بسم الله الرحمن الرحيم
المجتمع المدني ومنظماته (4): أدوات في سياق الهيمنة الغربية
د. ماهر الجعبري
ناقشت الحلقات السابقة من هذه السلسلة الانبثاق التاريخي والتنظيري لـ«المجتمع المدني» وارتباط ذلك بالرأسمالية والديمقراطية الغربية، وتتناول هذه الحلقة السياق السياسي العالمي لترويج المجتمع المدني ودعم منظماته (كمؤسسات غير حكومية)، وهي تبرز علاقة ذلك الترويج والدعم بفرض الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي.
عند المتابعة الميدانية لنشاطات منظمات المجتمع المدني وارتباطاتها بالجهات الغربية ظهرت مسألة سياسية جديرة بالملاحظة والتحليل، تعلقت بوجود بوادر تحوّل في النظرة الغربية رافقت انطلاق وتفعيل منظمات المجتمع المدني في البلاد العربية: وهي أن تلك المنظمات برزت كبديل أو مواز للأحزاب المأجورة التي استغلّها الغرب لتحقيق برامجه، وخصوصاً بعد أن انكشف عوار تلك الأحزاب للأمة وفرغت من محتوياتها ولم تعد قادرة على اختراق المجتمعات، وفي معنى قريب من هذا يقول أحد الكتاب في هذا المجال لدى تساؤله حول ضرورة الاهتمام بالمجتمع المدني والمطالبة بالعمل على فسح المجال له: «إن هناك في بعض المجتمعات العربية اليوم إرهاصات بقيام المجتمع المدني فيها. وهذا أمر يشي بفشل النموذج المجتمعي الذي شيّد على الأرض العربية قبل ظهور هذه الإرهاصات. نقصد بذلك النماذج المجتمعية المرتبطة بدولة الحزب الوحيد، ودولة «ثورة الجيش»، ودولة الملكيات المطلقة والرئاسات القبلية والفردية.
وهنا تبرز جدلية وتضارب مصالح بين الحكومات العربية والمنظمات الأهلية. ومع أن كلا الفريقين (المؤسسات الحكومية العميلة للغرب والمؤسسات غير الحكومية الممولة من الغرب) يعمل تحت عين الغرب وبصره وضمن توجيهاته، إلا أن الأنظمة العربية تخشى من تغلغل المجتمع المدني لكي لا ينافسها في تحقيق المصالح الذاتية، ولأنه يفسح المجال «لتفريخ» قيادات بديلة، ولذلك ظلّت التشريعات ذات الصلة في الدول العربية المستبدة تضيّق على انبثاق وتطور مجتمع مدني قوي، وفي المقابل ظلّت قوى غربية تسعى لمراقبة تلك العلاقة المحتدمة، وتحثّ على مساعدة المجتمع المدني في الظهور بقوة.
ومن أجل تركيز هذا البعد التآمري في الأذهان يجدر التساؤل: لماذا مثلاً لم يتم ترويج هذا المفهوم حول المجتمع المدني وتفعيل منظماته خلال العقود السابقة، أي في مراحل مبكرة مباشرة بعد حصول الأنظمة العربية على «الاستقلال»؟ مع أنه تبين من خلال الاستعراض التاريخي أن المفهوم موجود في الثقافة الغربية منذ انبثاق المبدأ الرأسمالي! ومع أنه برزت بوادر لتحركات حول المجتمع المدني في بعض الدول العربية مع منتصف القرن السابق! إلا أن الأنظمة العربية طبعاً المحرّكة من قبل الغرب الرأسمالي، لم تسمح لها بالنمو في تلك الفترة.
ليس ثمة مجال للشك في أن الدافع في ترويج المجتمع المدني هو لمقاومة التحرك الإسلامي وإعاقة مشروعه الحضاري النهضوي. وبالطبع لا بد أن يدق هذا التحليل السياسي ناقوس الخطر في أذهان الأمة لتدرك الخطورة السياسية والفكرية في ترويج المجتمع المدني قبل أن يتجذّر فيها، ومن ثم تضطر إلى بذل جهد أكبر في خلعه وتصفية جذوره. وتزداد مسألة الهيمنة الغربية وضوحاً لدى استعراض الأدوار والمواقف العالمية من دفع وترويج المجتمع المدني. وهو ما تعرضه هذه الحلقة.
