هكذا كانوا… يوم كنّا!!
2006/09/01م
المقالات
2,469 زيارة
هكذا كانوا… يوم كنّا!!
لطالما يقفُ المسلم بانبهارٍ شديدٍ وهو ينظر إلى المجامع الطبية الضخمة المتقدمة الموجودة في دول الغرب، ويقف كذلك بنفس الانبهار الشديد وهو ينظر لكُبريات الشركات البرمجية في الدول الأوروبية وغيرها، فيرى التقدم العلمي الذي وصل إليه الغرب فيتبادر لذهنه سؤال:
يا تُرى أين كان الغرب… يوم كنا في ظل الخلافة الإسلامية؟
إن للمسلمين فضلاً لا يُنكر على التقدم العلمي للعالم قاطبة، ولا سيما على التقدم العلمي والتكنولوجي المعاصر لدول الغرب الأوروبية والأميركية. فلقد نبغ علماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف، ويخطئ من يظن أن المسلمين كانوا مجرد نَقَلة، نقلوا التراث الإغريقي فقط، ذلك لأنهم قد استوعبوه وهضموه وفهموا أسراره ومضامينه، وأضافوا إليه ومزجوه بعلوم الإسلام والقرآن، فكان ما كان من ثورة علمية هائلة أنارت كافة أرجاء المعمورة.
وسآخذ في مقالي هذا جانباً واحداً فقط من جوانب العلم والتقدم وهو المجال الطبي عند المسلمين في زمان الخلافة الإسلامية.
لقد نبغ المسلمون في علوم الطب وفروعه، وألفوا فيه الكتب والمراجع وابتكروا الآلات الطبية، وأقاموا المستشفيات الثابتة والمتنقلة. واتسم العمل بالمستشفيات بالطابع الإسلامي، والطابع الخلقي والإنساني بما يفوق نظام العمل بأرقى المستشفيات في بلاد الغرب.
ومن مفاخر الإسلام حقاً أن أولى المستشفيات في الإسلام كانت خيمة رفيدة، و هي امرأة كانت تداوي الجرحى، وتقوم بنفسها على خدمة من أصابته الجراح من المسلمين. ولقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أصاب سعدَ بن معاذ (رضي الله عنه) السهمُ في غزوة الخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب» فتح الباري شرح البخاري.
ولما تتابعت الفتوح كان للجيش مضارب فيها الممرضات من النساء يداوين الجرحى، وهذا من جهادهن.
وكان العرب يسمون المشافي (بيمارستانات) ويخففونها فيقولون مارستانات. وهي في الأصل كلمة فارسية معناها “معسكر المرضى”.
وكانت البيمارستانات من أول عهدها إلى زمن طويل مستشفيات عامة، تعالج فيها جميع الأمراض والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية، إلى أن أصابتها الكوارث، ودار بها الزمن وهجرها المرضى فأقفرت إلا من المجانين. فصارت كلمة مارستان تعني مأوى المجانين، وفي الوقت الذي كانت فيه المشافي تشاد في كل مدينة من المدن الإسلامية، كانت أوروبا تغرق في ظلام الجهل والتخلف.
وكان من أشهر المشافي في أوروبا في القرون الوسطى مستشفى “أوتيل ديو” في باريس. وقد جاء ذكره في كتاب ألفه “ماكس نوردو” قال فيه عن هذا المستشفى:
«كان يستلقي في الفراش الواحد أربعة مرضى أو خمسة أو ستة. فترى قدمي الواحد في جانب رأس الآخر. وكان الأطفال الصغار إلى جانب الشيوخ الشيب. حقاً إن هذا لا يصدق، ولكنه الحقيقة والواقع. كانت المرأة تئن من مخالب المخاض إلى جانب رضيع يتلوى من التشنجات، ورجل يحترق في هذيان الحمى إلى جانب مسلول يسعل سعلته الجارحة، ومصاب بإحدى الأمراض الجلدية يمزق جلده الأجرب بأظافره الثائرة.
