النهضة والاستئناف الحضاري: فلسفة النهضة عند الغرب (2)
2020/11/01م
المقالات
2,638 زيارة
إن السعي وراء إيجاد المعادلة الكامنة وراء النهضة جعلت مفكري وفلاسفة المدرسة الغربية يعزون السبب في ما تعيشه الدول المتقدمة إلى الحرية التي يتمتع بها الإنسان بمفهومها الشامل. فهي البلسم الذي يخرج مكنونات الفرد الإبداعية فيودي به إلى التقدم والنهوض، ويعتبرون أن العبودية والاستبداد والقيود بشتى أنواعها حاجزًا أمام الإبداع والإنجاز، فيرتكس به ذلك حتمًا إلى الانحطاط والتخلف والتقهقر. وهذا ما جعلهم شبه متأكدين من أن التعلق بأوهام الغيب والكهنوت وما يسمى بالكائنات الروحانية غير المحسوسة أمر يزيد من درجة التخلف لدى الشعوب. فعلى رأيهم أن النزعة الروحية تؤدي إلى الابتعاد عن حقيقة الحياة الدنيا المليئة بالحركة؛ ولأجل إثبات فكرتهم فقد قاموا بقياس ما حصل في أوروبا إبان العصور الوسطى حين كانت تدين بالمسيحية، وكان الأوروبي المتدين يرى أن هناك تعارضًا بين التدين والنهضة، وبعبارة أخرى بين الروح والمادة.
وفي هذا، فإن ول ديورانت يتناول هذه النزعة لدى المتدينين الأوروبيين فيقول: «وقد وجّه كثير من المسيحيين همهم كله إلى العمل على أن يستقبلوا يوم الحساب الرهيب طاهرين من الدنس، فكانوا لذلك يرَون في كل لذة من ملذات الحواس غواية من غوايات الشيطان؛ ولهذا أخذوا ينددون بعالم الجسم ويعملون لكبت الشهوات بالصوم وبكثير من أنواع التعذيب البدني، وكانوا ينظرون بعين الريبة إلى الموسيقى والخبز الأبيض والخمور الأجنبية والحمامات الدافئة وحلق اللحية، ويرَون في هذه الأعمال استهانة بإرادة الله الجلية الواضحة للعيان»[1]. أما مارتن لوثر رائد الإصلاح الديني الذي بعتبر الأب الروحي للمذهب البروتستانتي، والذي أسس من أجل استعادة دور الدين وإصلاح المجتمع وأفكاره على أساس ديني فإنه كان يشعر بحسرة كبيرة تجاه الأفكار التي انتشرت في زمانه والتي تدعو إلى استخدام العقل، فتراه يشنّ هجومه العنيف على العقل ويدعو الناس إلى رجمه ودوسه بالأقدام، فيقول: «أنت لا تستطيع أن تقبل كلًا من الإنجيل والعقل، فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر… إن كل آيات عقيدتنا المسيحية التي كشف لنا الله عنها في كلمته أمام العقل مستحيلة تمامًا ومنافية للمعقول وزائفة… إن العقل هو أكبر عدو للإيمان… إنه أفجر صنائع الشيطان، كبغيّ فتك بها الجرب والجذام، ويجب أن توطأ بالأقدام ويقضى عليها هي وحكمتها… فاقذفها بالروث في وجهها… وأغرقها في العماد…»[2].
إن النتيجة التي خرج بها فلاسفة التاريخ الأوروبي، وهي أن سيطرة الدين على مقاليد الحياة في العصور الوسطى كانت سبب انحطاطه، و قد كان من أبرز شواهدهم على التخلف الحاصل هو النظام الإقطاعي الموغل في الظلم والقسوة الذي كان الأوروبيون يخضعون له قانعين بتأثير فكرة التفويض الإلهي الممنوح للملك، فكما يقول ديورانت: «كان الملك من الوجهة الزمنية تابعًا لله، يحكم بما له من حق إلهي، بمعنى أن الله أجاز له أن يحكم، ومن ثم فوضه في أن يحكم»[3]. و يمضون في الاستشهاد بالتاريخ الأوروبي باعتباره تاريخ العالم على حد فهمهم، ويقدمون تحليلًا للنهضة انطلاقًا من الأحداث التي كانت سببًا في تأجيج الصراع الذي بدأ ينشب بين الكنيسة الكاثوليكية التي تسيطر على المجتمع وتطبعه بطابعها وبين الإصلاحيين والثوريين الذين وقفوا في وجه تلك السيطرة. وكان المطلب الأساسي هو تقليص التغوُّل الكنسي، وكان من أبرز دعاته زونجلي أحد زعماء الإصلاح البروتستانتيين الذي قال: «لا أساس للسلطة الروحية التي يطلق عليها اسم «الكنيسة» في الكتب المقدسة وفي تعاليم المسيح. إلا أن السلطة الزمنية تؤيدها تعاليم المسيح وسنته» [4].
