عبدالخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير
ولاية السودان
إقامة خليفة فرض على المسلمين كافة في جميع أقطار العالم. والقيام به هو كالقيام بأي فرض من الفروض التي فرضها الله على المسلمين. وهو أمر محتم لا تخيير فيه ولا هوادة في شأنه، والتقصير في القيام به معصية من أكبر المعاصي يعذب الله عليها أشد العذاب. أما الدليل على وجوب إقامة الخليفة على المسلمين كافة: فالكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة.
أما الكتاب، فإن الله تعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين المسلمين بما أنزل الله، وكان أمره له بشكل جازم، قال تعالى مخاطبًا الرسول عليه السلام: (فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡحَقِّۚ) وقال: (وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ) وخطاب الرسول خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصصه به، وهنا لم يرد دليل فيكون خطابًا للمسلمين بإقامة الحكم. ولا يعني إقامة الخليفة إلا إقامة الحكم والسلطان؛ على أن الله تعالى فرض على المسلمين طاعة أولي الأمر، أي الحاكم، مما يدل على وجوب وجود وليِّ الأمر على المسلمين. قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ) ولا يأمر الله بطاعة من لا وجود له، فدل على أن إيجاد ولي الأمر واجب. فالله تعالى حين أمر بطاعة ولي الأمر فإنّه يكون قد أمر بإيجاده؛ فإن وجود ولي الأمر يترتب عليه إقامة الحكم الشرعي، وترك إيجاده يترتب عليه تضييع الحكم الشرعي، فيكون إيجاده واجبًا لما يترتب على عدم إيجاده من حُرمة، وهي تضييع الحكم الشرعي.
وأما السنّة، فقد روى مسلم عن طريق نافع قال: قال لي ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». فالنبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون إلا للخليفة ليس غير. وقد أوجب الرسول على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة لخليفة، ولم يوجب أن يبايع كل مسلم الخليفة. فالواجب هو وجود بيعة في عنق كل مسلم، أي وجود خليفة يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده. فوجود الخليفة هو الذي يوجد في عنق كل مسلم بيعة، سواء بايع بالفعل أم لم يبايع؛ ولهذا كان الحديث دليلًا على وجوب نصب الخليفة وليس دليلًا على وجوب أن يبايع كل فرد الخليفة. لأن الذي ذمّه الرسول هو خلوُّ عنق المسلم من بيعة حتى يموت، ولم يذمَّ عدم البيعة. وروى مسلم عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الإمام جُنة يُقاتَل من ورائه ويُتّقى به».
وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وأنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم». وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية». فهذه الأحاديث فيها إخبار من الرسول بأنه سيلي المسلمين ولاة، وفيها وصف للخليفة بأنه جُنة أي وقاية. فوصف الرسول بأن الإمام جُنة هو إخبار عن فوائد وجود الإمام، فهو طلب؛ لأن الإخبار من الله ومن الرسول إن كان يتضمن الذم فهو طلب ترك، أي نهي، وإن كان يتضمن المدح فهو طلب فعل، فإن كان الفعل المطلوب يترتب على فعله إقامة الحكم الشرعي، أو يترتب على تركه تضييعه، كان ذلك الطلب جازمًا. وفي هذه الأحاديث أيضًا أن الذين يسوسون المسلمين هم الخلفاء، وهو يعني طلب إقامتهم، وفيها تحريم أن يخرج المسلم من السلطان، وهذا يعني أن إقامة المسلم سلطانًا، أي حاكمًا له أمر واجب. على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بطاعة الخلفاء، وبقتال من ينازعهم في خلافتهم، وهذا يعني أمرًا بإقامة خليفة، والمحافظة على خلافته بقتال كل من ينازعه. فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر». فالأمر بطاعة الإمام أمر بإقامته، والأمر بقتال من ينازعه قرينة على الجزم في دوام إيجاده خليفة واحدًا.
