الحرب الأوكرانية ومخاطر التضخم النقدي!!
2022/07/11م
المقالات, كلمات الأعداد
1,585 زيارة
حمد طبيب – بيت المقدس
إنها ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة التي يتهدَّد فيها النظام المالي الرأسمالي الغربي بالمخاطر الكبيرة التي تؤثر سلبًا وبشكل فاعل على كافة مفاصله الاقتصادية في الحياة؛ مثل النظام النقدي والعملات، والمؤسسات المالية كالبنوك والبورصات، ومؤسسات الإقراض الدولي كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ونظام المبادلات التجاري عبر النظم الرأسمالية المتفق عليها كنظام سويفت والبيتكوين وغيرها، وقيم السلع والخدمات، ورواتب الموظفين والأجور، وغير ذلك من أمور متعددة ومتشعبة تتأثر سريعًا وبشكل فاعل بهذا النظام المالي.
ففي سنة 1929م، أي بعد الحرب العالمية الأولى، حدث ما يسمى بالكساد الكبير نتيجة خلل حصل في الاقتصاد العالمي، خاصة في أمريكا على وجه الخصوص، وتسبَّب ذلك بانهيارات متسارعة في النظام المالي، شمل كل مفاصل هذا النظام تقريبًا؛ فاهتزّت البورصات في يوم واحد وتكبَّدت المليارات؛ حيث خسر مؤشر داو جونز في السوق المالي حوالى 22% من قيمته في يوم واحد!! وبلغت الخسائر الأمريكية خلال بضعة أيام – من بداية الأزمة – حوالى 30 مليار دولار؛ أي أكثر من الميزانية الاتحادية الأمريكية بعشر مرات. ولم تقف الأمور عند أمريكا، بل انتقلت إلى فرنسا وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية. واستمر الحال حوالى عشر سنوات متتالية. ولم تستطع أمريكا الخروج من هذه الأزمة المدمِّرة إلا بعد دخولها مرة أخرى مع دول التحالف في الحرب العالمية الثانية؛ حيث بدأت تتعافى شيئًا فشيئًا؛ والسبب في الأزمة كما يرى كثيرٌ من الاقتصاديين هو الكساد الذي حصل في الأسواق نتيجة توقف الحرب، وبالتالي توقف الآلة الصناعية الأمريكية عن الإنتاج، وظهور جيوش من العاطلين عن العمل، فأثَّر ذلك مباشرة على أسواق المال بكثرة العرض وقلة الطلب، فأثَّر على أسعار الأسهم فانخفضت بشكل كبير!! والمأساة نفسها تكرَّرت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث خرجت أوروبا من الحرب العالمية الثانية مكسورة الجناح اقتصاديًّا، وكادت أن تنهار اقتصاديًّا لولا تدخل أمريكا في مشروع مارشال، وهو مشروع إنقاذ أوروبا عبر عشر سنوات متتالية!!. وفي سنة 1990م، حدثت مأساة في المعسكر الشرقي؛ نتيجة نفقات الحرب الباهظة في أفغانستان، ونتيجة المساوئ في النظام الاقتصادي الاشتراكي، ونتيجة سباق التسلح باهظ التكاليف في مجاراة أمريكا في مشروع حرب النجوم، وغيره من مشاريع عسكرية. وأدى هذا الانهيار المالي – مع عوامل أخرى – إلى تفكك المنظومة الاشتراكية بأكملها وانهيار النظام المالي وانهيار الاشتراكية برمتها كوجهة نظر عن الحياة، ونظام ينظم أمور البشر!!. وفي سنة 1997م، حدثت مأساة مصطنعة في أسواق المال؛ حيث انهارت النمور الآسيوية، وتأثَّرت بذلك أسواق المال العالمية، وتسبَّب بخسارات كبيرة حتى كادت أن تهدم دولًا بأكملها!!
ثم حدثت الأزمة المالية سنة 2008م، وهي ما تعرف بأزمة الرهن العقاري؛ حيث فقدت الأسواق المالية الكثير من قيمتها؛ وتسبَّب ذلك بانهيار مؤسسات مالية وبنوك، وكادت أن تهدم النظام المالي برمته في أمريكا، وبالتالي عالميًّا لولا تدخل الدولة، خاصة في أمريكا، عن طريق كسر أهم قواعد النظام الاقتصادي الغربي، وهو حرية السوق؛ فأنقذت البعض من هذه المؤسسات الحيوية!!