إنه رغم وضوح وجود تحركات عالمية وتفاعلات دولية متزايدة ومتسارعة على المستوى العالمي لإبراز دور المؤسسات الأهلية وإقحام المجتمع المدني في صياغة المستقبل في البلاد الإسلامية، فإن هنالك بعض التباين في مواقف قوى العالم ودوله (الحالية) من تفعيل المجتمع المدني وتمكين منظماته: ما بين قوى تدفع العالم باتجاه قبوله وقوى ترفضه وتقاوم فرضه.
أما القوى الدافعة فهي في غالبيّتها قوى غربية قائمة على الرأسمالية، ويتحرك بشكل قوي في هذا الاتجاه كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى المؤسسات والكينونات العالمية والدولية المهيمَن عليها من قبل الغرب مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، وتنشط أيضاً اليابان وكوريا، والتي لم تكن منطلقاتها متطابقة أساساً مع النظرة الغربية.
وهنالك أيضاً نشاط في توفير الدعم التنموي من بعض دول الخليج ومؤسساته المالية مثل البنك الإسلامي للتنمية، بالإضافة إلى إسهامات أثرياء وأمراء عرب بشكل فردي. إلا أن هذه الفئات الأخيرة تبدو مختلفة عن القوى الغربية في التفاعل مع المجتمع المدني والنظرة إليه، وهي أكثر تركيزاً على تمويل المنظمات الأهلية من فئة الجمعيات الخيرية في جوانب إغاثيّة وخدماتية، وهذه المجالات أكثر بروزاً في مشاريعها من ارتباطات ترويج الثقافة الغربية، وقد خضعت نشاطات بعضها لرقابة شديدة في إطار «الحملة على الإرهاب». ولم تأخذ هذه الفئات محل اهتمام كبير في هذا التحليل، لأن التركيز هنا منصب على الشؤون ذات الصلة بالنواحي الفكرية والسياسية والهجمة الغربية المباشرة.
وكما مرّ سابقاً (في هذه السلسلة)، فإن القوى الغربية تروّج للمجتمع المدني وتدعو لتفعيل منظماته الأهلية ضمن السياق نفسه الذي تروّج فيه الديمقراطية والإصلاح، فهي تتعاطى مع الأمر على أساس مزدوج ما بين رسالة فكرية حضارية لنشر طريقة العيش الغربية في العالم، وما بين المصلحة السياسية على اعتبار أن المجتمع المدني أداة من أدوات الغرب في اختراق المجتمعات والضغط على الحكومات وتحريك الشعوب باتجاه جذبها نحو السياسات الغربية، وتجنيد الرجال وإيجاد البدائل الغربية، وكذلك إثبات وترسيخ حضورها العالمي. وفيما يلي تلخيص لتلك الأدوار والمواقف.
أولاً: الدور الأميركي
إن نشاط أميركا في دفع المجتمع المدني على المستوى الاستراتيجي والسياسي واضح. فتوصيات مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الأميركية نحو التركيز على تفعيل دور المجتمع المدني في دول العالم الشرقي عديدة، وهي ترد مثلاً في منشورات وعلى صفحات الإنترنت لمركز نيكسون ومؤسسة جيمس تاون ومؤسسة راند وغيرها. وقد مر في الحلقة السابقة ارتباط المجتمع المدني بالخيارات التي يطرحها كتاب «العالم الإسلامي بعد 11/9» أمام أميركا لمواجهة ما يسمّى بالتطرف، وتحدث الكتاب أيضاً عن «دعم إسلام مدني». ولذلك لم يكن غريباً أيضاً أن تتضمّن التوصيات التي أدرجت ضمن التقرير الصادر عن مركز نيكسون والمعنون «حزب التحرير – عصيان الإسلام السياسي» الدعوة لتفعيل المجتمع المدني، حيث جاء في الصفحة الثالثة من التقرير ما ترجمته: «بينما يتم العمل على طمأنة حكومات وسط أسيا والتأكيد لها أن احتياجات أمنها الأساسي في مواجهة الإرهاب ستتحقق، يجب على الولايات المتحدة دعم وتفعيل المجتمع المدني والمنظمات غير الربحية لدفع الإصلاح من القاعدة للأعلى».
