إن من أول ما يجب على المسلم إدراكه والإيمان به هو أن له شيطانًا قرينًا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه، يرافقنا من أول دنيانا إلى آخرها، لا همَّ له إلا أن يغلب الإنسان بإيقاعه بالكفر والمعصية، وبتسلطه على قلبه وعقله وجوارحه بالنزغ والوسوسة والهمز واللمز والنفث والنفخ والغواية والتزيين… ولا يغلبه الإنسان إلا بالإيمان وبطاعة الله وبدوام التوكل عليه وبالتوبة والتزام الاستغفار… وبمعصية الشيطان في كل أمر من أمور دينه ودنياه، فالعبادة لا تصفو لله إلا باجتناب الشيطان واتخاذه عدوًّا… نعم، إن أول ما على المسلم أن يبقى ماثلًا في ذهنه وقلبه هو أن الشيطان هو عدوُّه الأول، مهمته الوحيدة أن يضلَّه ويمنِّيه ويرديه في جهنم، وأن سبب هذه العداوة هو أن الله سبحانه وتعالى قد أمره بالسجود لآدم عند أول خلقه؛ ولكنه استكبر واستعلى وأبى متذرعًا أنه أفضل منه؛ فأهبطه الله وأخرجه من الجنة مذؤومًا مدحورًا وأوعده جهنم هو وذريته… إنه صراع لا يهدأ أبدًا حتى يموت الإنسان، فالشقيُّ من كان في حزب الشيطان، والسعيد من جنَّبه اللهُ الشيطانَ… إنه صراع ليس بين المسلم والشيطان فحسب، بل هو صراع بين (حزب الله) و(حزب الشيطان). فالشيطان عدو يجب التحصن منه.
إن إدراك سبل غواية الشيطان للإنسان يجب أن يكون معلومًا… إنه يزين له الباطل ويدعوه إليه، ويستفزُّه ليرتكب الحرام بإثارة حميَّته الجاهلية، يستحثُّه على ارتكاب الحرام… إنه حديث النفس الذي يكره أن يطلع عليه الناس، إنه وإنه وإنه ولكنه لا يملك أي سلطة مادية تجبر المسلم لأن يفعل ما يأمره به، قال تعالى: (وَقَالَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لَمَّا قُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمۡ وَعۡدَ ٱلۡحَقِّ وَوَعَدتُّكُمۡ فَأَخۡلَفۡتُكُمۡۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوۡتُكُمۡ فَٱسۡتَجَبۡتُمۡ لِيۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوٓاْ أَنفُسَكُمۖ مَّآ أَنَا۠ بِمُصۡرِخِكُمۡ وَمَآ أَنتُم بِمُصۡرِخِيَّ إِنِّي كَفَرۡتُ بِمَآ أَشۡرَكۡتُمُونِ مِن قَبۡلُۗ إِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ ٢٢)[إبراهيم: 22] جاء في تفسير الآية عند القرطبي: «وما كان لي عليكم من سلطان أي من حجة وبيان، أي ما أظهرت لكم حجة على ما وعدتكم وزينته لكم في الدنيا إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، أي أغويتكم فتابعتموني. وقيل: لم أقهركم على ما دعوتكم إليه إلا أن دعوتكم هو استثناء منقطع، أي لكن دعوتكم بالوسواس فاستجبتم لي باختياركم ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم وقيل: وما كان لي عليكم من سلطان أي على قلوبكم وموضع إيمانكم لكن دعوتكم فاستجبتم لي».
– أَخْرَجَ أَحْمَدُ النَّسَائيُّ في صَحِيحِه: «إنَّ الشَّيطانَ قعدَ لابنِ آدمَ بأطرُقِهِ، فقعدَ لَهُ بطريقِ الإسلامِ، فقالَ: تُسلمُ وتذرُ دينَكَ ودينَ آبائِكَ وآباءِ أبيكَ، فعَصاهُ فأسلمَ، ثمَّ قعدَ لَهُ بطريقِ الهجرةِ، فقالَ: تُهاجرُ وتدَعُ
أرضَكَ وسماءَكَ، وإنَّما مثلُ المُهاجرِ كمَثلِ الفرسِ في الطِّولِ، فعَصاهُ فَهاجرَ، ثمَّ قعدَ لَهُ بطريقِ الجِهادِ، فقالَ: تُجاهدُ فَهوَ جَهْدُ النَّفسِ والمالِ، فتُقاتلُ فتُقتَلُ، فتُنكَحُ المرأةُ، ويُقسَمُ المالُ، فعصاهُ فجاهدَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ: فمَن فعلَ ذلِكَ كانَ حقًّا على اللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، ومن قُتِلَ كانَ حقًّا على اللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، وإن غرِقَ كانَ حقًّا على اللَّهِ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، أو وقصتهُ دابَّتُهُ كانَ حقًّا على اللَّهِ أن يُدْخِلَهُ الجنَّة».
