الاستراتيجية الدولية (2)
2006/12/30م
المقالات
2,305 زيارة
الاستراتيجية الدولية (2)
أشرنا في بحث سابق إلى عودة الحرب الباردة وبروز أكثر من قطبية لإدارة العالم، وهذا يعني إحياء تكتلات وأحلاف قديمة وإيجاد أحلاف وتكتلات جديدة تتمثل فيها استراتيجيات جديدة للأطراف المرشحة لتشكيل قطبية جديدة سواء أكانت استراتيجيات أمنية أم اقتصادية أم سياسية أم عسكرية.
تحدثنا في الصفحات السابقة عن حوض أوراسيا الذي يمثل استراتيجية مهمة جداً لأميركا، ونأتي الآن إلى الجانب الصيني الروسي:
منطقة أوراسيا الوسطى تعتبر جزءاً من المجال الحيوي لروسيا، كما تشترك الصين مع دولها في حدود تصل إلى سبعة آلام كم، كما تتفق الدولتان على وجوب التصدي للنفوذ المتصاعد للولايات المتحدة في هذه المنطقة نتيجة لاستثماراتها الكبيرة خاصة في الدول الغنية بالبترول مثل كازاخستان بالإضافة إلى وجودها العسكري، فكان من ثمار التعاون بين الدولتين: الصين وروسيا في هذا المجال الاهتمام بتفعيل (منطقة شنغهاي للتعاون) التي تضم بالإضافة إلى روسيا والصين كلاً من كازاخستان وأوزبكستان وقيرغيزستان وطاجكستان، كما حصلت كل من الهند وباكستان وإيران على عضوية مراقب.
والتعاون بين قطبي هذه المنطقة: الصين- روسيا لا ينفصل عن الصراع العالمي لتأمين الطاقة، فروسيا من أكبر مصدري الطاقة في العالم، وهي تسعى لتعزيز مكانتها الدولية عن طريق التحكم في إنتاج وتجارة ونقل منتجاتها من النفط والغاز.
تم إعلان إنشاء المنظمة في 15 يونيو سنة 2001م وإن كان إنشاؤها سنة 1996م حيث أخذت الصين زمام المبادرة للدعوة لإنشائها، وتم توقيع قيام المجموعة في إطار الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الروسي بوريس يلتسن إلى الصين في إبريل سنة 1996م حيث تم توقيع (14) اتفاقية للتعاون المشترك بين البلدين.
يبلغ إجمالي مساحة دول المنظمة حوالى (40) مليون كم2 فمساحات خمس دول فقط هي (روسيا والصين والهند وباكستان وإيران) حوالى (32) مليون كم2 علماً بأن مساحة كازاخستان 2.7 مليون كم2 ومنغوليا حوالى 1.5 مليون كم2 أي أن هذه المساحة تساوي أربع مرات مساحة الولايات المتحدة الأميركية وهي (9.3) مليون كم2 وترتبط هذه الدول بحدود برية مشتركة مما يساعد على تشكيل تجمع فاعل، ويقدر تعداد سكانها بحوالى 3 مليارات نسمة أي حوالى 50% من سكان العالم.
يقدر الإنفاق الدفاعي لروسيا والصين في حدود (48) مليار دولار، ويقدر إجمالي القوات المسلحة لدول المنظمة بنحو (6) ملايين مقاتل. كما تضم أربع دول نووية اثنتان من الدول الخمس الكبرى النووية هما روسيا والصين، كما انضمت كل من الهند وباكستان إلى النادي الدولي النووي، فأصبحت المنظمة تضم أربع دول من أصل سبع دول نووية على مستوى العالم.
ظاهرة التطور العسكري الصيني وأثرها في الولايات المتحدة الأميركية دفعت مؤسسة راند الأميركية بالاشتراك مع سلاح الطيران الأميركي سنة 2000م إلى القيام بدراسة عن حاجة الصين المتزايدة للطاقة، وقد أشارت الدراسة -التي تمت تحت إشراف د. زلماي خليل زاد السفير الأميركي الحالي في العراق- إلى القلق الصيني من الاعتماد على استيراد النفط في إطار عدم الارتياح الأميركي للصعود الصيني السريع، وقد استنتجت الدراسة أن الصين تسعى عن طريق تنويع مصادر استيرادها إلى أن تقلل من مقدرة الولايات المتحدة على منع الصين من حصولها على احتياجاتها من الطاقة.
لقد وثقت الصين علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العديد من الدول مثل السعودية والجزائر، وعقدت اتفاقيات طويلة الأمد مع شركة أرامكو السعودية والهيئة الكويتية للبترول، وشركة إيران الوطنية للنفط، كما وثقت علاقاتها في المنطقة عن طريق التعاون العسكري وتصدير السلاح إلى إيران وليبيا والسعودية والسودان.