هذه بعضٌ من النماذج التي حصلت وما زالت تتكرر في العالم بين الفينة والأخرى. وإن العالم اليوم ليقف أمام مأساة جديدة قد بدأت تظهر بداياتها في العالم؛ وذلك نتيجة الحرب الأوكرانية، ونتيجة ما ترتب عليها من حروب اقتصادية تجاه روسيا، وربما تتدحرج في القريب تجاه الصين. فما هي الأمور التي تتأثر بشكل مباشر بهذه الأزمة العسكرية، وما هي طريقة إنقاذ البشرية من مآسيها الكبيرة؟
هناك أمور كثيرة تتأثر اقتصاديًّا بهذه الحرب أبرزها: التضخم المالي وارتفاع الأسعار، وبالتالي تقلّص قيمة الأجور الشرائية لدى العمال والموظفين نتيجة انخفاض قيمة النقد بسبب كثرة المعروض منه في الأسواق!
إن مسالة التضخم لا تنفك عن النظام الرأسمالي، وهي موجودة في كل الدول على تفاوت بينها؛ وذلك لأسباب عديدة أبرزها النظام النقدي العقيم الذي لا يستند إلى ذاته في قيمته، وبالتالي فإن الموجود منه في الأسواق، لا يمثل قيمته الحقيقية. وهذا يؤدي إلى التضخم، بالإضافة إلى أسباب أخرى سنذكرها عندما نتحدث عن طريقة المعالجة للمساوئ في النظام المالي بشكل عام. فعندما يزداد حجم النقود في السوق مقارنة مع حجم الاقتصاد الموجود؛ أي عن المستوى المطلوب، يسبب ذلك التضخم، فتنخفض قيمة النقود بين أيدي الناس، وترتفع الأسعار، وبالتالي تتناقص قيمة الأجور بشكل تلقائي أمام السلع والخدمات الأخرى. وتحاول الدول عادة معالجة التضخم بطرق معوجة من جنس النظام المطبَّق، فترفع سعر الفائدة الربوية، ليتم سحب كميات من النقود من الأسواق إلى البنوك، وبالتالي ترتفع قيمة النقد أمام السلع والخدمات، وتتحسن قيمة الأجور. إن هذه المعالجة وإن كانت تؤثر في مسألة التضخم، ولكن لها آثارًا مأساوية على مفاصل الاقتصاد الأخرى؛ مثل قلة المشاريع بسبب ارتفاع قيمة الفوائد البنكية على الإقراض، وهذا بالتالي يعيد المأساة نفسها في رفع قيمة السلع مرة أخرى، ويؤثر أيضًا على البطالة؛ حيث تزداد البطالة بقلة المشاريع الاقتصادية في المجتمع!!.
لقد حصل تضخم في معظم الأسواق المالية الغربية خاصة في أمريكا حتى بات الاقتصاديون داخل أمريكا يحذرون من مسألة الكساد وارتفاع أسعار السلع، وقلة الإنتاج وتناقص قيمة الأجور، وبالتالي حدوث اضطرابات مجتمعية داخل الولايات في أمريكا!!.
فقد ارتفع التضخم إلى أعلى مستوى منذ سنة 1981م؛ حيث بلغ هذا العام 8.5%. فقد ذكر موقع (بي بي سي) 13/4/2022م أن معدل التضخم في الولايات المتحدة سجَّل أعلى مستوى له منذ 40 عامًا، بعد أن ارتفعت أسعار الوقود خلال الشهر الأول من الحرب في أوكرانيا. وارتفعت أسعار السلع بنسبة 8.5%، وهي أكبر زيادة سنوية منذ كانون الأول 1981م. وحذرت وزيرة العمل الأمريكية في 12 كانون الثاني 2022م بالقول: «من شأن هذه الزيادة في معدل التضخم زيادة الضغوط على الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي)، لتشديد السياسة النقدية؛ بتقليل حيازته من السندات والأوراق المالية، ورفع أسعار الفائدة… ومعدل التضخم حاليًّا أعلى بكثير من المستوى الذي يستهدفه المركزي الأمريكي عند 2% على المدى المتوسط». وحذَّر روبرت هابيك؛ نائب المستشار ووزير الاقتصاد الألماني في مؤتمر دافوس الاقتصادي 2022م فقال: «لدينا ما لا يقل عن أربع أزمات متضافرة… لدينا تضخم مرتفع… لدينا أزمة طاقة… لدينا فقر غذائي… ولدينا أزمة مناخ.. لا يمكننا حل المشاكل إذا ركزنا على أزمة واحدة فقط…» وأضاف: «إذا لم يتمَّ حلُّ أيٍّ من المشاكل، فأنا أخشى حقًّا أننا سنواجه ركودًا عالميًّا، له تأثير هائل على الاستقرار العالمي»!.