وما زاد الأمر حدة أكثر هي المطالب التي رفعها الفلاسفة الذين تمردوا على الفكر الكهنوتي واعتبروه وبالًا على أوروبا، فقد كانت دعوتهم تتمحور حول فصل الدين عن الحياة والمجتمع والدولة والحجر عليه داخل الكنيسة. فماكيافيلّي المفكر الإيطالي الشهير المتوفى سنة 1527م «كان يعتقد أن المسيحية – في أحسن حالاتها – تعلّم فضائل مغلوطة. فقد كانت تعلّم حسب رأيه الخضوع والذل وإنكار الجسد، وإعطاء الخد الآخر للَّطم، ثم حصر أمل الإنسان بالفرح والسعادة في ما بعد الموت. وكانت فكرة ماكيافيلي عن الفضيلة على نقيض كلي مع المناقب المسيحية. فقد كان يستوحي نبل الإنسان ومجد الحياة على الأرض، وكان يعتقد أن هذا النبل يعبر عنه ليس في إذلال النفس بل في الاعتزاز الفخور»[5]. وكذلك فولتير المتوفى سنة 1778م، والذي نقد في مؤلفاته التاريخية النظرة الإنجيلية والمسيحية عن تطور المجتمع، ورسم خطوطًا عريضة لتاريخ الإنسانية. ففلسفة التاريخ تقوم عنده على أساس فكرة التطور التقدمي للمجتمع في استقلال عن إرادة الله، وقد ناضل ضد الكهنوتية وما سماه بالشطحات الخيالية الدينية. وكانت المسيحية والكنيسة الكاثوليكية الهدف الرئيس لتهكمه حيث اعتبرها العدو الرئيس للتقدم[6].
وها هو جان جاك روسّو الذي اعتُبر كتابه «العقد الاجتماعي» عمدة الثورة الفرنسية الكبرى والذي أصبح إنجيل الشعب الفرنسي عقب الثورة، يدعو إلى الإيمان بالله وإنكار الوحي([7])، وبالتالي إلى فصل الدين عن الحياة. ويرى أن واضعي الشرائع ومن بعدهم الحكام والملوك لم ينسبوا القوانين والشرائع إلى الله إلا من أجل أن يعطوها صفة الإلزام وإنزال الرهبة في قلوب الشعب من مخالفتها، فيقول: «فبما أن المشرع لا يستطيع استخدام لا القوة ولا المحاجّة، فعليه أن يلجأ إلى سلطة من نوع آخر يمكنها أن تقود دون عنف وأن تقنع دون إفحام. هذا ما أجبر آباء الأمم في جميع الأزمنة على الاستعانة بتدخل السماء، وأن ينسبوا إلى الآلهة فخار حكمتهم الخاصة، لكي تطيع الشعوب (…) هذا العقل السامي الذي يرتفع فوق إدراك الناس العاديين، هو العقل الذي يضع به المشرع الأحكام على أفواه الخالدين، ليقود بالسلطة الإلهية أولئك الذين لا يمكن أن تزحزحهم الحكمة البشرية؛ ولكن لا يحق لكل إنسان أن يجعل الآلهة تتكلم ولا أن يكون مصدَّقًا عندما ينبىء الناس أنه ترجمانها»[8]. وأخيرًا جاءت الثورة الفرنسية الكبرى سنة 1789م، وأقصت الكنيسة نهائيًا عن المجتمع والدولة والسياسة. يقول ول ديورانت: «لقد كانت معظم الثورات السابقة إما على الدولة وإما على الكنيسة، وندر أن نشبت ضدهما معًا في وقت واحد (…) أما الثورة الفرنسية فإنها هاجمت الملكية والكنيسة جميعًا، واضطلعت بمهمة ومخاطرة مزدوجة هي مهمة الإطاحة بالركيزتين الدينية والدنيوية للنظام الاجتماعي القائم»[9].