إنَ الشَّيطانَ عدوٌّ مبينٌ للإنسانِ، وقد عُرِفَ بعَدواتِه له منذُ الأزَلِ، وهو يُوسوسُ له بما يَمنعُه مِن الإقبالِ على اللهِ عزَّ وجلَّ. وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيطانَ قعَد لابنِ آدَمَ بأَطْرُقِه» أي طُرُقِ هَدْيِه وصَلاحِه يُوسوِسُ له ليَمنَعَه مِن السَّيرِ فيها، «فقَعَد له بطَريقِ الإسلامِ». أي ليَمنَعَه مِن الإسلامِ، «فقال» أي الشَّيطانُ: «تُسلِمُ وتَذَرُ دِينَك ودِينَ آبائِك وآباءِ أبيك؟!» أي: يُنكِرُ عليه إسلامَه مُخالِفًا لدينِ آبائِه، «فعَصاه». أي لَم يَسمَعْ له ابنُ آدَمَ وخالَفَه، فأسلَمَ ابنُ آدَمَ للهِ عزَّ وجلَّ.
«ثمَّ قعَد الشَّيطانُ لابنِ آدَمَ بطَريقِ الهِجرةِ؛ ليَمنَعَه مِن الهِجرةِ، فقال الشَّيطانُ: «تُهاجِرُ وتدَعُ أَرضَك وسماءَك» أي ينكِرُ عليه الشَّيطانُ أنْ يُهاجِرَ، ويُعظِّمُ له مِن أمرِ مَوطِنِه، ويقولُ له: «وإنَّما مثَلُ المهاجِرِ كمَثلِ الفرَسِ في الطِّوَلِ» أي يَزيدُ الشَّيطانُ مِن التَّغريرِ بابنِ آدَمَ، فيُصوِّرُ له أنَّ المهاجِرَ في الغُربةِ كمثْلِ الفرَسِ المقيَّدِ، لا يَعرِفُ أحدًا ولا يُخالِطُه أحَدٌ إلَّا بقَدْرِ مَعارِفِه؛ فَهُوَ كالفَرسِ فِي القيدِ لا يَدُور ولا يرْعَى إلَّا بِقَدْرِهِ، بِخِلَاف أهلِ الْبِلاد في بِلادهمْ فإنَّهُم مَبسوطونَ لَا ضِيقَ عَلَيْهِم فأحدُهم كالفرس الْمُرْسل، وهذا من وسوسةِ الشيطانِ وتَخويفِه للمُؤمِن؛ فيُذكِّرُه بالمتاعبِ والمشاقِّ، ويُوازنُ له بين قُيودِ الإيمانِ، وبينَ حالِ الكافرِ وما أمامَه مِن الفُسحةِ وعدمِ التقيُّدِ بأوامرَ أو نَواهٍ؛ ليصرفَه عن طريقِ الإيمانِ؛ ولكنَّ المؤمنَ الموفَّقَ مِن اللهِ رَفَضَ كيدَ الشَّيطانِ «فعَصاه فهاجَرَ» أي لَم يَسمَعْ ابنُ آدَمَ للشَّيطانِ وخالَفَه.
«ثمَّ قعَد الشَّيطانُ لابنِ آدَمَ بطَريقِ الجِهادِ؛ ليَمنَعَه مِن الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ، «فقال» الشَّيطانُ: «تُجاهِدُ؛ فهو جَهْدُ النَّفسِ والمالِ». أي يُقلِّلُ له مِن شَأنِ الجِهادِ، وإنَّما هو إرهاقٌ وتعَبٌ للنَّفسِ والمالِ، «فتُقاتِلُ فتُقتَلُ» أي فيكونُ جزاؤُك في القِتالِ القَتلَ، «فتُنكَحُ المرأةُ» أي: يتزوَّجُ زَوجتَك رجُلٌ غيرُك، «ويُقسَمُ المالُ» أي يَذهبُ للورَثَةِ، «فعَصاه فجاهَد» أي لَم يسمَعْ له ابنُ آدَمَ وخالَفَه وخرَج للجِهادِ، «فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: «فمَن فعَل ذلك» أي خالَف الشَّيطانَ وأسلَم وهاجَر وجاهَد، «كان حقًّا على اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُدخِلَه الجنَّةَ» أي جزاءً وأجرًا له «ومَن قُتِل كان حقًّا على اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُدخِلَه الجنَّةَ، وإنْ غَرِق كان حقًّا على اللهِ أنْ يُدخِلَه الجنَّةَ، أو وقَصَتْه دابَّتُه» أي كانت سبَبًا في مَوتِه؛ كأنْ وقَعَ مِن عليها فمات، أو وطِئَتْه «كان حقًّا على اللهِ أنْ يُدخِلَه الجنَّةَ» والمرادُ تَعميمُ أحوالِ الموتِ في سَبيلِ اللهِ تَعالَى، أي سواءٌ أكان مَوتُه بالقَتلِ، أم الغَرقِ، أم بوَقصِ دابَّتِه، أم غيرِ ذلك مِن أسبابِ الموتِ؛ فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُدخِلُه الجنَّةَ.