كانت رائحة الهواء في قاعات المرضى فاسدة حتى إن الزوار ما كانوا يجرؤون على دخولها إلا بعد أن يضعوا على وجوههم إسفنجة مبللة خلاً. وتبقى جثث الموتى أربعاً وعشرين ساعة في الفراش. وقد وصفه في القرن الثامن عشر “باللي ويتنون ولافوازيه” في تقريرهم وصفاً تقشعر منه الأبدان، إذ رأوا الموتى جنباً إلى جنب مع الأحياء، كما رأوا الناقهين مختلطين في غرفة واحدة مع المحتضرين، وكانت غرفة العمليات حيث الشق والقطع والبتر تأوي الذين تعمل لهم العمليات في الغد. فكانت تعمل في وسط الغرفة نفسها، وكان المريض يرى أمامه تحضيرات العذاب ويسمع صراخ المعذبين، فإن كان ممن ينتظر دوره في الغد كانت أمامه صورة أوجاعه المقبلة. وإن كان ممن مر بهذا الجحيم كان أمامه منظر يذكره بالأوجاع التي قاساها».
ولم تعمل يد التحسين في هذا المستشفى الذي أنشئ عام 660م إلا بعد الثورة الفرنسية عام 1789م.
هكذا كانت حال أحد أشهر مشافي أوروبا في العصور الوسطى كما يصفها الدكتور أحمد شوكت الشطي، فكيف كانت حالة مستشفيات الخلافة الإسلامية التي كان يطلق عليها البيمارستانات؟
يقول المؤرخون إن المشافي العربية والإسلامية كانت تكرس للرضيع والوضيع، والملك والمملوك، والجندي والأمير.
وكان الخلفاء والأمراء والسلاطين يتبارَون في بناء المشافي حتى أصبح في كل مدينة من المدن الكبرى في الإمبراطورية العربية الإسلامية مستشفى عام واحد على الأقل للعناية بالمرضى. وكان البيمارستان مؤسسة حكومية يقوم بنفقاتها أحد الخلفاء أو الأمراء.
كان المرضى يُفحصون في المستشفى، فيعطُون من لا يحتاج إلى الاستشفاء فيه وصفة تحضر في صيدلية المستشفى. أما المرضى الذين يحتاجون إلى دخول المستشفى، فتدون أسماؤهم لقبولهم، ثم يستحمون، ويبقون في المستشفى حتى الشفاء التام، وعلامته أكل رغيف من الخبز وفروج كامل!!
وعندما يخرجونهم يعطونهم ثوباً مع كمية من الدراهم لتقوم بنفقاتهم الضرورية خارج المستشفى. وكان الناس يتمارضون رغبة منهم في الدخول إلى المستشفى والتنعم بما فيه.
وكان الأطباء يغضون الطرف أحياناً عن هذا التحايل، قال خليل بن شاهين الظاهري في كتاب “النجوم الزاهرة” بعد أن زار دمشق:
«وبها بيمارستان لم يُرَ مثله في الدنيا، وعندما دخلت دمشق سنة 831هـ كان بصحبتي رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق، فلما دخل البيمارستان، تمارض وأقام به ثلاثة أيام ورئيس الأطباء يتردد إليه، فلما فحصه وعلم حاله وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة والفواكه والحلوى. وبعد ثلاثة أيام كتب له الطبيب كلمة جاء فيها:
إن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام، وهذا يوحي بأنه أدرك أنه متمارض، ومع ذلك فقد عامله كأحد الضيوف».
وكان لكل مستشفى عام أروقة خاصة للذكور وأخرى للإناث. وخصصت فيها شعب للحمى والإسهالات والجراحة والتجبير والإصابات العينية وغيرها. وأُلحق بأكثر المستشفيات حمام عام. ومن أقسام المستشفى صيدلية يشرف عليها صيدلي مجاز، ومجهزة بالأدوية والشرابات والعقاقير المختلفة.
وجهز كل مستشفى بمكتبة تضم المفيد من مخطوط أبقراط وجالينوس وأطباء المسلمين، يجتمع فيها الأساتذة والطلاب بعد جولة الصباح على المرضى.