وهكذا يَعُدّ المعاصرون من المفكرين والمؤرخين الغربيين تلك الأوضاع دليلًا حيًا على نظريتهم؛ حيث تناسب مقدار الرقي المتعاظم شيئًا فشيئًا في أوروبا مع مقدار انحسار نفوذ الكنيسة عن المجتمع، وبالتالي انحسار الدين والتدين عن الحياة العامة، ثم وجدوا في الثورة الفرنسية التي افتتحت تاريخهم المعاصر البرهان الأكبر على نظريتهم؛ حيث أقصيت الكنيسة عن واقع المجتمع وقُضي على نظرية التفويض الإلهي، وأطلقت الحريات العامة في المجتمع، فاستكملت حركة النهضة الأوروبية مسيرتها وبدأت تؤتي أكلها وتثمر ثمارها التي يفتخر بها الغربيون إلى اليوم. إن هذه النظرية التاريخية الحضارية لدى المفكرين الغربيين هي التي كانت وراء ظهور العقيدة العقلية التي اعتنقها الغرب منذ بداية التاريخ المعاصر وجعلها قاعدة لأفكاره، وقيادة فكرية لمجتمعه، ألا وهي عقيدة «فصل الدين عن الحياة». وهكذا مضى هؤلاء في تفسير أيّة حركة نهضوية من خلال تلك النظرية، فعندما يريدون تفسير ظاهرة النهضة الشيوعية ومن ثم انحطاطها، فإنهم يعزون تلك النهضة إلى غياب التأثير الديني عن الحياة في المجتمع الشيوعي – ولاسيما أن الشيوعية تقوم على الإلحاد وتقول إن الدين أفيون الشعوب – وبالتالي إلى ارتباط الشعوب الشيوعية بالمادة والواقع والحياة. أما الانحطاط السريع لتلك «الحضارة» فمرده في رأيهم ليس إلى الإلحاد وغياب الدين، وإنما لانعدام الحرية. فالحرية التي يستهدفها الإنسان بانعتاقه من الخضوع لرجال الدين والعبودية للغيب، سلبه إياها النظام الشيوعي حين حوله عن الخضوع لرجال الدين والعبودية للغيب، إلى الخضوع والعبودية للدولة والحزب الحاكم، وينظرون إلى الشعوب المنتفضة على الشيوعية اليوم من زاوية أنها تريد الانعتاق من العبودية للدولة من أجل أن تمارس حريتها ولتلحق بركب الحضارة الغربية الليبرالية. يقول فرانسيس فوكوياما: «كلما اقتربت الإنسانية من نهاية الألف الثاني، فإنه يلاحظ أن الأزمتين المزدوجتين التسلطية والاشتراكية، لم تتركا في ساحة المعركة إلا أيديولوجيا واحدة محتملة ذات طابع شمولي: هي الديمقراطية الليبرالية، عقيدة الحرية الفردية والسيادة الشعبية»[10].
هذه هي خلاصة المفهوم الغربي المعاصر عن حركتي الانحطاط والنهضة في التاريخ. فإذا سألنا هؤلاء عن سر النهضة الحضارية الإسلامية خلال العصور الوسطى، فإنهم يعجزون عن تفسير تلك الظاهرة وفق نظريتهم السالفة الذكر، فيتكلفون التفسيرات المختلفة من أجل إثبات نظريتهم. فعصور الحضارة الإسلامية التي شهدت أعظم نهضة عرفها التاريخ كانت عصور تدين وعبادة، بل كانت الحضارة الإسلامية – بما فيها مجتمعها ودولتها وطريقة عيشها – تقوم على أساس عقيدة روحية تربط الإنسان بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها. فذلك المثال هو البرهان الحي والدليل القاطع على فساد النظرية الغربية في تفسير حركتي النهضة والانحطاط. فالفكرة تثبت صحتها بانطباقها على الواقع، ويثبت فسادها إن لم تنطبق على ذلك الواقع كما هو شأن تلك النظرية. وفلسفة النهضة هي مسألة من الخطورة بحيث إنه لا يجوز أن تكون نظرية ظنية كما هو شأن تلك النظرية. بل يجب أن تكون فكرًا يقينيًا جازمًا ينطبق على الواقع المحسوس، قادرًا على تفسير كل نهضة وكل انحطاط للحضارات التفسير الصحيح.
