مع القرآن الكريم
2020/02/02م
المقالات
21,206 زيارة
( ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ٢٧٦)
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
بعد أن بيَّن الله سبحانه أجر المنفقين حلالًا طيبًا في سبيل الله، بيَّن في هذه الآيات مصير أولئك المنفقين حرامًا وعصيانًا لله سبحانه ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وذكر الله سبحانه في هذه الآيات (الربا) وبيَّن عظم جريمته وسوء صنيع أهله والعقاب الشديد والعذاب الأليم على هذه المعصية الشنيعة والمنكر العظيم:
-
فقد ضرب الله مثلًا للذي يأكل الربا كمن يتخبط من الصرع، يقف ويقع فيضطرب في مشيته ووقوفه وجلوسه، فالجنون قد أخذ منه كل مأخذ؛ وذلك لأنه يعتبر الربا كالبيع، والله قد حرم الربا وأحل البيع.
ثم يعفو الله سبحانه عما مضى من ربا الجاهلية، ويبين للمؤمنين أن عليهم بعد نزول تحريم الربا أن يلتزموا ويطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تعامل بالربا بعد نزول التحريم مستحلًا لما حرمه الله فقد استحق العذاب الأليم، وكان من أصحاب النار خالدًا مخلدًا فيها.
( ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰاْ ) أي يأخذونه، ويعمّ كل انتفاع به. وقد استعملت ( يَأۡكُلُونَ ) في القرآن الكريم للدلالة على الذم ( إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ١٠) ( يَتَمَتَّعُونَ َيَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوٗى لَّهُمۡ ١٢) وهي هنا كذلك.
( لَا يَقُومُونَ ) أي يوم القيامة.
( إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ ) أي أنهم يبعثون من قبورهم، يقومون كما يقوم المتخبط المصروع في الدنيا – أي المجنون – وذلك خزي لهم يومئذ، وهي قرينة على النهي الجازم عن الربا والذي تكرر تأكيد تحريمه في هذه الآيات.
( مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ) أي الجنون، يقال: مُسّ الرجل فهو ممسوس إذا جن. والخبط هو الضرب على غير استواء كخبط العشواء.
وقد وردت روايات في تفسير ( ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ) والراجح منها أن الإنسان حين يصاب بالجنون يصبح للشيطان تأثير أكبر عليه من خلال وسوساته، فيخيل إليه أمور كثيرة تؤدي بالمجنون للتخبط.
أما القول بأن الشيطان هو الذي يصرعه أو يؤدي به إلى الجنون فالآية لا تنطق بهذا، فالله سبحانه لم يقل (يتخبطه الشيطان بالمس) أي يصيبه الشيطان بالجنون وإنما الآية ( يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ) أي يتخبطه الشيطان بسبب جنونه، أي أن الجنون سابق لتخبط الشيطان.
كذلك فإن القول بأن ( يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ) من باب الكناية والمجاز حسب أساليب العرب في إطلاقهم على المصروع أن الجن قد مسته أي أصابته بالجنون – فهم قد اشتقوا الجنون من الجن – فإن ذلك مرجوح لأنه لا يعمد للكناية والمجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، والحقيقة هنا لا تتعذر فلا يتعذر أن يوسوس الشيطان للمجنون بتخيلات عدة يجعله يتخبط فيقال (تخبطه الشيطان). ولعل الذين تأولوا أساليب العرب من الكناية والمجاز كانوا يردون على من قال إن الشيطان هو الذي يصرع الشخص ويصيبه بالجنون، ولأنهم يرون أن الشيطان لا سلطان له بإصابة المرء بالجنون ( وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيۡكُم مِّن سُلۡطَٰنٍ ٢٢) فقالوا ما قالوه.
وقول كليهما مرجوح، والراجح ما قلناه وكما بيناه.
والغـريـب ما تجـده في تفاسـير الفريقـين من تحـامـل على بعضهما لمخالفته رأيه في الموضوع حتى ليكاد بعضهم يخرج الآخر من الملة في الوقـت الذي لا تقطع الآية برأي كليهما.
كما إني لم أطلع على حديث صحيح في تفسير الآية إلا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج وهو لا يقطع برأي أحدهما: “فانطلق بي جبريل فمررت برجال كثير كلّ منهم بطنه مثل البيت الضخم… إلى أن يقول: فإذا أحس بهم أصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون، ثم يقوم أحدهم فيميل به بطنه فيصرع … إلى أن يقول: قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس“[1] فهي تشبه آكلي الربا الذين يصرعون لتمايل بطونهم به لثقلها بالذي يتخبطه الشيطان من المس.
وعليه فلا آية ولا حديث يقطع برأي أحدهما في تفسير الآية.
وما دام الأمر كذلك، أي لا حقيقة شرعية في تفسير الآية بقي أن نعمد إلى اللغة، فالقرآن نزل بلغة العرب فنجد الراجح ما قلناه إن مثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس أي بسبب الجنون، أي أن الجنون يسبق تخبط الشيطان للشخص فيجن الشخص بسبب من الأسباب ثم يتخبطه الشيطان بوسوساته وتخيلاته.