وكان للمستشفيات أوقاف تَعُولها، وكانت الإدارة الطبية يرعاها الطبيب الأول يعاونه رؤساء مختلف الشعب، ويعاون هؤلاء معاونوهم وتلاميذهم.
وانتشرت البيمارستانات انتشاراً كبيراً في العالم الإسلامي، وكان منها نوعان:
النوع الأول: وهو البيمارستان الثابت. ومن ذلك بيمارستان النوري الكبير في دمشق وبيمارستان قلاوون في القاهرة.
النوع الثاني: وهو البيمارستان المحمول. وهو الذي ينقل من مكان إلى آخر بحسب انتشار الأمراض والأوبئة والحروب.
وبلغ من اهتمام الأمراء بالمستشفيات أن بعضهم كان يشرف بنفسه على سير العمل فيها، ومن هؤلاء أحمد بن طولون الذي اعتاد أن يتفقد أحوال المرضى في كل يوم جمعة في البيمارستان العتيق.
ولم تكن رسالة البيمارستان قاصرة على الرعاية والعلاج، وإنما امتدت لتشمل إعداد الأطباء وتأهيلهم، فكان بمثابة جامعة تخرج الأطباء، ويتبعون ما يطلق عليه في الوقت الحاضر اسم فريق العمل (Team Work) حيث يشترك أكثر من طبيب في تشخيص الحالة وعلاجها. وهذا المنهج الإسلامي هو الأصل الذي نشأ عنه ما يعرف في الوقت الحاضر في مجال العمل الطبي باسم مؤتمر الحالة (Case Conference) حيث يجتمع عدد من الأطباء والأخصائيين ويدرسون حالة مريض معينة، ويبدي كل منهم رأيه، ويتبادل الجميع الخبرة والمشورة.
أما المَجاذم: فقد خصصت لعلاج المجذومين، وأول مؤسسة عرفت في بلاد العرب هي مَجْذمة الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة 88 هـ، ثم تعددت المجاذم بعد ذلك. وتعد المجاذم العربية أول دور عولج فيها المصابون بالجذام معالجة فنية، وكان الدخول إليها غير تابع لقيد أو شرط، بينما كانت المجاذم في الغرب مخصصة لفئة من الناس. وكان على المقبول فيها أن يدفع رسماً باهظاً وأن يصطحب معه ما يحتاج إليه من مقاعد وأسرة وأواني الطعام والشراب.
وأما مستشفيات الأمراض العقلية: فقد تأسست في زمن الأمويين للعناية بالذين أصابهم مس أو اعتراهم ضَعفٌ عقلي. فقد كان المسلمون يعتبرون المعتوهين معدمين وعالة على إحسان الدولة، لأن إصابتهم بقضاء من الله وقدره.
ولقد جاء في صك الأوقاف التي حبس ريعها لصالح المستشفى النوري أو العتيق (بحَلب) أن كل مجنون يخص بخادمين فينـزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد، ثم يلبسانه ثياباً نظيفةً ويحملانه على أداء الصلاة، ويسمعانه قراءة القرآن يقرؤه رجل حسن الصوت، ثم يفسِّحانه في الهواء الطلق.
أما في أوروبا، فكان المجانين يُحرمون من دخول المستشفيات، وكانوا يقيدون بالسلاسل في بيوت الجنون، تلك البيوت التي كانت شراً من السجون، فيبقون فيها حتى ينتهي أجلهم بالموت المشؤوم!
فهل تمت الإجابة على السؤال: أين كان الغربُ… يوم كنا في ظل الخلافة الإسلامية؟
كان ذاك ما فعلته الخلافة الإسلامية، فقد سبقت الغرب الكافر بقرون حين اهتدت إلى المستشفيات، وهذا هو ما ستفعله الخلافة الراشدة الثانية القادمة قريباً بعون الله.
فإلى شحذ الهمم وإنارة الظُلَمِ ندعوكم أيها المسلمون، ولفتح أبواب النور بإقامة الخلافة الراشدة نستنهضكم، فتُضاء الأرض بنور الإسلام وخيره من جديد.
( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة 15-16].
بقلم: محمد هاشم عبد اللطيف – الخرطوم
2006-09-01