وأما إجماع الصحابة فإنهم رضوان الله عليهم أجمعوا على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وأجمعوا على إقامة خليفة لأبي بكر، ثم لعمر، ثم لعثمان بعد وفاة كل منهم. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وفاته واشتغالهم بنصب خليفة له، مع أن دفن الميت عقب وفاته فرض، ويحرم على من يجب عليهم الاشتغال في تجهيزه ودفنه الاشتغال في شيء غيره حتى يتم دفنه. والصحابة الذين يجب عليهم الاشتغال في تجهيز الرسول ودفنه اشتغل قسم منهم بنصب الخليفة عن الاشتغال بدفن الرسول، وسكت قسم منهم عن هذا الاشتغال، وشاركوا في تأخير الدفن ليلتين مع قدرتهم على الإنكار، وقدرتهم على الدفن، فكان ذلك إجماعًا على الاشتغال بنصب الخليفة عن دفن الميت، ولا يكون ذلك إلاّ إذا كان نصب الخليفة أوجب من دفن الميت. وأيضًا فإن الصحابة كلهم أجمعوا طوال أيام حياتهم على وجوب نصب الخليفة، ومع اختلافهم على الشخص الذي ينتخب خليفة فإنهم لم يختلفوا مطلقًا على إقامة خليفة، لا عند وفاة رسول الله، ولا عند وفاة أي خليفة من الخلفاء الراشدين، فكان إجماع الصحابة دليلًا صريحًا وقويًا على وجوب نصب الخليفة.
على أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة، ولا يمكن أن يتم ذلك إلاّ بحاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية (إن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب) فكان نصب الخليفة فرضًا من هذه الجهة أيضًا.
فهذه الأدلة صريحة بأن إقامة الحكم والسلطان على المسلمين فرض عليهم، وصريحة بأن إقامة خليفة يتولى هو الحكم والسلطان فرض على المسلمين؛ وذلك من أجل تنفيذ أحكام الشرع، لا مجرد حكم وسلطان. انظر قوله صلى الله عليه وسلم فيما روى مسلم عن طريق عوف بن مالك «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلّون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم. قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف، فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدًا من طاعة». فهو صريح في الإخبار بالأئمة الأخيار والأئمة الأشرار، وصريح بتحريم منابذتهم بالسيف ما أقاموا الدين، لأن إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين والحكم به. فكون إقامة الخليفة ليقيم أحكام الإسلام، ويحمل دعوته فرضًا على المسلمين أمر لا شبهة في ثبوته في نصوص الشرع الصحيحة، فوق كونه فرضًا من جهة ما يحتمه الفرض الذي فرضه الله على المسلمين من إقامة حكم الإسلام وحماية بيضة المسلمين. إلا أن هذا الفرض هو فرض على الكفاية، فإن أقامه بعضهم فقد وجد الفرض وسقط عن الباقين هذا الفرض، وإن لم يستطع أن يقيمه بعضهم ولو قاموا بالأعمال التي تقيمه فإنه يبقى فرضًا على جميع المسلمين، ولا يسقط الفرض عن أي مسلم ما دام المسلمون بغير خليفة.
أما قول العلماء في وجوب الخلافة فلكثرتها تم اختيار بعضٍ منها:
يقول الجرجاني: «نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين وأعظم مقاصد الدين».
وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى: 28/ص390: «يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع؛ ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي: «إن السلطان ظل الله في الأرض» ويقال: «ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان». والتجربة تبيِّن ذلك؛ ولهذا كان السلف – كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهما يقولون «لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان» انتهى.
وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى 28/ص64: “ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى – ففي سنن أبي داود – عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم». وفي سننه أيضًا عن أبي هريرة مثله، وفي مسند الإمام أحمد وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم». فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الجماعات أن يولي أحدهم، كان هذا تنبيهًا على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك، ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها دينًا يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر».
قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي الخلافة من بعده: «ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به».
وقال الدارمي في سننه: أخبرنا يزيدُ بنُ هارونَ، نا بقيةُ حدّثني صفوانُ بنُ رُسْتُمَ، عَنْ عبدِ الرحمنِ بنِ ميسرَةَ، عن تميمٍ الداريّ،، قالَ: تطاوَلَ الناسُ في البناءِ في زَمَنِ عُمَرَ، فقالَ عُمَرُ: «يا مَعْشَرَ العريبِ، الأرضَ الأرضَ، إنه لا إسْلامَ إلاَّ بِجَمَاعَةٍ، ولا جماعَة إلاَّ بإِمارَة، ولا إِمَارَة إلاَّ بطاعةٍ، فمن سوَّدَهُ قَوْمُهُ على الفِقْهِ كانَ حياةً لَهُ ولَهُمْ، وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ على غيرِ فِقْهٍ كان هلاكًا لَهُ وَلَهُمْ». ورواه ابن عبد البر القرطبي في جامع بيان العلم وفضله.