ونظراً لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وزيادة الوجود الأميركي فيها فقد أبدت الصين اهتماماً ملحوظاً بالاستثمار والتعاون مع روسيا ودول وسط آسيا في مجال النفط، وبحثت إقامة خطوط أنابيب مباشرة لنقل البترول من هذه المناطق إلى الصين في محاولة لتفادي الاعتماد على نقل النفط عن طريق البحر حيث تقع مسارات النقل البحري تحت حماية وسيطرة الولايات المتحدة، كما قامت الشركة القومية الصينية للبترول بالاستثمار المباشر في مناطق متفرقة حول العالم في محاولة لأن تجد الصين لنفسها موقع قدم في السوق الدولية التي تسيطر عليها شركات النفط المملوكة للولايات المتحدة وحلفائها.
إذا تطلعنا إلى الدول الأطراف في الساحة الدولية ذات الثقل والتأثير في القضايا والمشاكل الدولية نجد أنها في تحركاتها في سياساتها الخارجية تتحرك من مصلحة بلادها وشعوبها إلا الولايات المتحدة الأميركية.
فالسياسة البريطانية التي يحركها طوني بلير رئيس وزراء بريطانيا الحالي (عمالي) كلها قائمة على مصلحة بريطانيا من حيث العمل على العودة إلى مناطق نفوذها السابقة، وإعادة هيبتها ومكانتها الدولية ومزاحمة عدوها أميركا وملاحقتها، فأعمالها السياسية ومواقف سياسييها دائماً قائمة على مصلحة بريطانيا والشعب البريطاني.
والسياسة الفرنسية برئاسة الرئيس الحالي شيراك (ديغولي) تعمل على إعادة أمجاد فرنسا والثأر لهيبتها من أميركا التي طالما عملت على إخراجها من الساحة الدولية وشطبها من قائمة الدول الكبرى، فهي تعمل الآن كدولة كبرى لها تأثير في القضايا الدولية ووجود في الساحة الدولية من أجل مصحلة فرنسا والشعب الفرنسي.
وأما روسيا، فبعد أن تفتت الاتحاد السوفياتي وانفرط العقد المكون من خمس عشرة جمهورية، وقعت في مآزق اقتصادية شديدة، وكان للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي دور كبير في هذه الضائقة المالية السياسية، فأصيبت بشلل اقتصادي، إلى جانب انفلات كثير من القضايا الدولية من يدها ليصبح في يد غيرها. أخذت الآن تستعيد أنفاسها، وتدخل في محاور سياسية واقتصادية وعسكرية مع كثير من الدول وبخاصة مع الصين لتصبح مرشحة لتعود إلى ملء الفراغ الذي أحدثه تفتت الاتحاد.
وأما الصين فإنما هي عملاق أخذ يتحرك ويزحف ليخرج إلى العالم، ويمد أذرعه في العالم غرباً ليطال كثيراً من مناطق الطاقة ومنابع البترول، وأخذ ينمي ترسانته العسكرية، وكأن ذلك من المؤشرات إلى الدخول في سباق التسلح.
وأما الولايات المتحدة الأميركية، فبعد أن اقتعدت قمة العالم ورأت من نفسها الوحيدة في كل المجالات بين دول العالم سواء في المجال العسكري أو المالي أو السياسي أو الأمني، دفعها ذلك إلى أن تهمل الشرعية الدولية، أي أنها تنكبت الطريق السياسي في العمل في الساحة الدولية. وأظهرت شواهد الأحداث السياسية أنها تفتقر إلى ساسة سياسيين، وإلى رجال دولة متمرسين، لأن القوة العسكرية أخذت عليها كل تخطيطاتها وأحاطت باستراتيجيتها، فأخذت الإدارة الأميركية الموجودة الآن في البيت الأبيض تعمل لا لصالح الشعب الأميركي ولا لمصلحة الدولة الأميركية، وإنما انطلق القائمون على الأمور في تحقيق المصالح الذاتية فقط، لاسيما وهم من أصحاب السوابق في مجال النفط والطاقة وصناعة السلاح.
هذه هي الدول الخمس الكبرى، وهذا هو واقع كل دولة منها، فالدول الأربع الأولى كلها تعمل لصالح شعوبها وبلادها، ولكن أميركا إنما تعمل لصالح حفنة يتواجدون الآن في أروقة البيت الأبيض ومكاتب البنتاغون.
وهذه الدول الكبرى الخمس جميعها لا تتحرك من زاوية مبدئية، ولا يحركها المبدأ، وانتهى صراع المبادئ بينها، وأصبح الصراع فقط مقتصراً على المصالح المادية أو الشخصية، وأصبح بناء الاستراتيجيات الدولية والعمل على تحقيقها وتثبيتها إنما يسير في هذه الحياة الدنيا فقط والعيش على أساسها عبثاً يجافي الرحمة ويجانب الإنسانية، وتنعكس السعادة عند شهوات حفنة من المتمولين الذين يسحقون الملايين من البشر تحت أقدامهم وتحترق قارات بكاملها من قراراتهم وكأن الناس فيها ذباب يعالج بالمبيدات.
فالرؤية الحقيقية لواقع الموقف الدولي، والفهم الحقيقي لما عليه الشرعية الدولية، وعدم رجحان كفة أي من الأطراف الخمسة، وعدم الفاعلية المبدئية، تعطينا الصورة الحقيقية لما عليه العالم الآن.
فلو طرحنا بعض الأسئلة:
1- هل ستستعمل الأسلحة النووية ويحصل الزحف العسكري؟ وأين سيحدث هذا؟ وممن سيحدث؟ ولماذا يقام؟ وإلى من يوجه هذا السلاح؟ وما هي النتائج عالمياً؟
2- هل ستعود الشرعية الدولية فاعلةً كما كانت سابقاً؟ وهل سيتم الاحتكام إليها والقبول بقراراتها طواعيةً واختياراً دون استعمال حق النقض (الفيتو)؟
3- هل ستعود الشرعية الدولية فاعلةً كما كانت سابقاً؟ وهل سيجري اقتسام العالم بينهما؟ أم يسيران في خطين متوازيين من سباق التسلح ويعيشان في أجواء الحرب الباردة؟
4- هل هناك تحرك دولي حقيقي، وهل الظروف مناسبة لذلك؟ أي هل هناك إمكانية التحرك السياسي؟ ومن الذي يقوم بالمبادرات السياسية الآن؟
5- هل سيبقى العالم ساحة مفتوحة تتنازعه بضع دول؟ وهل ستبقى الشعوب النائمة لا حراك بها؟ أم بدأت الإفاقة والتململ وظهر التحدي من الدول الصغيرة للدول الكبرى؟
6- أليس كل ذلك مؤشراً إلى حاجة العالم بأسره إلى انفراج جديد ونظام عالمي شامل يحمل في طياته الهدى والخير والسعادة الحقيقية، ويقوم على القناعة العقلية، ويستجيب للفطرة البشرية، ويملأ الفراغ الروحي عند العالمين جميعاً؟
عندما تحدثنا عن الفراغ الدولي -وهو قائم حقيقة- وأكدنا أن العمل العسكري لا محل له الآن، وأن استعماله لا يعود بأية جدوى على القائمين عليه، وأن الشرعية الدولية انتهت فاعليتها، ولا قيمة لقراراتها ولا يستفيد أي طرف من اللجوء إليها، وأن حالة السكون مستحيلة، فلم يبقَ الآن إلا أن نرى أمامنا بعض المبادرات السياسية من بعض الأطراف، ولكن هذه المبادرات لا تملأ أي ركن من دائرة الفراغ الدولي.
وتحدثنا أيضاً عن أهم منطقة مهيأة للتسخين، وفيها قابلية الاشتعال وهي حوض أوراسيا، هذا الحوض هو المنطقة التي انكشفت بتفتيت الاتحاد السوفياتي، وسارعت أميركا لتملأها ولكن بماذا؟ هل بالعمل العسكري والوجود العسكري؟ وقلنا إن العمل العسكري واستعمال القوة لا محل له الآن ولا يجدي، وهي تفتقر إلى السياسيين والعقليات السياسية، فظلت هذه المنطقة منطقة تجاذب بين الدول الكبرى، ولكل واحدة منها دور، ولكنها كلها تراوح مكانها.
فماذا ينتظر العالم إذن؟
العالم ينتظر المالك الأصلي والراعي الحقيقي لهذه المناطق ولغيرها من مناطق الفراغ في العالم، وهو الإسلام بدولته دولة الخلافة التي عمرتها وحرستها وأحسنت رعايتها قروناً عديدة، فهي تنتظرها، وهي قائمة، بإذن الله.
ولكن ماذا يعني قيام دولة الخلافة؟ وماذا تعني عودتها إلى العالم؟
إنه ليس زلزالاً كالذي يحدث في إيران أو في تركيا وتهرع إليه الدول بإرسال المساعدات وفرق الإنقاذ. ولكن زلزالاً مثل (تسونامي) يحدث في منطقة من إندونيسيا إلى الصومال هل يستطيع أن يقوم أحد بعمليات إنقاذ أو إرسال مساعدات؟
هذا الحدث وهذا الزلزال، دولة الخلافة مثله وأكبر منه…
( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [النور 57] ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) [يوسف 21].
[انتهـى]
بقلم: فتحي محمد سليم
2006-12-30