بالخِلافة وحدها يُقام الدين…
الخلافة ليست فرضًا عاديًّا، بل هي في أول سلم الفروض، وهي تاج الفروض (2)
عبدالخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير – ولاية السودان
عندما نقول إن الخلافة هي تاج الفروض فلما يلي:
أولًا: إنه لا يختلف اثنان من المؤمنين بأن رسالة الإسلام تفرّدت عن غيرها من الرسالات بأنها أتت للناس كافة، قال تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا)، فهي صالحة لكل زمان ومكان، وفيها معالجات لجميع مشاكل الإنسان مهما تغيّرت هذه المشاكل وتنوّعت إلى يوم الدين، يقول الله سبحانه وتعالى: ( ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ ). كما أن الإسلام تميَّز عن غيره من المبادئ أنه دين وحضارة، وامتاز بأنه واقعي عملي، ينطبق على واقع الإنسان وليس دينًا نظريًا، بل نزل للعمل به؛ لذلك لم يقتصر الإسلام على الأفكار من بيان العقيدة والمعالجات فقط، بل بيّن كيفية تنفيذ هذه المعالجات، وكيفية حماية العقيدة، وكيفية حمل هذه العقيدة إلى العالم، وكانت هذه هي طريقته.
والطريقة أحكام شرعية فيها الأوامر والنواهي، فإن كان وجوب الإيمان والنهي عن الارتداد من الفكرة، كان التعامل مع المرتد وتطبيق الأحكام عليه من الطريقة. وكما أمرنا الله سبحانه وتعالى بالعفَّة ونهانا عن الزنا، وأمرنا بحفظ الملكية الفردية ونهانا عن السرقة؛ فإنه كذلك بيّن لنا كيفية المحافظة على العِرض وعقوبة الزاني، وبيَّن لنا أحكام النهب والاختلاس وحد السرقة، وهذه كلها أحكام شرعية يجب التقيُّد بها دون حيد، قال عز وجل: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَرَجٗا مِّمَّا قَضَيۡتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسۡلِيمٗا ٦٥)، وقال تبارك وتعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنٖ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمۡرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِيَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن يَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَٰلٗا مُّبِينٗا ٣٦) [الأحزاب: 36]. وحاشى لله أن ينزّل أحكامًا شرعية لمعالجة مشاكل الإنسان دون بيان كيفية تنفيذ هذه الأحكام، كأن يقول لنا: لا تزنِ، ولا تسرقْ، ولا تشربِ الخمر… ثم يتركنا هكذا؛ لأنه بذلك تصبح المعالجات فلسفة خيالية لا يمكن تطبيقها على الواقع، وهذا يخالف ما عليه الإسلام الذي ما ترك صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّنها للإنسان، ولم يترك مجالًا لأحكام الهوى والعقل أن تحكم البشر، قال تعالى: (وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ) [النحل: 89]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يُؤْمِن أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُون هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ» [صحيح البخاري]. ومن أوامر الله ونواهيه أنه أمرنا بالحكم بالإسلام ونهانا عن الحكم بغيره، قال سبحانه: (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ٤٩ ) [المائدة: 49]، وقد بيَّن لنا كيفية تنفيذ هذا الحكم، فشرّع نظامًا تفصيليًا للحكم هو نظام الخلافة، بيّن فيه أجهزة الخلافة وشروط الخليفة والبيعة وأجهزة الدولة وغيرها من تفصيلات. وقد بيَّن حزب التحرير ذلك تفصيليًا في كتابي (نظام الحكم في الإسلام) و(أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة) وهما من منشورات حزب التحرير؛ فكانت هذه هي طريقة الإسلام لتنفيذ أمر الله بالحكم بما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وهي نظام الخلافة، الذي يبايِع فيه الناس خليفة على كتاب الله وسنة نبيِّه لينوب عنهم بتنفيذ شرع الله داخل الدولة؛ فيحافظ بذلك على عقيدة الأمة، ويمنع ظهور الكفر البواح، وينفذ الفروض، ويمنع المحرمات، ويأخذ الزكاة ويردها إلى مستحقَّيها، ويقيم الحدود، ويفصل الخصومات، ويرعى شؤون الناس، ويحمل الإسلام رسالة إلى العالم بالدعوة والجهاد، وبذلك يكون الإسلام حيًّا يمشي على الأرض يُطبَّق على الناس ويُحمل للعالم، وهذا لا يكون إلا بالخلافة؛ لذلك كانت تاج الفروض.
ثانيًا: ومما جعل الخلافة تاج الفروض، أن الإنسان بطبيعته بحاجة إلى إشباع غرائزه وحاجاته العضوية، وهذا الإشباع يحتاج إلى تنظيم معيَّن، وإلا عاش الإنسان مضطربًا في شقاء. ولا يستطيع الإنسان أن يضع نظامًا من نفسه لنفسه؛ لأنه ناقص وعاجز ومحتاج لغيره؛ لذلك كان يجب أن يكون هذا النظام من الخالق الذي خلق الإنسان وخلق معه الغرائز والحاجات العضوية، وهو سبحانه العالـِم بكيفية تنظيم هذا الإشباع، قال تعالى: (أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ ١٤) [الملك: 14]؛ وعليه كانت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي النظام المنزَّل من الخالق لتنظيم إشباع غرائز الإنسان وحاجاته العضوية، فشرَع نظامًا مخصوصًا للعبادات نظَّم من خلاله إشباع غريزة التدين، وشرَع نظامًا اجتماعيًّا نظَّم من خلاله إشباع غريزة النوع، وشرَع نظامًا اقتصاديًّا وسياسيًّا فنظَّم من خلاله إشباع غريزة البقاء، وشرَع أحكامًا للمطعومات والمشروبات نظَّم من خلالها إشباع الحاجات العضوية. إلا أن هذه الأنظمة والأحكام لا يمكن أن تنظِّم حياة الإنسان وهي في بطون الكتب نتغنّى بها وبجمالها وكمالها، بل لا بد من أن تطبَّق في الحياة ليتحقَّق الإشباع المؤدِّي إلى السعادة والطمأنينة فعليًّا، فقوله تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ ) [الأنفال: 60]، وقوله تعالى: ( وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ ) [البقرة: 275]، وقوله تعالى: (وَلَا تُنكِحُواْ ٱلۡمُشۡرِكِينَ
حَتَّىٰ يُؤۡمِنُواْۚ وَلَعَبۡدٞ مُّؤۡمِنٌ خَيۡرٞ مِّن مُّشۡرِكٖ وَلَوۡ أَعۡجَبَكُمۡۗ ) [البقرة: 221]، وغيرها من أحكام الله لا تظهر نتائجها إلا بجعل الإسلام في الحكم، ولا يكون الإسلام في الحكم إلا بإقامة الخلافة التي تُلزم الناس بهذه الأحكام وتعاقب كل من يخالفها. وإقامة الخلافة لا تكون إلا بإعطاء الأمة -بالرضا والاختيار- سلطانها عن طريق البيعة لخليفة ينفِّذ أحكام الله عليها وينظِّم علاقات الناس على أساسها، ليتمَّ إشباع الغرائز والحاجات العضوية وَفق شرع الله، من هنا أيضًا تكون الخلافة تاج الفروض.
ثالثًا: لو نظرنا من ناحية المجتمع سنجد أن رقي المجتمع وطمأنينة الإنسان فيه يعتمدان على ما يعتبره الناس أنه مصلحة، وعلى النظام الذي ينظِّم العلاقات والأفكار التي تشكِّل القناعات والمشاعر لدى الناس، فكان يجب أن تكون المصالح راقية ويكون النظام صحيحًا. وقد أثبت الواقع العملي أن الإنسان غير قادر على أن يضعَ لنفسه نظامًا صحيحًا أو يحدد المصالح الراقية، فحين تُرك الإنسان دون هداية وأَد البنات، وقطَع الطريق، وعبَد الحجر، وباشَر الزنا، وضيَّع الأنساب. ولم يحيَ الإنسان حياة كريمة إلا عندما أرسل الله سبحانه وتعالى له النظام الربّاني الذي بيَّن المصالح الراقية والأفكار المستنيرة والمشاعر السامية، فأرشد الإنسان إلى ما هو نافع له، وحدَّد الخير والشر، والحسن والقبيح. قال تعالى: (فَلَا تَضۡرِبُواْ لِلَّهِ ٱلۡأَمۡثَالَۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ ٧٤) [النحل : 74]. هذا وقد كان لهذا النظام الشرعي طريقة مخصوصة لتجسيده في علاقات الناس، هي الخلافة؛ لأن تنظيم العلاقات وفصل الخصومات ورعاية المصالح على أساس الإسلام لا يكون إلا بالحكم بما أنزل الله، وهذا لا يكون إلا بنظام الخلافة. ولو تفحَّصنا سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أنه عليه الصلاة والسلام لم يرعَ مصالح الناس ولم يقضِ بخصومة ولم يجيِّش جيشًا، ولم يقدّم لأصحابه شيئًا وهم يسامون أنواع العذاب في مكة؛ لأن الإسلام لم يكن نظامًا للمجتمع المكيّ آنذاك، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن حاكمًا له؛ ولكنه حين استلم الحكم في المدينة، قضى بين الناس، وفصل الخصومات، وأخذ المال ووزَّعه، وأقام الحدود، وأمَّر الأمراء، واستقبل الوفود، وأبرم المعاهدات، وساس الناس بما أنزل الله ورعى مصالحهم بالإسلام، وخلَفه بذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ساروا على نهج النبوة؛ فحفظوا عقيدة الأمة، وجمعوا القرآن، وضربوا أروع الأمثلة في رعاية الناس، فكان مجتمعهم يُساس على أساس الإسلام، راقية فيه المصالح والأفكار والمشاعر، فكان الناس يعيشون في طمأنينة وسعادة، سعادة تطبيق دين الله. ولم يكن ذلك إلا بالخلافة التي يطلق عليها حقًّا أنها تاج الفروض.
رابعًا: مما يعزّز كون الخلافة تاج الفروض، أن الله سبحانه وتعالى أمر بتبليغ الإسلام وحمله للعالم، وكان ذلك واضحًا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «يا عمّ، إنما أردتُهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية…» وما أدلُّ على ذلك من نص بيعة العقبة الثانية التي قال فيها العبّاس بن نضلة الأوسي: «يا معشر الأوس والخزرج، تعلمون على ما تقدمون عليه؟ إنّما تقدمون على حرب الأحمر والأبيض وعلى حرب ملوك الدنيا…» حتى إنها سمُّيت ببيعة الحرب، وبعد أن أُقيم حكم الإسلام في المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكمًا للدولة الإسلامية، حمل رسالة ربه بالدعوة والجهاد للأمم الأخرى، ولم يتوقّف عند حدود المدينة، وكانت الدعوة التي يحملها إلى الأمم هي: «فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلاَمِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ « صحيح مسلم.
فحمل الإسلام بالدعوة والجهاد واجب على المسلمين بالطريقة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن هذا بحاجة أولًا إلى تطبيق الإسلام على المسلمين وإقامة دار إسلام ليتحوّل إليها الناس القابلين على الإسلام، وهذا لا يكون إلا بإقامة الخلافة، وثانيًا بحاجة إلى تنظيم جهود الأمة وطاقاتها تحت قيادة واحدة، وهذا لا يتحقَّق إلا بمبايعة خليفة يطبِّق الإسلام ويحمله بالدعوة والجهاد مع الأمة إلى العالم؛ فمن هنا أيضًا تكون الخلافة تاج الفروض.
وهذا ليس كلامًا غريبًا على المسلمين، بل قد أجمع علماء الأمة المعتبَرين على أن الخلافة هي تاج الفروض، فعلى سبيل المثال لا الحصر يقول الإمام الماوردي في كتابه (أدب الدنيا والدين): «فليس دين زال سلطانه إلا بُدّلتْ أحكامُه، وطُمستْ أعلامُه… لما في السلطان من حراسة للدين والذبِّ عنه، ودفع الأهواء منه… ومن هذين الوجهين وجب إقامة إمام يكون سلطان الوقت، زعيم الأمة؛ ليكون الدين محروسًا سلطانه، والسلطان جاريًا على سنن الدين وأحكامه». والإمام ابن حزم يقول في كتابه (المحلَّى): «ولا يجوز التردُّدُ بعد موت الإمام في اختيار الإمام أكثر من ثلاث» وفي كتابه (الفصل في الملل والنحل): «وقد علمنا بضرورة العقل وبديهيته أن قيام الناس بما أوجبه الله من أحكام عليهم في الأموال والجنايات والدماء والنكاح، وإنصاف المظلوم، وأخذ القصاص… وأن ذلك لا يقوم إلا بالإمام». ويصف الإمام أحمد بن حنبل الفتنة بقوله: «الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس». والإمام الغزالي يقول: «الدين والسلطان توأمان؛ ولهذا قيل الدينُ أسٌّ والسلطان حارس، فما لا أسَّ له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع»، ويقول ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية): «يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها».
وليست الخلافة مجرد فرض بل هو أعلاها، هو تاج الفروض؛ لأنه لا يمكن لأحكام الله أن توجد على الأرض إلا بإقامة الخلافة؛ فيجب أن تكون الخلافة هي القضية المصيرية الأولى للأمة؛ لأن كل الفروض التي تصون حياة الإنسان وعِرضه وماله وعقله وكرامته لا تقوم إلا بالخلافة، فمن الذي يطبِّق القصاص، ويؤمِّن المال، ويمنع السرقة، ويحمي الأعراض سوى الخلافة، ومن سواها يعدُّ العدة للجهاد، ويجيِّش الجيوش، ويُرهبُ الأعداء، ويحفظ العزة للمسلمين، ويعلن النفير العام لحماية النساء والشيوخ والولدان… فإن كانت هذه كلها قضايا مصيرية، فإن الخلافة هي جماع القضايا المصيرية التي تستحق اتخاذ إجراء الحياة أو الموت تُجاهها.
والأدلة مستفيضة، من كتاب الله الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، على وجوب اتخاذ الخلافة قضية مصيرية، فالله سبحانه أمرنا بالحكم بالإسلام في آيات كثيرة، ذكرناها سابقًا، والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بمبايعة خليفة في أكثر من مرة، روى الإمام مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جاهلية» وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على فرضية إيجاد خليفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم لم يدفنوا جسد الرسول الطاهر وتركوه مسجّى على فراشه ليلتين واشتغلوا بتنصيب الخليفة.
ومنذ أن هدمت الخلافة في ذلك اليوم الأسود ونحن المسلمين تحيط بنا المصائبُ والفتن، ويلفُّنا القتل من قُدّامنا ومن خلفنا؛ فيهود الذين ضُربت عليهم الذِلةُ والمسكنة مكّنتهم بريطانيا من فلسطين أرضِ الإسراء والمعراج، ورسّخت أقدامهم أمريكا التي جمعت أمم الأرض لتحارب الإسلام وعودة الخلافة، فحطّموا العراق وأفغانستان تحطيمًا، ويذهب رئيسها ترامب إلى الهند، فينقضُّ الهندوس على المسلمين هناك قتلًا وفتكًا… وفي الصين يُسجن شعب بأكمله لأنّهم مسلمون، أمّا في البلاد التي ثار المسلمون فيها على النِّظام الغربيِّ وعملائه، فتكالبت عليهم أمم الأرض يساندون جزّار الشّام في ذبح المسلمين هناك كلّ يوم، ويتدخّلون في اليمن وليبيا اللتين أغرقوهما في حروب عبثيّة، تُمزّقهما تمزيقًا.
لقد شاهدنا نحن المسلمين بأمِّ أعيننا مآسيَ لا تُحصى منذ هدم الخلافة، شاهدنا سفك دمائنا على أيدي أعدائنا في طول البلاد وعرضها، من جبال الفلبّين إلى أودية كشمير، إلى غابات القرم، وسمعنا آهات الثّكالى وبكاء اليتامى وأنين الجوعى يفتق جِراحاتٍ أنّى لها أن تندمل! لقد شاهدنا كيف أنّ (العالم الحرّ) يفرض نموذج اقتصاده المدمّر، ونظامه الاجتماعيّ الأجوف على أرض المسلمين، رأيناهم ينهبون ثرواتِنا، ويُضعِفون مؤسّساتِنا الاجتماعيّة! نعم، هذا ما جنيناه بعد هدم الخلافة.
إن الخلافة هي البضاعةُ والصناعة، هي العزّةُ والمنعة، هي حافظةُ الدين والدنيا، هي الأصلُ والفصل، بها تقام الأحكام، وتحدُّ الحدود، وتفتح الفتوح وترفع الرؤوس بالحق. هي التي شَرَع المسلمون بها قبل أن يشرعوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه صلوات الله وسلامه عليه، على أهمية ذلك وعظمته، وكل ذلك لعظم الخلافة وأهميتِها حيث رأى كبارُ الصحابة أن الاشتغال بها أولى من ذلك الفرض الكبير: تجهيز الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
والخلافةُ هي التي تقضي على كيان يهود وتعيد فلسطين كاملة إلى ديار الإسلام… هي التي تقضي على سلطان الهندوس في كشمير، وحكم الروس في الشيشان وكل القفقاس وتتارستان… هي التي تعيد القرم وكلَّ بلاد الإسلام إلى أصلها وفصلها… هي التي تحرر البلاد والعباد من نفوذ الكفر وعملائه، وبطش زبانيته وأزلامه… هي التي تمنع تمزُّق العراق والسودان، وتعيد اللحمة إلى الصومال، وتزيل الحدود والسدود التي رسمها الكفار المستعمرون من أطراف المحيط الهادي حيث إندونيسيا وماليزيا إلى شواطئ الأطلسي حيث المغرب والأندلس… هي التي تنشر العدل والخير، وتُعز الإسلام والمسلمين، وتقطع دابر الظلم والشر، وتُذل الكفر والكافرين. فإلامَ نعيش في هذا الواقع الذي ورثناه جرَّاء هدم الخلافة؟!… ألم يكفِ مائة سنة من الوقوع في الإثم لمن لم يعمل لإيجاد الخليفة وبيعته بأن يتوب ويثوب ويعملَ مع العاملين؟!… ألم يقلِ الرسول صلى الله عليه وسلم: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»؟!… ثم ألم يإنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق؟!… ألم تكفِ مائة سنةٍ من الضَّياع وعدم وجود الخـلافة حتى أصبحنا كالأيتام على مائدة اللئام؟!… ألم تكفِ تلك السنون لنصحوَ ونستيقظ؟!… ألم تكفِ مائة سنةٍ من تداعي الأمم علينا كتداعي الأكلة إلى قصعتها لأن نعتبر ونتعظ!؟… ألم يكفِ مائة سنةٍ من توالي المصائب على رؤوسنا؟!…
إن القعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي؛ لأنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض الإسلام، يتوقف عليه إقامة أحكام الدين، بل يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة. فالمسلمون جميعًا آثمون إثمًا كبيرًا في قعودهم عن إقامة خليفة للمسلمين، فإن أجمعوا على هذا القعود كان الإثم على كل فرد منهم في جميع أقطار المعمورة، وإن قام بعض المسلمين بالعمل لإقامة خليفة، ولم يقمِ البعض الآخر، فإن الإثم يسقط عن الذين قاموا يعملون لإقامة الخليفة، ويبقى الفرض عليهم حتى يقوم الخليفة؛ لأن الاشتغال بإقامة الفرض يسقط الإثم على تأخير إقامته عن وقته وعلى عدم قيامه؛ لتلبُّسه بالقيام به، ولاستكراهه بما يقهره عن إنجاز القيام به. أما الذين لم يتلبَّسوا بالعمل لإقامة الفرض، فإن الإثم بعد ثلاثة أيام من ذهاب الخليفة إلى يوم نصب الخليفة يبقى عليهم؛ لأن الله قد أوجب عليهم فرضًا ولم يقوموا به، ولم يتلبَّسوا بالأعمال التي من شأنها أن تقيمه؛ ولذلك استحقُّوا الإثم، فاستحقُّوا عذاب الله وخزيه في الدنيا والآخرة. واستحقاقهم الإثم على قعودهم عن إقامة خليفة، أو عن الأعمال التي من شأنها أن تقيمه، ظاهر صريح في استحقاق المسلم العذاب على تركه، أي ترك فرض من الفروض التي فرضها الله عليه، لاسيَّما الفرض الذي به تُنفَّذ الفروض، وتُقام أحكام الدين، ويعلو أمر الإسلام، وتصبح كلمة الله هي العليا في بلاد الإسلام، وفي سائر أنحاء العالم.
وعليه فإنه لا يوجد عذر لمسلم على وجه الأرض في القعود عن القيام بما فرضه الله عليه لإقامة الدين، ألا وهو العمل لإقامة خليفة للمسلمين حين تخلو الأرض من الخلافـة، وحين لا يوجد فيها من يقيم حدود الله لحفظ حرمات الله، ولا من يقيم أحكام الدين، ويجمع شمل جماعة المسلمين تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. ولا توجد في الإسلام أي رخصة في القعود عن القيام بهذا الفرض العظيم حتى يقوم.
قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱسۡتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا يُحۡيِيكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ ٢٤ وَٱتَّقُواْ فِتۡنَةٗ لَّا تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمۡ خَآصَّةٗۖ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ ٢٥).