الاستئناف الحضاري:
ينعى الكثير من المسلمين حالهم بمقارنته بغيرهم من الأمم المتقدمة، ومنهم من يبالغ بالوصف في وضع المسلمين، وأنه لا مخرج لهم، وأن الغرب سارع خطواته ولا يمكن بأي حال من الأحوال اللحاق به. فالتقدم الذي يقصده الناس هو تلك المظاهر المادية والتي تنتج عن تبني وجهة نظر في الحياة تتخذ كمبدأ، وتكون منطلقًا لتحديد المعالجات التي تم التوافق عليها بين المجتمع والدولة من خلال قوانين وتشريعات. فالأوضاع المتخلفة التي يعاني منها المسلمون تجعلهم يعقدون المقارنات الواحدة تلو الأخرى، وفي الأخير يصلون إلى هزيمة داخلية سببها هو عدم التفريق بين مطالب الشعوب والإرداة السياسية، فالفرق بين المصطلحين يحتاج إلى شيء من التوضيح. فالشعب بمجموعه قد يجتمع على أفكار معينة يراها صائبة؛ ولكي يجعلها واقعًا ينضبط به كل المجموع وجب أن تتبنى تلك الأفكار دولة أو قل إرادة سياسية لتفعيل تلك المطالب في إطار عملي تجمع من خلاله كل الطاقات التي تهدف إلى تحقيقها. وهذا التعريف ينطبق على كل الأمم، سواء الناشئة منها أم العريقة؛ ولكن الاختلاف قد يرد عندما تكون مطالب الأمة هي أوامر من خالق الكون تهدف إلى تحقيق مفهوم العبادة الذي يتجلى في الالتزام الكامل ودون أي شك في تطبيق كل جزئيات الأوامر والسعي للحفاظ عليها والاستمرار في العمل بها وحملها إلى العالمين.
فغير المسلمين غير قادرين على إدراك حقيقة الرحمة والعدل والرخاء الذي يتميز به الإسلام إن لم يروه مطبقًا في واقع الحياة من خلال كيان تنفيذي يمثل تطلعات الأمة في طاعة خالقها، ويعمل على حماية الرسالة وما يتعلق بها من مفاهيم. إن تحقيق النهضة أو ما أصبح يطلق عليه بالتنمية يقتضي اندماجًا كاملًا بين الحاكم والمحكوم تجاه الأهداف والاستراتيجيات المنبثقة من منطلقات فكرية تم التوافق عليها، وأصبحت حقًا عامًا عند الجماعة. فالدولة توفر الوسائل، والشعب يقدم الولاء والتضحيات، ويحس بالانتماء فيقدم النصح وتقل بذلك الثغرات التي قد تفشل تحقيق التنمية، وما نراه حاليًا هو انعدام ذلك التجانس وعزوف فئة كبيرة من الشعب عن الغايات المرسومة لأنها أهملت عنصرًا مهمًا وهو وجود قاعدة فكرية واحدة. فالانطلاقة الواحدة مغيبة، وبالتالي يحصل غياب الشعور بالانتماء وتتعدد الثغرات ويصبح تغلغل المفسدين أمرًا لا مفر منه.
إن الشعب لا يمكنه تحقيق الرقي إن لم يجعل لنفسه من يمثله ويقوده، وينشأ الكيان الذي يقوم بوظيفة الإرادة والتنفيذ؛ ولهذا فالإسلام اعتبر أن الدولة عنصر مهم في حياة الإسلام والمسلمين. وبها نسبت النجاحات للأمة؛ لأن الدولة تمثل الأمة بفكرها وعقيدتها، واستمر الأمر على ما هو عليه من إنجازات إلى غاية سقوط الدولة العثمانية، فتخلفت الأمة وضعفت وأصبحت تتذيل الأمم؛ وعليه فالشعب بمجموعه لا ينتج التكنولوجيا ولا الحضارة، وإنما الفكرة التي اعتنقها وأسس على أساسها إرادته السياسية، والتي هي باستطاعتها ترجمة واقع الشعب وأفكاره إلى واقع؛ ولهذا كان على مريدي النهضة أن يكون لهم تصور واضح عن المشروع المراد إيجاده، والذي وجب أن يلتزم بما تحمله مجموع الأمة من ثوابت وأفكار أساسية من ضمنها أن الإسلام بما لديه من أحقية تاريخية وتشريعية قادر على خلق الفارق وتحويل الكفة لصالح الأمة الإسلامية لاستعادة مجدها وعزها. وهذا الأمر يحتاج إلى عمل جاد من طرف النخبة القادرة على ترجمة الأفكار إلى أفعال منتجة.
