حروب الغرب: أهدافها وكيفية مواجهتها
سليمان المهاجري – اليمن
قبل أن نجيب على هذا التساؤل، لابد أولًا من معرفة واقع الصراع اليوم بين المسلمين كأمة إسلامية كما وصفهم رب العزة بقوله: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ …) وبين الغرب الكافر المستعمر كقائد للمبدأ الرأسمالي. من هذا يتبين أن الصراع الدائر اليوم هو صراع بين أمتين، أمة تحمل مبدأً ربانيًا من خالق الكون والإنسان والحياة، وبين أمة تحمل مبدأ من وضع البشر، أي إن الصراع هو بين حضارتين، الحضارة الإسلامية من جهة، والحضارة الغربية من جهة أخرى. وإذا كان الصراع بين حضارتين فحتمًا سيكون أولًا صراعًا فكريًا، وسيتطرق إلى جميع جوانب الحياة، منها السياسي، والاقتصادي و الاجتماعي… ولكل مبدأ فكرته التي يراد تطبيقها، وطريقته التي يسير عليها.
من هنا نقول ونجزم بهذا القول: إن المبدأ الرأسمالي بات على وشك الانهيار؛ وذلك لأنه فشل فشلًا ذريعًا في معالجة مشاكل البشرية، وهو لا يقوى على الصراع الفكري الحضاري مع الإسلام. وبالرغم من أن جميع الإمكانيات المادية اليوم بيد الدول الرأسمالية إلا أنها لم تستطع القضاء على الإسلام؛ لأن الإسلام اليوم لا يزال موجودًا عالميًا رغم الحرب الشرسة عليه؛ إلا أنه لايزال حيًا في قلوب الشعوب التي اعتنقته، ولا يزال يُحمل من قبل أبنائه الواعين المخلصين لإعادته مبدأً دوليًا بأقامة دولة دولة الخلافة الراشدة.
والمبدأ الرأسمالي فشل في سياسته للشعوب من خلال الدول القائمة على الاستبداد والاستعمار، وبسبب خطأ الأساس الذي قام عليه، والأفكار التي يحملها، ومفاهيمه عن الحياة، وعجزه عن إعطاء الحلول الصحيحة للمشاكل المستجدة؛ فأدرك هذا الأمر العديد من المفكرين والسياسيين من البلاد الغربية والبلاد الإسلامية، وأدركوا أن ما تعيشه البشرية اليوم من مشاكل في شتى مناحي الحياة هو بسبب تطبيق المبدأ الرأسمالي المتوحش.
نعم، لقد أدرك معتنقو هذا المبدأ والقائمون عليه في دول الغرب وخاصة أميركا كونها الدولة الأولى في العالم، وهي من تتصدر قيادة العالم بهذا المبدأ الوضعي الفاسد المتوحش، وكذلك أدرك الساسة في أوروبا أن الناس يتجهون نحو الإسلام، وأنه المبدأ الصحيح الذي قام أساسه على العقل، وهو يوافق فطرة الإنسان، وأنه وحي من خالق الإنسان. وأدرك الغرب أن الأمةَ الإسلامية باتت تعيش حالةً من الصحوة وإرادة التغيير الجذري على أساس الإسلام والسعي إلى تحكيم دينها منذ سنوات طويلة مثلما أدركها حزبُ التحرير الذي جعل استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة قضيته الأولى، بل قضيته المصيرية. وإدراك الغرب لهذا الأمر جعله يضع الخطط المبكرة لمنع هذه العودة وهذا التغيير، ولحرف بوصلة العاملين على التغيير. فقام بعدة أساليب لينفذها بوسائل مختلفة، منها إشعال الحروب المباشرة في البلاد الإسلامية، ومنها حروب بالوكالة كما فعلت أميركا نيابة عنها، ولتحقق من وراء هذه الحرب مصالحها والتفرد في هيمنتها على العالم وشغل المسلمين بما لا ينفعهم، ومن هذه الحروب استغلت أميركا روح الجهاد الموجودة عند المسلمين فاستغلته في أفغانستان لمصلحتها وهي ضرب الاتحاد السوفياتي لتنفرد هي في قيادة العالم، وفعلًا كان ذلك. ولما رأت أن القاعدة التي سكتت عن وجودها ابتداءً، بل وأمرتْ الدولَ العميلةَ لها كالسعودية بدعمِها، شبَّت عليها، فما أن طُرد الاتحادُ السوفياتيُّ من أفغانستان حتى توجهتْ لمحاربتِها، وقامتْ بسلسلة من التفجيرات لسفاراتِها، ومن ثَمَّ كانت تفجيرات 11/9/2001م جعلت أميركا، بعد سقوطِ الاتحادِ السوفياتي وانهيارِ حضارتِه الشيوعية، الإسلام هو عدوَّها الحضاريَّ الجديد، وظهرتْ عليها بوادرُ تقسيمِ بلادِ المسلمين من جديد، وجعلِها تقومُ على حدودٍ طائفيةٍ دمويةٍ لتتحكمَ بها، ولتمنعَ من توحُّد المسلمين على دولة إسلامية واحدة.