وهذه الرؤى الاستراتيجية والتوصيات الأميركية تترجم إلى أعمال على المستوى السياسي، فمثلاً يتحدث موقع برامج الإعلام الخارجي بوزارة الخارجية الأميركية عن دعم منظمات المجتمع المدني تحت عنوان «بيان حقائق: مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط – دعم أميركي للحرية والديمقراطية في الشرق الأوسط»: ويقول «تستخدم مبادرة الشراكة أكثر من 75 في المائة من تمويلها لدعم منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية.
وقد أدرجت أميركا موضوع المجتمع المدني على أجندة اجتماع الدول الثماني (2004م)، حيث ضمنته في نص مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي طرحته الولايات المتحدة على مجموعة الدول الصناعية الثمانية حسب ما نشره موقع CNN بالعربية بتاريخ 1/3/2004م، الذي تضمن بنداً خاصاً حول المجتمع المدني جاء فيه: «المجتمع المدني: أخذاً في الاعتبار أن القوة الدافعة للإصلاح الحقيقي في الشرق الأوسط الكبير يجب أن تأتي من الداخل، وبما أن أفضل الوسائل لتشجيع الإصلاح هي عبر منظمات تمثيلية، ينبغي لمجموعة الثماني أن تشجع على تطوير منظمات فاعلة للمجتمع المدني في المنطقة». ثم طالب مجموعة الثماني أن «تشجع حكومات المنطقة على السماح لمنظمات المجتمع المدني»، وأن «تزيد التمويل المباشر للمنظمات المهتمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان ووسائل الإعلام والنساء وغيرها من المنظمات غير الحكومية في المنطقة».
نعم، هذا هو المقصود: دعم منظمات المجتمع المدني من أجل كسب التأييد للغرب وسياسته في معركة الأفكار بينه وبين الأمة الإسلامية!
ومن هذا المنطلق أيضاً، لم يكن غريباً أيضاً بروز بند خاص بالمجتمع المدني ضمن خارطة الطريق حول حل «المسألة الفلسطينية» حسب الرؤية الأميركية، حيث هنالك تركيز على ضمان استمرارية عمله، كما نصت: «المجتمع المدني- تواصل دعم المانحين لبرامج شعب لشعب ومبادرات مجتمع مدني». ولذلك من الطبيعي أن تلاحظ اليافطات في شوارع ومدن الضفة الغربية، وهي تتصدر المشروعات التي تموّلها أميركا، مثل شق بعض الطرق، ويكتب عليها، «هدية من الشعب الأميركي».
هذه الاقتباسات تحدد أهدافاً ونشاطات وتصوّرات واضحة تطرحها أميركا، ولكن هل تستوعب الأمة ذلك؟ وهل يلتفت دعاة المجتمع المدني من أبناء الأمة إلى ذلك؟ وهل يدركون أن الأصابع التي تطلق النار على المسلمين في العراق وفي أفغانستان وتدعم المحتل اليهودي لا يمكن أن توقّع مع المسلمين أنفسهم اتفاقيّات دعم خيري (!) لو لم تكن لتصب في مشروع الهيمنة الذي تديره؟
والحقيقة أن هذا الاختراق لا ينحصر فقط في المناطق العربية، بل إن تفعيل المجتمع المدني هو وسيلة أميركية للتدخل في كافة البلاد الإسلامية، من أجل منعها من النهضة الصحيحة. وهي تأتي أحياناً تحت حجة مكافحة الإرهاب. وقد سبق ذكر اقتباسات من دراسة زينو باران حول مواجهة «مخاطر» الإسلام في بلدان وسط آسيا من خلال تفعيل دور المجتمع المدني، وهنالك أيضاً توصيات شبيهة على موقع مركز نيكسون ضمن نشرة الجديد في محاربة الإرهاب (Update on the War of Terror) التي تضمنت نتائج لقاء حصل في مركز نيكسون بتاريخ 7/7/2005م لتدارس الوضع في باكستان، حيث جاء في مستخلصات تلك الجلسة حول سبل مواجهة الإرهاب (بعد الترجمة): «إن الجماعات «المتطرفة في باكستان تمثل تحدياً لأميركا والحكومة الباكستانية» والتي «تهدد بخلق طالبان جديدة في باكستان»، وأنه من «أجل مواجهة فعّالة لهذه الجماعات، فلا بد من جلب مناطق القبائل نحو تيار الوسط للمجتمع الباكستاني. ومن أجل تحقيق ذلك الهدف، فإنه لا بد من تحقيق الأمن من خلال هزيمة طالبان، ومن ثم لا بد من استقطاب أو «إغراء» مناطق القبائل من خلال منحهم مشاريع سياسية أو اجتماعية يحددونها، مع العمل على التنمية المطلوبة من خلال تطبيق مشروعات «الإغراء» تلك، والتي تتضمن بنى تحتية وتنمية اقتصادية. ومن ثم ذكر التقرير أهمية «دفع أميركا من أجل انخراط مؤسسات السلام والمنظمات غير الحكومية».