فلم يصـرع الشـيطان الشخص أي لم يجعله مجنونًا وإلا لكانت الآية الكريمة (الذي يتخبطه الشيطان بالمس) والباء تفيد الإلصاق أي بالجنون أي يصيبه بالجنون، وفي الوقت نفسه لا يلجأ إلى الكناية والمجاز فيصرف معنى الشيطان عن حقيقته لأن الحقيقة لا تتعذر.
وفي جميع الحالات نقول إن هذا ما نرجحه ولا نقطع به، ومن كان لديه ترجيح أقوى حسب أبحاث اللغة وأقسام الكتاب والسنة يُـتَّبع.
وهذا المثل تصوير حسي فظيع لشدة جريمة آكلي الربا، وهذه النتيجة قائمة عند جميع المفسرين على اختلاف فهمهم للمثل المضروب.
ويغفر الله لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان على ما كتبوه عن بعضهم في تفاسيرهم والله المستعان.
( بِأَنَّهُمۡ قَالُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡبَيۡعُ مِثۡلُ ٱلرِّبَوٰاْۗ ) أي أن المثل الفظيع الذي ضرب لهم لشدة جريمتهم وهو قوله تعالى: ( ٱلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّۚ ) هو بسبب استحلالهم للربا واعتبارهم إياه كالبيع، وفي هذا دلالة على ما يصيبهم من خزي وعذاب في الدنيا والآخرة.
( وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ ) جملة مستأنفة من الله تعالى ردًا عليهم وإنكارًا لتسويتهم بين الربا والبيع.
( فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّهِۦ ) فمن بلغه وعظ بأن الربا حرام أي من بلغه التحريم، و(من) شرطية وسقطت علامة التأنيث في (جاء) لأن تأنيث الموعظة غير حقيقي بل هي بمعنى (وعظ) فذكر الفعل لأجل ذلك.
( فَٱنتَهَىٰ) عطف على ( جَآءَهُۥ ) واقتران الفاء به للدلالة على سرعة الاتعاظ عند بلوغه النهي بلا تراخٍ.
( فَلَهُۥ مَا سَلَفَ ) الفاء داخلة على جواب الشرط، والمراد لا يسترد منه ما تقدم أخذه واكتمل قبل التحريم، أما المعلق منه فيطبق عليه ( فَلَكُمۡ رُءُوسُ أَمۡوَٰلِكُمۡ لَا تَظۡلِمُونَ وَلَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٩ ).
( وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ ) أي أمر هذا الذي انتهى فله ما سلف، أمره في مستقبله إلى الله فهو سبحانه الذي يعلم مدى التزامه بالانتهاء عن الربا.
( وَمَنۡ عَادَ ) أي من عاد إلى سالف عهده يقول البيع مثل الربا أي يعود إلى استحلال الربا.
( فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ ٢٧٥ ) لأنه بعودته لاستحلال الربا يكون قد كفر وارتد عن الإسلام، والكافر يخلد في النار.
-
ثم يبين الله سبحانه في الآية التالية عاقبة المرابي وعاقبة المتصدق، فالله لا يبارك مال الربا في الدنيا، ويعد لصاحبه عذابًا أليمًا في الآخرة.
وهو سبحانه يبارك الصدقة ويعد لصاحبها أجرًا عظيمًا في الآخرة.
ثم يختم الله الآية الكريمة بأنه سبحانه يبغض الكفار الآثمين، وفي هذا دلالة تنبيه وإيماء بأن الذين يعودون لتحليل الربا ومساواته بالبيع هم كفار آثمون.
( يَمۡحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰاْ ) أي يذهب بركته وإن كان كثيرًا. روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل“[2].
والمحق: النقص والذهاب، ومنه محاق القمر وهو انتقاصه.
( وَيُرۡبِي ٱلصَّدَقَٰتِۗ ) ينميها في الدنيا بالبركة ويضاعف ثوابها في الآخرة. أخرج مسلم: “إن صدقة أحدكم لتقع في يد الله فيربيها له كما يربي أحدكم فُلُوَّه أو فصيله حتى يجيء يوم القيامة وإن اللقمة على قدر أحد“[3].
( وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ٢٧٦) أي كل كفار باستحلال الربا، أثيم بالتمادي في أكله، وفي عصيان الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. واختيار صيغة المبالغة في كفّار أثيم للدلالة على فظاعة جريمة الربا.
-
وفي الآية الثالثة يعد الله سبحانه الذين اعتقدوا الإسلام والتزموا أحكامه الشرعية بأن لهم أجرًا عظيمًا عند الله ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
[1] أحمد: 2/353، 363، مسند الحارث بن أسامة: 1/17، ابن ماجه: 2/763 رقم: 2273
[2] ابن ماجه: 2270، أحمد: 1/395، 424
[3] البخاري: 1321، مسلم: 1685
2020-02-02