وفي الحديثِ تحذيرُ مِن الشَّيطانِ، وبيانُ أنَّه يترصَّدُ لابنِ آدَمَ في كلِّ طُرُقِ الخَيرِ؛ فعَلى المسلِمِ الاحتياطُ لنَفْسِه والاستعانَةُ باللهِ تعالى.
– أخرج أَحْمَدُ ومُسْلِمُ عَن عبدالله بنِ مَسعودٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنكُم مِن أحدٍ إلاَّ وقدْ وُكلَ به قَرينه مِن الجنِّ، قالوا: وإيَّاك يا رَسولَ الله؟! قال: وإيَّاي، إلاَّ أنَّ اللهَ أعانَني عليه فأسلَمَ، فلا يَأمُرُني إلا بَخير». إن الشَّيطان لا يُفارِق الإنسان البتَّة سواء كان صالحًا أو فاسِدًا، لا همَّ له إلا الإعاقة عن الخَير، والدَّفع إلى الشرِّ، وهو قرين مُلازمٌ في كلِّ حالٍ لا يُفارِقه أبدًا، كما قال.
– أخرج أحمد ومسلم والبخاري عَن صفيَّة ابنةِ حُييٍّ، ما يبين درجةَ قُربِ هذا الشَّيطان مِن الإنسانِ فقالتْ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشَّيطان يَجْرِي مِن الإنسانِ مَجْرى الدَّمِ». رواه أحمد والبخاري ومسلم.
أخرج أحمد ومسلم عن أبي هُريرة، قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إذا قرَأ ابنُ آدَمَ السَّجدةَ فسجَد اعتزلَ الشَّيطان يَبكي، يَقول: يا وَيلي! أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسُّجودِ فسجَد فله الجنَّة، وأمْرتُ بالسُّجود فأبَيتُ فلِيَ النَّار». وبكاء إبليس المذكور في الحديث: ليس ندمًا على معصيته، ولا رجوعًا عنها، وإنما ذلك لفرط حسده وغيظه وألمه…
– أخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ المؤمن لينضي شيطانه، كما ينضي أحدكم بعيره في سفره. وقال في شرح الجامع الصغير: «لينضي شيطانه» أي يهزله ويجعله نضواً، أي مهزولاً، لكثرة إذلاله له وجعله أسيراً تحت قهره وتصرّفه؛ لأنّه إذا عرض لقلبه احترز عنه بمعرفة ربّه، وإذا اعترض لنفسه وهي شهواته احترز بذكر الله، فهو أبداً ينضوه، فالبعير يتجشَّم في سفره أثقال حمولته، فيصير نضواً لذلك، وشيطان المؤمن يتجشّم أثقال غيظه منه لما يراه من الطاعة، والوفاء لله… وأشار بتعبيره «ينضي» دون يهلك ونحوه إلى أنه لا يتخلّص أحد من الشيطان ما دام حيّاً، فإنّه لا يزال يجاهد القلب وينازعه، والعبد لا يزال يجاهده مجاهدة لا آخر لها إلّا الموت؛ لكنّ المؤمن الكامل يقوى عليه، ولا ينقاد له، ومع ذلك لا يستغني قطّ عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه، فإنّه ما دام حيّاً فأبواب الشياطين مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق، وهي الشهوة والغضب والحدة والطمع والثروة وغيرها… ومهما كان الباب مفتوحاً والعدو غير غافل لم يدفع إلّا بالحراسة والمجاهدة.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلّقاً على الحديث: «لأنّه كلّما اعترضه صبّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، [فشيطانه معه في عذاب شديد]، ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة؛ ولهذا يكون قويّاً عاتياً شديداً، فمن لم يعذّب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته، عذّبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بدّ لكلّ أحد أن يعذّب شيطانه، أو يعذّبه شيطانه».