ثانياً -الدور الأوروبي
لا تقل جهود أوروبا في ترويجها للمجتمع المدني عن جهود أميركا، فتحركات الاتحاد الأوروبي جلية على مستوى الكتلة بالإضافة إلى تحركات بعض الدول الأوروبية على مستوى الدولة، بل إنه يمكن القول إن بعض الدول الأوروبية تزيد على الأهداف الأميركية هدف الظهور على المسرح الدولي ومزاحمة أميركا عالمياً، وإظهار عراقتها وعمقها الثقافي مثل فرنسا وبريطانيا.
ويتم رسم وتنسيق الموقف الأوروبي ودوره نحو المجتمع المدني من خلال مجموعة من الاتفاقيّات التي تتعلق بتنفيذ سياسة الاتحاد الأوروبي في البلدان العربية (أو ما تسمّى دول الجوار)، وكان لمنظمات المجتمع المدني دور رئيس في تطوير تلك الاتفاقيات والشراكات الأوروبية، من مثل الشراكة الأورو-متوسطية، وسياسة الجوار الأوروبية، وإعلان برشلونة.
وهي تركز على عدة أهداف رئيسة تصب في خلق شراكات أمنية وسياسية واقتصادية ومالية وثقافية ومنها على وجه الخصوص ما سمّي «تحسين التفاهم المتبادل بين شعوب الإقليم وتطوير مجتمع مدني حر ومزدهر» (كشراكة ثقافية واجتماعية وإنسانية). وقد ورد في إعلان برشلونة بأن المشاركين «يوافقون على تقوية و/أو إدخال الأدوات اللازمة لتعاون غير مركزي بهدف تشجيع التبادل بين ممثلى التنمية، وذلك في إطار القوانين الوطنية مثل قادة المجتمع السياسي والمدني، والعالم الثقافي والديني، والجامعات، المجتمع البحثي، الإعلام، المنظمات، النقابات التجارية والشركات الخاصة والعامة؛ سوف يشجعون كل الفعاليات لدعم المؤسسات الديمقراطية وإرساء دولة القانون والمجتمع المدني».
وتضمن المؤتمر الوزاري الأوروبي-المتوسطي الثاني الذي عقد في مالطا في نيسان 1997م كلاماً شبيهاً حول الشراكة في المجالات الاجتماعية والثقافية والإنسانية وتشجيع التفاهم بين الثقافات والتبادلات بين المجتمعات المدنية»، «وزيادة تدخل المجتمعات المدنية في إطار التشريعات الوطنية وذلك بواسطة وسائل منها إقامة شبكات بين المنظمات غير الحكومية».
ويتأكد ذلك التوجّه الأوروبي في الكتاب الأبيض المقدم إلى الاجتماع الوزاري الأورو-متوسطي في مرسيليا حول تقييم وضع حقوق الإنسان، خلال السنوات الخمس الأولى للشراكة الأورو-متوسطية (أي ما بين 1995م- 2000م). وتضمن لمز واستنكار من قبل الأوروبيين لموقف الأنظمة العربية من تفعيل المجتمع المدني، مما يعزز ما تمّت الإشارة إليه سابقاً من تضارب المواقف العربية (الدولة والمجتمع المدني). فحسب البند السادس من الكتاب الأبيض، وتحت عنوان القيود الشديدة المفروضة على حرية الجمعيات تمت مهاجمة المواقف الحكومية العربية، مع الدفاع عن وجود مجتمعات مدنية مستقلة عن الحكومات بالقول: «إن القيود المفروضة على الجمعيات في بلدان جنوب وشرق المتوسط صارمة إلى حد منعها من العمل بحرية… وفي الوقت نفسه، قامت الحكومات بتأسيس عدد من المنظمات غير الحكومية في السنوات الأخيرة، هذه المنظمات الحكومية وغير الحكومية مسيطر عليها بالكامل من قبل الحكومة، ولكنها تدعي تمثيل المجتمع المدني».
