عز الدين أبو البشير
تتردد مقولة بين أوساط الوعاظ ممن يتحمَّسون للدعوة إلى الإسلام ملخصها أن «لا نهضة للإنسان ولا للمجتمع إلا بالأخلاق» فالإنسان بأخلاقه، فإن وجدت هذه الأخلاق نهض وارتقى، وإن عدمت انخفض وانحطَّ، ثم يبنون على هذا التوصيف للإنسان فيقولون: والمجتمع إنما هو بأُناسِه، فإذا أصلحنا الفرد صَلُح المجتمع، فالركيزة الأساسية لنهضة الفرد والمجتمع؛ إنما هي الأخلاق، ثم يستدلون بالكتاب والسنَّة لتأكيد ما ذهبوا إليه، فيستدلون بقوله تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ٤) [القلم: ٤]، ومن أبرز ما يستدلون به من السنَّة قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» وفي رواية: «صَالِحَ الْأَخْلَاقِ» وفي رواية: «حُسْنَ الْأَخْلَاقِ» أخرجه مالك وأحمد والطبراني والحاكم. فيقولون بعد سرد هذه النصوص إن الهدف الأساس لإرسال الرسل إنما هو غرض أخلاقي، والدين نفسه إنما هو الخُلُق!!! فما حقيقة هذا القول؟ وهل ما استدلُّوا به يعتبر دليلًا على ما ذهبوا إليه؟ وما هو القول الصحيح في واقع الإنسان وواقع المجتمع؟ وما هي مكانة الأخلاق في الإسلام؟ وأين موضعها من التشريع الإسلامي؟… هذه أسئلة، وستتبعها إجابات بعونه تعالى.
قال ابن منظور في «لسان العرب»: الخُلق، بضم اللام وسكونها: وهو الدين والطبع والسجية. وبهذا المعنى اللغوي وردت كلمة خُلُق وأخلاق في الكتاب والسنَّة، فلم يجعل الشرع لهذه اللفظة معنى شرعيًا خاصًا، وإنما وردت حسب مدلولها اللغوي، فقوله عز وجل مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤) [القلم: ٤] دارت أقوال أهل التفسير فيها على قولين؛ القول الأول، وهو قول الأكثرين منهم: ابن عباس، ومجاهد، وأبو مالك، والسدي، والربيع بن أنس، والضحاك، ومقاتل، وابن زيد؛ أي: وإنك لعلى دين عظيم، وهو الإسلام. وذهب البعض ومنهم: علي، وعطية إلى أنه: أدب القرآن. وقال الطبري جامعًا القولين في معنى واحد: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدّبه الله به، وهو الإسلام وشرائعه.
فجمهور أهل التفسير اعتبروا المعنى الأول: (الدين)، وبعضهم اعتبر المعنى الثاني: (الطبع والسجية)، فإن رجحنا المعنى الأول، وهو ما يشير إليه السياق، فإنه لا يصلح دليلًا لما ذهبوا إليه، وهم أرادوا باستدلالاتهم معنى غير هذا المعنى، أما إن قلنا بالمعنى الثاني، وهو المعنى الذي أرادوه، فيفهم كما فهمته أمنا عائشة رضي الله عنها «كان خلقه القرآن»، أي: أصبحت أحكام القرآن بما فيه من أوامر ونواه كالطبع والسجية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضلًا عن كون الآية وصفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تصلح دليلًا على جعل الأخلاق أساس نهضة الفرد والمجتمع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» يندرج وفق المدلول اللغوي لهذه اللفظة، ذكر الطحاوي في كتابه «مشكل الآثار» قوله: «فكان معنى ذلك عندنا – والله أعلم – أن الله عز وجل إنما بعثه ليكمل للناس دينهم، وأنزل عليه مما يدخل في هذا المعنى، وهو قوله عز وجل: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ) [المائدة: 3]، فكانت بعثته إياه عز وجل ليكمل للناس أديانهم التي قد كان تعبَّد من تقدَّمه من أنبيائه بما تعبَّده به منها، ثم كمَّلها عز وجل له بقوله: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ) [المائدة: 3] والإكمال: هو الإتمام، فهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ»، أي: صالح الأديان، وهو الإسلام، وبالله التوفيق). انتهى.
وقد يفهم الحديث على المعنى الثاني: (الطبع والسجية)، ويكون المعنى مقاربًا للمعنى الأول، بأن الله عزَّ وجلَّ أكمل مكارم الأخلاق ببعثه صلى الله عليه وسلم، فبعثته كانت لإتمام الدين، ومنها مكارم الأخلاق، وكلا المعنيين وارد وفق مدلول اللغة، ولا توجد قرينة ترجح أحد المعنيين، ولفظة «إنما» الواردة في الحديث لا ترجِّح كذلك أحد هذين المعنيين فــ«إنما» تأتي للحصر، وتأتي كذلك لغير الحصر في اللغة، فإن فهمت وفق المعنى الأول: (الدين)، كانت للحصر، وإن فهمت وفق المعنى الثاني (الطبع والسجية) كانت للتأكيد فتكون كما ذكرنا مِنْ أن بعثته صلى الله عليه وسلم أُتِمَّ بها الدين، ومنها مكارم الأخلاق، وفي هذا المعنى جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ» أخرجه البخاري. فبعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت اللبنة التي أتمت الشريعة بكليتها، ومن ضمنها مكارم الأخلاق.