إن الحضارات تتصادم وتتدافع، ومعيار الانهزام الحضاري هو الاستسلام، أو كما وصفها ابن خلدون بأن «كل مغلوب مفتون بتقليد الغالب». والحضارة الرأسمالية التي يمثلها الغرب والشرق تتبنى مفهومًا معينًا للحياة تريد أن يُصبغ العالم كله به، فعلى حد قول هنتيغنتون: «إن غير الغربيين مطالبون بالتخلي عن جميع قيمهم، وتبني مفاهيم الغرب في جميع شؤونهم المتعلقة بالحكم والاقتصاد والتعليم وفي جميع مؤسساتهم؛ لأنها هي المفاهيم الوحيدة المؤدية إلى التحضر». فالرأسمالية تزعم أن خالق الكون لا دخل له بموضوع المال أو تسيير أمور العباد؛ فكان أن انبثقت عن هذه الفكرة الأساسية تشريعات أنتجت مؤسسات مالية سارت في منحى منحرف أهملت الإنسان واعتبرته مجرد رقم، واهتمت بتكثير المال وتنويعه، ووسعت الهوة بين الأثرياء والفقراء، وقنَّنت للنهب تحت مسميات مختلفة. فالبناء الرأسمالي الذي بدأ يترنح بعد أن اهتزت جذوره وأسسه نتيجة للأزمات المتراكمة، حتى إن الكثير من المحللين الاقتصاديين فقدوا الثقة في الكثير من أساسياته. فكل هذا التيه الذي يعيشه العالم هو نتيجة طبيعية للرأسمالية بكل ما تحمله من فكر ومؤسسات. وعليه، فالأنظار أصبحت متوجهة إلى الإسلام باعتباره أنه هو الوحيد القادر على تصحيح المنحى وإعادته إلى جادّته، خاصة مع ما يمتلكه من موروث فقهي وتاريخي يجعله في وضع طبيعي لقيادة العالم. إن الإسلام وتشريعاته الاقتصادية والسياسية والتربوية والأخلاقية المتميزة أثبتت جدارتها تاريخيًا في الارتقاء بالإنسان والمجتمع، خاصة وأنها تشريعات منبثقة عن فكرة كلية صحيحة تجعل هذا الكون والإنسان والحياة يرى بنور الله؛ فتستقيم الدنيا ويتحقق مفهوم العبودية الحقة؛ ولهذا فإن أي محاولة للتغيير سيكون مصيرها الفشل إن لم تلتزم بهدف قولبة المجتمع ضمن إطار إسلامي واحد ووحيد. فالعمل إذًا فكري يقدم مشروعًا ضمن اعتبارات واقعية وإنسانية وعملية بعيدة عن الفلسفة المجردة عن الواقع، ويعتبر أن له من الأحقية التاريخية التي تجعله وضعًا غير قابل للتنازل والتراجع، وهذا ما نسميه بأنه قضية مصيرية. فالأمة الإسلامية ليست أية أمة، وفي عنقها مسؤولية تجاه نفسها وتجاه غيرها من الشعوب، فهي أمة ذات رسالة بالمفهوم الرباني، وقد فهم الصحابة الخطاب، ومن بعدهم الخلفاء، فقد روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: «من سره أن يكون من هذه الأمة؛ فليؤدِّ شرط الله فيها» وذكر قوله تعالى: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ)
[1]– ول ديورانت – قصة الحضارة – ج 11- ص 282.
[2]– المرجع السابق – ج 24- ص 55-56.
[3]– المرجع السابق -ج 14 – ص 429.
[4]– المرجع السابق – ج 24 – ص 117.
[5]– أرنستو لاندي – مقال في كتاب أعلام الفكر السياسي – تصنيف موريس كرانستون – ص 42.
[6]– المرجع السابق – مادة «فولتير».
[7]– المرجع السابق – مادة «روسّو».
[8]– جان جاك روسو – العقد الاجتماعي – ص 85.
[9]– ول ديورانت – قصة الحضارة – ج42 – ص 397.
[10]– فرانسيس فوكوياما – نهاية التاريخ والإنسان الأخير – ص 68.
2020-11-01