ويتحرك الاتحاد الأوروبي على أرض الواقع في العديد من البلاد العربية في اتجاه دعم وتطوير المجتمع المدني، وهو يصرف الملايين الكثيرة في سبيل تحقيق ذلك. وهنالك العديد من الأمثلة وثقها الكتاب الذي تتناوله هذه الحلقات. منها أن السلطة الفلسطينية وقعت على اتفاقية الشراكة الأورو-متوسطية عام 1997م، وتم الاتفاق على سياسة الجوار الأوروبية عام 2004م
إن أخطر وأخبث ما يميّز الموقف الأوروبي تجاه المجتمع المدني هو العمل الحثيث على اجتذاب من يسمّون بـ«المعتدلين الإسلاميين» وإسقاطهم في هذه الأوحال (ميمعة المجتمع المدني)، فعلى سبيل المثال، أورد موقع وزارة حقوق الإنسان في اليمن نقلاً عن الجزيرة نت خبراً بتاريخ 18/4/2005م بعنوان «أوروبا تبحث الحوار مع الإسلاميين والمجتمع المدني»، وجاء فيه أن الاتحاد الأوروبي كان يفضل في الماضي «التعامل مع الطبقة العلمانية المثقفة في المجتمع المدني بالدول العربية على حساب منظمات إسلامية أكثر تمثيلاً». ومن ثم يبتكر الاتحاد الأوروبي مصطلحاً جديداً بإضافة الإسلام إلى المجتمع المدني كما جاء في الخبر المذكور أعلاه: «وتساءلت الوثيقة … هل حان الوقت لكي يصبح الاتحاد الأوروبي أكثر اتصالاً بالمجتمع المدني الإسلامي في تلك الدول؟».
ثالثاً-أدوار المؤسسات العالمية
للأمم المتحدة الدور البارز في ترويج المجتمع المدني، بل كان لها الدور الأساس في نشر وترويج المجتمع المدني في العالم، وتنص المادة الحادية والسبعون من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي: «للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يجري الترتيبات المناسبة للتشاور مع الهيئات غير الحكومية التي تعنى بالمسائل الداخلة في اختصاصه».
ويوجد على الموقع الرسمي للأمم المتحدة على الإنترنت ورقة معلومات أساسية تحت عنوان «منظومة الأمم المتحدة والمجتمع المدني- جرد وتحليل للممارسات» والتي أعدت في أيار عام 2003م، وهدفت «إلى مساعدة الفريق الذي أنشأه الأمين العام في أعماله من خلال إعطائه نبذة عن الرحلة التي قطعتها الأمم المتحدة والمجتمع المدني حتى الآن، ومعاونته على إيجاد أفضل السبل لبلوغ آفاق جذابة في المستقبل»، مما يؤكد الاهتمام المستمر من قبل الأمم المتحدة بالمجتمع المدني. وورد فيها تحت البند الثاني: «تطور مشاركة المجتمع المدني في أنشطة الأمم المتحدة» القول: «باتت الألوف من منظمات المجتمع المدني تشارك – أكثر فأكثر كأعضاء نشيطين وليس كمراقبين فحسب- في مؤتمرات الأمم المتحدة الكبرى وفي غيرها من الأنشطة الأخرى الكثيرة التي تنظمها المنظمة». ومن ثم تتساءل الورقة: «فهل يرجع الفضل في هذا كله إلى جملة مشروطة صغيرة وردت في ميثاق الأمم المتحدة؟ قد تكون هذه الجملة قد أفسحت المجال أمام المجتمع المدني في بادئ الأمر؛ لكن الأهمية التي اكتسبها في منظومة الأمم المتحدة ترجع إلى الطبيعة المتغيرة للعالم الذي نعيش فيه والتحديات التي يطرحها الحكم على الصعيد العالمي في الوقت المعاصر». وضمن النبذة التاريخية حول العلاقات والأحداث البارزة فيما يتعلق بالمجتمع المدني، تقول الورقة: «حتى وقت قريب، كانت الأمم المتحدة المنظمة الحكومية الدولية الوحيدة التي كرست العلاقة مع المنظمات غير الحكومية في ميثاقها التأسيسي».
وتبين الورقة أن الأمم المتحدة لم تعد منبراً للدول ذات السيادة وحدها، وأن «المنظمات غير الحكوميات تعتبر الآن أعضاء كاملي العضوية في الحياة الدولية».
أما عن علاقة البنك الدولي بالمجتمع المدني ومنظماته فإن موقع البنك الدولي على الإنترنت يتحدث عنها بما نصه: «هذا وتشارك منظمات المجتمع المدني في المشروعات التي يموّلها البنك الدولي، مما يؤدي إلى تحسين الأداء التشغيلي وقابلية الاستمرار من خلال مساهمة منظمات المجتمع المحلي بمعرفتها بالمجتمعات المحلية وخبرتها الفنية وشرعيتها الاجتماعية. وهكذا، تقدم منظمات المجتمع المدني أفكاراً وحلولاً مبتكرة، وكذا مناهج قائمة على المشاركة بغية حل المشكلات المحلية».
وحسب موقعه على الإنترنت، فقد بدأ البنك الدولي مع المجتمع المدني في السبعينات من خلال الحوار مع منظمات غير حكومية في مجال البيئة. أما اليوم فإن البنك الدولي يتشاور ويتعاون مع آلاف من منظمات المجتمع المدني في العالم. ويفيد الموقع أن المجتمع المدني تعلّم خلال التفاعل والاحتكاكات ضمن العقود الثلاثة الماضية أن مشاركة منظمات المجتمع المدني في مشاريع التطوير الحكومية وبرامجها يمكن أن تحفّز أداءها التشغيلي من خلال مساهمات المعرفة المحلية والخبرات التقنية ورفع الرصيد الاجتماعي.
وقد أعد البنك الدولي دراسات عديدة تروّج لحوارات البنك الدولي والمجتمع المدني، وتم تبني سياسات دفعت للترويج لمشاركة أكبر. ويذكر موقعه أن اتساع وجودة العلاقات ما بين البنك الدولي والمجتمع المدني تكثّفت خلال أواسط التسعينات عندما تم تبني خطط عمل للمشاركة على المستوى الإقليمي، وعندما تم تعيين خبراء المجتمع المدني في مكاتب البنك الدولي العالمية، ومنذ ذلك الوقت حصل تطور مثير (دراماتيكي) في مستوى التفاعل والتعاون ما بين البنك الدولي وقطاع واسع من منظمات المجتمع المدني في العالم بما يشمل المجموعات المحلية، والمنظمات غير الحكومية واتحادات العمال، والمنظمات القائمة على الإيمان والاتحادات المهنية والجامعات.
ويحدد البنك الدولي آليات لتمويل منظمات المجتمع المدني، وتقدم هذه المنح إما بطريق غير مباشر من خلال صناديق المنح التي تديرها الحكومة ويموّلها البنك، أو مباشرة من خلال التمويل الذي يديره البنك. وقام البنك الدولي على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية بتمويل مبلغ يقدر إجمالياً بنحو أربعة مليارات دولار أميركي.
وهنالك أدوار أخرى لمنظمات عالمية تقوم بأدوار رقابية لتحسين واقع المجتمع المدني في البلاد العربية مثل منظمة هيومان رايتس ووتش.
رابعاً- القوى العالمية الرافضة
أما القوى الرافضة أو المعرقلة لتطور المجتمع المدني أو المتباطئة فيه فهي دول الجانب الآخر من العالم، بما يشمل ورثة الحقبة الاشتراكية مثل روسيا وأوكرانيا، والعديد من الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي التي تضع العراقيل أمام نمو المجتمع المدني، من منطلقات مصلحيّة وسياسية وتنافسية (مع تيارات أخرى محلية) ودفاعية عن وجودها، فهي تعرقله كما تعرقل توجهات الديمقراطية والتعددية وما إلى ذلك من تحركات يدفعها الغرب كون تلك التوجهات منفذ لتحقيق رؤى غربية تتناقض مع مصالح تلك الأنظمة وكونها تهدد بقاءها وديمومتها في الحكم.
