، فقدرةُ الله أعظمُ، وحكمتُه بالغة.

         ونهى الله سبحانه وتعالى أمّ موسى عن الخوف والحزن، يقول عنهما ابن عاشور: “وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، وَالْحُزْنُ: حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَنْشَأُ مِنْ حَادِثٍ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ كَفَوَاتِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ بُعْدِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الْهَلَاكَ مِنَ الْإِلْقَاءِ فِي الْيَمِّ، وَلَا تَحْزَنِي عَلَى فِرَاقِهِ”. وقد أرشدها عزّ وجلّ إلى ذلك مع علمه تعالى بما في قلب الأمّ من خوف وقلق واضطراب وحزن على ولدها، فهو سبحانه العليم الخبير، وهو القادر على إنفاذ ما يريد، وهو الذي صنع موسى بعنايته ورعايته، واستخلصه لنفسه، لذلك فإنّه سبحانه وتعالى ربط على قلبها لتكون من المؤمنين، (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ  لَوْلَا أَن ربَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) [سورة القصص/10]،وكذلك فإنّ النهيَ عن الخوف وعن الحزن هو نهيٌ عن سببيهما، وهما توقّع المكروه، والتفكّر في وحشة الفراق؛ كما يقول ابن عاشور.

         وخُتمت الآية بالبشارتين: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)يقول أبو حفص النسفيّ في كتابه التيسير في التفسير: “أي: فإني أردُّه إليك سالماً وأبلِّغه مبلغًا يصلح للرسالة، فأجعلُه رسولًا إلى فرعون وقومه فيكون رئيسًا عليهم، وإن لم ينقادوا له أهلكتُهم”، ويقولُ ابن عاشور عن جُمْلَة (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) إنّها وقعت فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيَيْنِ لِأَنَّ ضَمَانَ رَدِّهِ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ وَأَنَّهَا لَا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ بِطُولِ الْمَغِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فَإِدْخَالٌ للمَسرّة عَلَيْهَا.

ومن بديع تدبير الله سبحانه وتعالى -كما تكشف عنه الآية الكريمة- أنّه سبحانه ربّى موسى عليه السلام في قصر فرعون، وهو الذي كان يريد قتله، وهو يعلم أنّ نهاية ملكه على يده، وعلمُه بذلك وعزمُه على قتله بدا واضحاً في القول الذي نقله سبحانه وتعالى عن امرأة فرعون مخاطبة زوجها: (لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ )، فانظر إلى قدرة الله تعالى كيف حفظ موسى ومنع فرعون من قتله!

وتدلّ الآية مع بقية آيات القصة في مواضعها المختلفة على أنّ أمرَ الله نافذ، لا يمنعه مانع؛ وما على العباد إلا أن يتوكّلوا على الله حق ّتوكّله،كما قال سبحانه: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِه ِقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[سورة الطلاق، 3]، وأنّ أمره سبحانه لا محالة واقع، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ  وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)[سورة البقرة، 117].

وختاماً فإنّ في القصص القرآني عبرة وعظة لمن يتدبّره من أصحاب العقول، فقد قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)[سورة يوسف، 111]، وفيه طمأنة لقلوب المؤمنين أنّ معيّة الله لهم متحقّقة لا محالة، وأنّ نصرَه آتٍ لا ريب فيه، وما على المؤمنين إلا أنْ يُحسنوا العمل، ويُحسنوا التوكّل على الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *