مع القرآن الكريم: الآثار الاجتماعية للحكم بغير ما أنزل الله (2)
2007/02/20م
المقالات
1,839 زيارة
مع القرآن الكريم:
الآثار الاجتماعية للحكم بغير ما أنزل الله (2)
2- انتشار العداوة والبغضاء:
يعيش الناس في ظل دين الله في نعمة من الإخاء والألفة، كما قال سبحانه: ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ) [آل عمران 103] ولكن القلوب سرعان ما تتكدر بالتباغض والتدابر والعداوات عندما يرفع الناس بأنفسهم عن أنفسهم مظلة الوئام والإخاء بتركهم وإعراضهم عن شرع الله جزئياً أو كلياً.
ولقد وعظنا الله في كتابه بأقوام قبلنا استكبروا عن الإذعان التام لشرائع الله، فكانت عاقبتهم أن صارت العداوة والبغضاء هي أصل التعامل فيما بينهم. فاليهود مثلاً لأنهم خالفوا رسول الله (ﷺ) وكـذبوه ولم ينقادوا لشـريعته، أخـبر الله تعالى أن قلوبهم لا تجتمع، بل العداوة واقعة بينهم دائماً لأنهم لن يجتمعوا على حق، وقد خالفوا شريعة الحق فقال تعالى عنهم: ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) [المائدة 64]. ولم يكن النصارى أسعد حظاً من اليهود، فإنهم أيضاً بتركهم بعض ما ذكرهم الله به من شريعتهم، ثم بتكبرهم عن اتباع رسول الله (ﷺ) فيما جاء به من شرع خاتم، كانت عاقبتهم كمثل عاقبة إخوانهم اليهود. قال تعالى: ( وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [المائدة 14].
وإغراء العداوة بينهم معناه: إلزامهم بها، وإلصاقها فيهم، فهي من: غرى بالشيء إذا ألصق به كالغراء. فالعداوة والبغضاء ألصقت بهم فيما بينهم وبين بعض أو فيما بينهم وبين اليهود.
والظاهر أنها واقعة بين طوائف النصارى، وهي تستتبع الوقوع بينهم وبين طوائف اليهود عن طريق الأولى، قال ابن كثير في تفسير الآية: «أي: فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً، ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة؛ لذلك فإن طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لايزالون متباغضين متعادين يكفّر بعضهم، ويلعن بعضهم بعضاً، فكل فرقة تحرِّم الأخرى، ولا تدعها تلج معبدها، فالملكية تكفِّر اليعقوبية، وكذلك الآخرون وكذلك النسطورية والآريوسية، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد». والأمة الإسلامية وعظها الله بهؤلاء حتى لا تقع فيما وقعوا به، فالرعية تُلقى بينهم العداوات إذا رغبت عن شرع الله، يقول ابن تيمية رحمه الله: «… متى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء… وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا». ويقول: «إذا حكم ولاة الأمر بغير ما أنزل الله وقع بأسهم بينهم. قال النبي (ﷺ): (… وما حكم ولاتهم بغير ما أنزل الله إلا وقع بأسهم بينهم) وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا».
3- الابتلاء بالخوف والجوع:
يمتن الله على ما يشاء من عباده، بتوفير أسباب المأمن والمأكل ليتفرغوا بعد ذلك لإعمار الدنيا وإصلاح الآخرة، وهو سبحانه يختبر بذلك الأقوام: هل يشكرون فيستقيمون على الهدى، أم يكفرون فيخرجون عن الجادة؟ لقد امتن الله على قريش بتلك النعم ودعاها إلى الدخول في عبوديته سبحانه: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَءَامَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ) [قريش 3-4]. ولكن قريشاً تعكس الأمر وتظن أن اتباع هدي النبوة سيجر عليها الخوف والجوع: ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) [القصص 57] فردَّ الله عليهم مبيناً أن ما اعتذروا به كذب وباطل، إذ كيف ينعم عليهم -اختباراً- بهذا الأمن والرزق في حال كفرهم، ثم لا يؤمنهم ويرزقهم إذا اتبعوا الحق: ( أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا ءَامِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) [القصص 57].
ولما أبت قريش أن تستجيب لدعوة الحق ظانة أن الأمن وسعة الرزق هما من كسبها ومما يليق بها وكفرت وجحدت؛ دعا عليهم رسول الله (ﷺ) بالحرمان من تلك النعمة التي لم يحفظوها فقال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سِنِيَّ كسِنِيِّ يوسف» (أخرجه البخاري). فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام وجعلهم الله أمثولة للأجيال فقال سبحانه: ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) [النحل 112-113] فالأظهر أن القرية التي ضرب بها المثل هي مكة -كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة-. قال القرطبي: «وضرب مكة مثلاً لغيرها من البلاد، أي أنها مع جوار بيت الله وعمارة مسجده، لما كفر أهلها أصابهم القحط، فكيف بغيرها من القرى؟». ثم إن الله تعالى دعا المسلمين، بعد أن قص عليهم هذا المثل، إلى إخلاص العبودية له واتباع ما شرع، واحترام ما أحل وما حرم، فقال سبحانه: ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [النحل 114-117].
وبيَّن الله تعالى في موضع آخر، أن ما جرى لقريش هو سُنة الله في كثير من الأمم المعرضة عن آياته فقال: ( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) [القصص 58-59].
[انتهى]
2007-02-20