ويعتبر موقف روسيا حول تفعيل المجتمع المدني جديراً بالملاحظة. إذ ليس من اللافت فقط عدم وجود أي حضور لها في البلاد الإسلامية من خلال منظمات المجتمع المدني، بل إنها تُتّهم من قبل الغرب بأنها تحاصر انطلاق مجتمع مدني في بلادها وتعيقه، فمثلاً ورد على موقع جيمس تاون فاوينديشن مقال للكاتب بيتر روتلاند بعنوان «هل يدمر بوتين المجتمع المدني في روسيا؟» ضمن دورية «المراقب اليومي يوراسيا» بتاريخ 1/6/2004م، جاء فيه: «مجموعات حقوق الإنسان في روسيا والغرب، تفاعلت بقوة مع تصريح الرئيس فلاديمير بوتين في الخطاب الوطني الأربعاء الماضي، وفيه حذر المجتمع المدني الروسي بسوداوية منتقداً اعتماده بشكل كبير على التمويل الأجنبي… وتحدث بوتين عن مجموعات مدنية لا يمكن لها أن تعض اليد التي تطعمها. ومن ثم يذكر الكاتب أن «بوتين أدخل وبشكل منتظم سياسات تضيّق التطور الحر لمجتمع مدني في روسيا».
ولذلك فهنالك حث في الدراسات الغربية على فتح المجال لانطلاق المجتمع المدني من أجل «الدمقرطة» في روسيا، فمثلاً ورد على الموقع نفسه مقال للكاتبة إلينا باشكيروفو ضمن نفس الدورية السابقة بعنوان «المجتمع المدني والتغيّرات في رؤية الشعب الروسي» جاء فيه توصية حول ضرورة انبعاث المجتمع المدني في روسيا: «من أجل الحفاظ على استمرار تطور روسيا ضمن خطوط الديمقراطية، فإنه من الضروري إيجاد مؤسسات مجتمعية وآليات -مستقلة عن الحكومة- التي تكون قادرة على حماية مصالح المجتمع وأفراده. إن خبرة الدول في إيجاد الديمقراطية تؤكد على حقيقة أن هذه المهام يمكن إنجازها من خلال مجتمع مدني يعمل بنجاح حيث يعتمد على الفئات الوسطى التي هي بشكل معقول مستقلة ومتعلمة بشكل جيد، والفئة الناشطة اجتماعياً من المجتمع».
وهنالك مثلاً نقد شبيه لوضع المجتمع المدني في أوكرانيا، حيث ورد على الموقع نفسه وضمن الدورية نفسها بتاريخ 26/5/2004م مقال للكاتب تراس كوزيو بعنوان: «المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني تحت الهجوم في أوكرانيا» جاء فيه حديث حول أمر بإغلاق المؤسسات غير الحكومية في أوكرانيا… وأن مثل تلك الخطوة تضر بشكل كبير بالعلاقات الأوكرانية مع أميركا.
هذه المواقف «الشرقية» من المجتمع المدني تعزز ما سبق ذكره حول وصف تفعيل المجتمع المدني بأنه مشروع ليبرالي غربي بهدف الهيمنة، بل إن مقال إبراهيم علوش المعنون: «التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني: وثيقة للـ(سي أي آي)»، والذي أورد ما كشفته الوثيقة المذكورة عن تسخير وكالة المخابرات المركزية الأميركية لمنظمات المجتمع المدني ضد النظام اليوغسلافي السابق، يؤكد هذا الأمر بوضوح، وكأن التجارب نفسها تكرر الآن في بلادنا.
إن خلاصة هذه الحلقة أن هنالك تدخلاً دولياً واضحاً في هذا الشأن، فحيثما اتجهت تجد التوصية خيراً بالمجتمع المدني ومنظماته في الطريق الغربي للتعامل مع الأمة في مختلف مناطقها، سواء من قبل مراكز الأبحاث والاستراتيجيات، أم من قبل الساسة والدول، أم من قبل الهيئات الدولية الغربية، فكلها تحث على تفعيل المجتمع المدني وأحياناً تصرّح بأن ذلك هو لنقل القيم الغربية وتحقيق الأهداف الغربية في مقاومة تحرك «الإسلاميين» نحو التغيير الشامل.q