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور في (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام): «فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي ثبت ذلك بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي. مما دعا الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسراع بالتجمع والتفاوض لإقامة خلفٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم في رعاية الأمة الإسلامية، فأجمع المهاجرون والأنصار يوم السقيفة على إقامة خليفة من بعده، فكان أبو بكر الصديق خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين. ولم يختلف المسلمون بعد ذلك في وجوب إقامة خليفة إلا شذوذًا لا يُعبأ بهم من بعض الخوارج وبعض المعتزلة؛ حيث نقضوا الإجماع فلم تلتفت لهم الأبصار ولم تُصغِ لهم الأسماع. ولمكانة الخلافة في أصول الشريعة ألحقها علماء أصول الدين بمسائله، فكان من أبوابه الإمامة. قال إمام الحرمين [أبو المعالي الجويني] في الإرشاد: (الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزلُّ فيه يربى على الخطر على من يجهل أصلًا من أصول الدين)». انتهى قول ابن عاشور. ومعنى كلام الجويني أن الإمامية إذ جعلوا الإمامة من أصول الاعتقاد فإنها ليست منه، ولكن الخطأ في الزلل فيها يناهز الخطر في الزلل في أصول الدين لأهميتها.
يقول الهيثمي في الصواعق المحرقة: «اعلم أيضًا أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن الرسول صلى الله عليه وسلم».
وقال أبو بكر الأنصاري في غاية الوصول في شرح لب الأصول: (ويجب على الناس نصب إمام) يقوم بمصالحهم كسدّ الثغور وتجهيز الجيوش وقهر المتغلِّبة والمتلصِّصة لإجماع الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدّموه على دفنه صلى الله عليه وسلم، ولم يزل الناس في كل عصر على ذلك».
وقال محمد بن أحمد بن محمد بن هاشم المحلي المصري الشافعي جلال الدين المفسر الفقيه المتكلم الأصولي النحوي في كتابه شرح المحلي على جمع الجوامع: «ويجبُ على النَّاسِ نَصْبُ إمامٍ يقوم بمصالحهم كسد الثغور وتجهيز الجيوش وقهر المتغلِّبة والمتلصصة وقطاع الطريق وغير ذلك لإجماع الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات وقدموه على دفنه ولم يزل الناس في كل عصر على ذلك.»
جاء في كتاب «غاية البيان شرح زبد ابن رسلان» للفقيه الشافعي شمس الدين محمد بن أحمد الرملي الأنصاري الملقب بالشافعي الصغير (وهو من علماء القرن التاسع الهجري) ما يلي: (يجب على الناس نصب إمام يقوم بمصالحهم، كتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم إن دفعوها، وقهر المتغلِّبة والمتلصِّصة وقطاع الطريق، وقطع المنازعات الواقعة بين الخصوم، وقسمة الغنائم وغير ذلك؛ لإجماع الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم على نصبه حتى جعلوه أهم الواجبات، وقدموه على دفنه صلى الله عليه وسلم، ولم تزل الناس في كل عصر على ذلك).
قال د. ضياء الدين الريّس في كتابه: (الإسلام والخلافة) ص 348: «والإجماع كما قرروه أصل عظيم من أصول الشريعة الإسلامية. وأقوى إجماع أو أعلاه مرتبة هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم لأنهم هم الصف والرعيل الأول من المسلمين، وهم الذين لازموا الرسول صلى الله عليه وسلم واشتركوا معه في جهاده وأعماله وسمعوا أقواله، فهم الذين يعرفون أحكام وأسرار الإسلام، وكان عددهم محصورًا وإجماعهم مشهورًا، وهم قد أجمعوا عقب أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى على أنه لا بد أن يقوم من يخلفه، واجتمعوا ليختاروا خليفته، ولم يقل أحد منهم أبدًا أنه لا حاجة للمسلمين بإمام أو خليفة، فثبت بهذا إجماعهم على وجوب وجود الخلافة، وهذا هو أصل الإجماع الذي تستند إليه الخلافة».
وقال أيضًا في ص99: «فالخلافة أهم منصب ديني وتهم المسلمين جميعًا، وقد نصت الشريعة الإسلامية على أن إقامة الخلافة فرض أساسي من فروض الدين، بل هو الفرض الأعظم لأنه يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض».
وقال أيضًا في ص 341: «إن علماء الإسلام قد أجمعوا كما عرفنا فيما تقدم – على أن الخلافة أو الإمامة فرض أساسي من فروض الدين، بل هو الفرض الأول أو الأهم؛ لأنه يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض وتحقيق المصالح العامة للمسلمين؛ ولذا أسمَوا هذا المنصب «الإمامة العظمى» في مقابل إمامة الصلاة التي سميت «الإمامة الصغرى» وهذا هو رأي أهل السنة والجماعة، وهم الكثرة العظمى للمسلمين، وهو إذًا رأي كبار المجتهدين: الأئمة الأربعة والعلماء أمثال الماوردي والجويني والغزالي والرازي والتفتازاني وابن خلدون وغيرهم، وهم الأئمة الذين يأخذ المسلمون عنهم الدين، وقد عرفنا الأدلة والبراهين التي استدلوا بها على وجوب الخلافة».
ثم نقل عن الشهرستاني قوله: «وما دار في قلبه (أي الصِّدِّيق) ولا في قلب أحد أنه يجوز خلو الأرض عن إمام؛ فدلّ ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول، كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بدَّ من وجوب الإمامة”.
وقال الشيخ علي بلحاج في كراسته (إعادة الخلافة من أعظم واجبات الدين): «الخلافة على منهج النبوة» كيف لا وقد قرر علماء الإسلام وأعلامه أن الخلافة فرض أساسي من فروض هذا الدين العظيم، بل هو «الفرض الأكبر» الذي يتوقف عليه تنفيذ سائر الفروض، وإن الزهد في إقامة هذه الفريضة من «كبائر الإثم»، وما الضياع والتيه والخلافات والنزاعات الناشبة بين المسلمين كأفراد وبين الشعوب الإسلامية كدول إلا لتفريط المسلمين في إقامة هذه الفريضة العظيمة».
قال ابن خلدون (في المقدمة): «إن نصب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، ولم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقرَّ ذلك إجماعًا دالًّا على وجوب نصب الإمام». أي أن الأمة نقلت هذا الإجماع واستقرَّ لديها كابرًا عن كابر، وطبقة عن طبقة، فوجود الإجماع متواتر.
قال الخطيب البغدادي، رحمه الله: «أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر، قالوا له: يا خليفة رسول الله، ولم يسمَّ أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم كُلٌ قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، ورضوا به من بعده رضي الله عنهم. أقول: وليست العبرة ببيعة آحاد المسلمين كلهم له، بل العبرة بإجماعهم على حرمة خلو العصر من إمام، وعلى فرضية خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال: «ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، يفهم من هذا أن المطلوب هو وجود خليفة له في الأعناق بيعة لا أن يبايعه كل مسلم، وبالتالي فلو كان عدد المسلمين مليارًا فليس المطلوب أن يبايع المليار، بل أن يكون على المليار خليفة أخذ البيعة بالتراضي من الأمة أو ممن يمثل الأمة!»
وقال أبو الحسن الأشعري: أثنى الله – عز وجل – على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: (۞لَّقَدۡ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذۡ يُبَايِعُونَكَ تَحۡتَ ٱلشَّجَرَةِ)، [الفتح: 18]. قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه وسمّوه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقرُّوا له بالفضل، وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك.
وقال عبد الملك الجويني: أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة، فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه… وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراسًا وشماسًا في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن رضي الله عنه في السقيفة، وكان مستخليًا بنفسه قد استفزَّه الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد.
وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصِّديق رضي الله عنه: وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه مجيبًا لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ألا نرضاك لدنيانا، يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج، فأمرك علينا. وكان رضي الله عنه أفضل الأمة وأرجحهم إيمانًا وأكملهم فهمًا وأوفرهم علمًا.
قال الشهرستاني: (واصفًا حال الصحابة حين اقتربت وفاة أبي بكر رضي الله، واختياره لعمر رضي الله عنه) «وما دار في قلبه (أي أبي بكر) ولا في قلب أحد أن يجوز خلو الأرض عن إمام، فدل ذلك كله على أن الصحابة، وهم الصدر الأول، كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من إمام، فذلك الإجماع على هذا الوجه، دليل قاطع على وجوب الإمامة”.
قال الإيجي في المواقف في علم الكلام: وأما وجوبه علينا سمعًا فلوجهين:
الأول: إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته: ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى قبوله، وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله ﷺ، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر، فإن قيل: لا بد للإجماع من مستند ولو كان النقل، لتوفر الدواعي، قلنا: استغني عن نقله بالإجماع، أو كان من قبيل ما لا يمكن نقله من قرائن الأحوال التي لا يمكن معرفتها إلا بالمشاهدة والعيان لمن كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن فيه دفع ضرر مظنون وأنه واجب إجماعًا. وبيانه: إنا نعلم علمًا يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا، وذلك لا يتم إلا بإمام من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعنُّ لهم، فإنهم – مع اختلاف الأهواء وتشتت الآراء، وما بينهم من الشحناء – قلما ينقاد بعضهم لبعض فيفضي ذلك إلى التنازع والتواثب، وربما أدى إلى هلاكهم جميعًا.
وقال الماوردي (في الأحكام السلطانية): «وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم».
قال النووي 12/205 شرح صحيح مسلم: «أجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة». [يتبع]