إن هذا التضخم لا يتوقف، بل يزداد بامتداد أمد الحرب، وتأثير هذه الحرب والحصار على روسيا على كثير من أمور الاقتصاد العالمية؛ كارتفاع أسعار الوقود، وكانخفاض عدد السياح وارتفاع أسعار السلع والخدمات، وقلة التصدير إلى الخارج، وتذبذب السوق المالي وغير ذلك… والسبب في ارتفاع نسبة التضخم عالميًّا هو أن أمور الاقتصاد مترابطة، ويتأثر بعضها ببعض، ولا تنفصل واحدة عن الأخرى؛ سواء أكان في البلد الواحد كأمريكا أم في البلدان الأخرى. فقد أثرت الحرب على أمور كثيرة سلبًا، وبالتالي أدت إلى هذه الأمور الخطيرة على الاقتصاد العالمي برمته. فالحصار على روسيا أدَّى إلى ارتفاع أسعار كثير من السلع الحيوية؛ خاصة الطاقة والحبوب، وبالتالي أثَّر على حجم الصناعات والتصدير، وأثَّر كذلك على أسعار السلع الحيوية الأخرى، وأثَّر على حجم السياحة، وعلى الاستيراد والتصدير، وعلى أسواق المال العالمية. وكلما تأثرت واحدة من هذه الأمور تأثرت باقي مفاصل الاقتصاد في العالم. والظاهر أن الأمور تزداد ولا تتوقف، وربما تتدحرج كما ذكرنا إلى الصين وأحلافها فتزداد الأمور مأساة فوق مأساة.
إن السبب الأساس في موضوع التضخم لا يكمن في الأمور التي ذكرنا – لو كان النظام صحيحًا؛ تستند فيه النقود إلى قيمتها الذاتية – وإنما حصل ذلك بسبب النظام النقدي المكشوف الخاطئ، والذي لا يستند إلى ذاته في قيمته، ولا يستند حتى إلى شيء ثابت من سلع وخدمات مقوَّمة بقيمته فقط. إن السبب الأساس هو النظام النقدي الـمُعوَّم عالميًّا، ولا يستند إلى قيمة حقيقية؛ لذلك تبقى مسألة التضخم مسألة ملازمة للنظام النقدي الرأسمالي، بالإضافة إلى تأثرها بالهزَّات السياسية والعسكرية والاقتصادية. ولو كان الأمر صحيحًا؛ أي يستند النقد في قيمته إلى الذهب والفضة لما حدث أصلًا تضخم، ولما حدثت مشاكل اقتصادية أخرى تتعلق بالنظام المالي.
إن مسألة التضخم النقدي هي سيئة من سيئات هذا النظام المتربع على عرش العالم، وهو نظام سقيم يعتمد على مصِّ دماء الشعوب، وعلى السلب والنهب عن طريق النظام النقدي. وفوق ذلك يتسبب للعالم بأزمات متعددة ومتجددة، في كل حين، ومنها مسألة التضخم التي تسلب من الناس مدَّخراتهم وأجورهم، وترفع عليهم أسعار السلع الحيوية لاستمرارية عيشهم وبقائهم، وتنشر الرعب والخوف في كل مناحي الحياة الاقتصادية، وتتسبَّب بأعراض شتى ترتبط بهذه المفاسد الكبيرة.
إن التخلص من مسألة التضخم المالي، وما تسبِّبه من مآس كثيرة على مفاصل الاقتصاد هو فقط بتطبيق النظام الصحيح في الناحية النقدية، وفي كل الأمور الحياتية المتعلقة بحياة البشر. وقد طبِّق هذا النظام إلى حدّ معين قبل الحرب العالمية الأولى، وكان الخطر أقل بكثير مما عليه الآن؛ أي كان النقد مغطى بنسبة كبيرة من الرصيد الذهبي، فكانت المخاطر الاقتصادية أقل بكثير – خاصة في مسألة التضخم المالي – والتي تهدد مفاصل الاقتصاد العالمي هذه الأيام بالمخاطر الكثيرة.
إن هذا النظام الصحيح لا يطبَّق إلا بشكل كامل متكامل، ولا يمكن تطبيقه في جانب واحد هو النظام النقدي؛ لأنه سرعان ما يكشف هذه الدول القائمة على السلب والنهب، ويكشف اقتصادها الواهي؛ لذلك يجب أن يطبق النظام النقدي جنبًا إلى جنب مع النظام الاقتصادي الإسلامي، ومن ضمنه النظام النقدي. وهذا لا يكون إلا في ظل دولة تؤمن بهذا النظام، فتطبِّقه في بلادها أولًا ثم تحمله رسالة خير وهدى إلى الناس جميعًا. عند ذلك تتهاوى كل هذه النظم السقيمة، وينكشف أمرها فيصدق فيها قول المولى عز وجل: (أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٩) [التوبة: 109].
نسأله تعالى أن تكون هذه الأحداث مقدمات لعودة الإسلام، وانكشاف مبادئ الكفر السقيمة، تمامًا كما انكشفت فارس والروم قبل بزوغ نور الإسلام، وتهيَّأت الأجواء لقيام دولة الإسلام. اللهم آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
2022-07-11