وعليه فالفهم المغلوط لمعنى الآية والحديث، وجرُّها للقول بأن النصين يدلان على أن نهضة الفرد لا تكون إلا بالأخلاق، وتعليل الحديث بأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت لتمام الأخلاق التي هي على فهمهم (الصفات التي يُتَّصَفُ بها) فقط، فهمٌ مغلوط لا يستقيم مع ما دلت عليه الآية والحديث، وعليه فلا وجه استدلال لهم بما استدلوا به؛ وبهذا يتَّضح أن قَصْر الدين كله على الخُلُق، وجعل الخلق هو الدين فهم خاطئ لا يستند إلى دليل، فضلًا عن أن جعل الدين كله إنما هو الأخلاق، كلامٌ يكذبه واقع الأمر من أن الدين فيه العقيدة، وفيه العبادات، والمعاملات، والأنظمة المسيِّرة لشؤون الناس، وكلها ليست من الأخلاق، وكلها جاء الإسلام بها.
أما عن واقع هذا القول من أن الفرد والمجتمع إنما تكون نهضتهما بالأخلاق التي هي: (الطبع والسجية، أو الصفات التي يُتَصَفُ بها) فهذا قول بعيد كل البعد عن الصواب. فالنهضة لا تقوم على أساس أفكار جزئية كالأخلاق، وإنما تقوم على فكرة كلية بحيث تصلح هذه الفكرة لأن تكون أساسًا للتفكير في كل شيء، فتكون هذه الفكرة الكلية هي القاعدة الفكرية، وعنها تنبثق الأنظمة، وهذا لا ينطبق على الأفكار الجزئية كالأخلاق، فالأخلاق لا تصلح أن تكون أساسًا للتفكير في كل شيء، وليس لها نظام ينبثق عنها، وبذلك لا تصلح إلا الفكرة الكلية لأن تكون أساسًا للنهضة، سواء للفرد أم للمجتمع، وهذه الفكرة الكلية ليست سوى العقيدة العقلية، أي: العقيدة التي تمَّ التوصُّل إليها عن طريق الفكر والنظر.
ثم إن الأخلاق هي أوصاف للأفعال، والإنسان ليست عنده القدرة لوصف الفعل أو الحكم عليه؛ وعليه فيكون الوصف الصحيح للفعل الواجب التقيد به إنما هو وصف الشرع، فالأخلاق عندنا هي أحكام شرعية تُلتزم وفق ما بيَّنه الشرع، فلا يصح أن يُلتزم بالأخلاق لكونها صفات حميدة وإنما تُلتزم بوصفها أحكامًا شرعية، فالأخلاق عندنا منبعها الوحي، بخلاف الأخلاق عند غيرنا من الأديان والمبادئ، فالأخلاق ليست واحدة عند جميع الشعوب والأمم، وإن كان بينها اشتراك في بعض النواحي.
أما عن واقع الإنسان والمجتمع، فإن الإنسان فيه حاجات عضوية وغرائز تدفعه لإشباعها، وجراء عملية الإشباع تنشأ عنده علاقات، ونستطيع أن نجمِل هذه العلاقات بثلاث هي:
١. علاقة الإنسان بخالقه وتشمل العقائد والعبادات.
٢. علاقة الإنسان بنفسه وتشمل الأخلاق والمطعومات والملبوسات.
٣. علاقة الإنسان بغيره من بني الإنسان وتشمل المعاملات والعقوبات.
والإسلام إنما جاء لتنظيم هذه العلاقات؛ بحيث تحقِّق رقيَّ الإنسان ونهضته، ومن ذلك نستخلص مقومات الفرد التي ينهض عليها، وهي مرتبة حسب الأهمية: ١. العقيدة. ٢. العبادات. ٣. المعاملات ٤. الأخلاق. وإذا غاب مقوم من هذه المقومات، فإن النهضة للفرد لا تتحقق، وعليه يدرَك أن الإنسان لا ينهض بالأخلاق؛ وإنما ينهض بهذه المقومات، والأخلاق إنما هي جزء من أربعة أجزاء من مقومات نهضة الفرد.
أما بالنسبة للمجتمع، فإن الناس لحاجتهم لإشباع حاجاتهم وغرائزهم، وكون الإنسان لا يستقلُّ بذاته في عملية الإشباع، اضطُّر لإنشاء علاقة مع غيره من بني الإنسان، وهذه العلاقة لا بد من أن تكون دائمية حتى يستقرَّ العيش للناس داخل جماعتهم، وهذه العلاقة الدائمية عبارة عن أفكار يُتفق عليها، ومشاعر منسجمة مع هذه الأفكار، ونظام يحافظ على أفكار المجتمع ومشاعره، ومن هذا الوصف لواقع المجتمع يتَّضح أن المجتمع لا يقوم على الفرد فقط؛ وإنما يقوم عليه، وعلى العرف العام (أفكار، مشاعر) وعلى النظام الذي يحافظ على العرف العام هذا، فلا تأثير للأخلاق على واقع المجتمع، وليست مُقَوِّمَهُ الأساس، ولا جزءًا من مقوماته.
وموضع الأخلاق التي وضعها الشرع للإنسان أنها أوامر ونواه، أي: أحكام شرعية واجبة الاتِّباع فيما أتت به، يتصف بها المسلم أثناء سيره في معترك الحياة. فالله عزَّ وجلَّ أمر بالصدق وحرَّم الكذب باعتباره حكمًا شرعيًّا، وأجاز الكذب في الحرب باعتباره حكمًا شرعيًّا، وأمر بالرحمة على المؤمنين والشدَّة على الكافرين باعتبارها أحكامًا شرعية لا مجرد صفات خُلُقية، فهذا موضع الأخلاق، وهي أحكام شرعية تُلتَزم وفق حكمها الشرعي؛ لكن الفرد لا ينهض بها وحدها، ولا علاقة لها بنهضة المجتمع أو انحطاطه.