ومن الحروب المباشرة حربُ العراق بعدما أمرت بريطانيا عميلها صدام حسين بدخول الكويت، فاستغلت أميركا هذا الأمر لتقود حربًا على العراق مع مجموعة من الدول. ويمكن القولُ إن أميركا أتت إلى المنطقة بنفسها لتستعمرَها خالصةً لها من دون المنافسين، ولتشرفَ مباشرة على تقسيمِها، ولتمنعَ عودةِ الإسلام إلى الحكم.
والملاحظ أنه كان عند حدوث أية حالة من هذه الحالات أو ثورة تنادي بالإسلام أو بالجهاد، كان المسلمون، كلُّ المسلمين، وفي كل بلادهم، يتلهفون للإسلام وللجهاد من أجل إعلاء كلمة الله، ويتعاطفون معها أيَّما تعاطف؛ فتقوم مظاهراتُ التأييد، وتقدَّمُ أموالُ التبرع، ويذهبُ المتطوعون لنجدة إخوانهم هناك… وصارت آمالُ عودة الإسلام إلى معترك الحياة تكبر وتزداد مع كل حالة من هذه الحالات.
عندها وجدتْ أميركا، ومعها الغربُ الأوروبي، أن الأمرَ صار يكبرُ عليها ويصعُب، وصارت تخافُ من خروجه عن الطوق انتقلت إلى أسلوب آخر؛ فكانت سياسة التضليل والخداع، وقد استخدم هذا الأسلوب الغرب الكافر المستعمر وفي مقدمته أميركا لتضليل المسلمين عن حقيقة أهدافه وما يرمي إليه. فعندما جاء أوباما إلى الحكم، أعلن بشكلٍ رسميِّ عن تراجعِ أميركا عن خطة سياسة التفرُّدِ في حكم العالم القائمةِ على الاحتلالات المباشرة واستعمال القوة القاسية… وعودتِها إلى اتِّباعِ سياسة الاحتواء القائمةِ على جهودِ المخابرات في زرع العملاء، وشراءِ الذِّمم، وبثِّ الفتن، وإثارةِ الاضطرابات، وتدبير الانقلابات. بمعنى آخر غيرت أميركا أسلوب حربها على الإسلام ولم تعدل عنها. ومن وسائلها وأساليبها في هذه الخطة:
الحرب على الإرهاب .
إن الموقف العدائي من الغرب تجاه العالم الإسلامي يجب أن يكون واضحًا جليًا لكل مسلم، لا سيما العاملين في مجال التغيير في البلاد الإسلامية على أساس العقيدة الإسلامية لإقامة الخلافة الإسلامية، وهذا هو الذي يخاف منه الغربُ كلَّ الخوف؛ لذلك التقتْ دولُ العالم جميعُها بقيادة أميركا على ضرب هذا التوجهِ من غير رحمة بشتى والوسائل والأساليب. وللحيلولة دون نجاح أي تغيير شامل على أساس الإسلام لإقامة الخلافة قام الغرب بفرض ما يسمى بالحرب العالمية على الإرهاب، رغم أن مظاهر الإرهاب المفترض محاربته إنما يترعرع وينتشر بشكل ملحوظ ومؤثر ومنظم في مناطق الاحتلال وبؤر النزاع والاضطراب التي صنعها الغرب بنفسه، كما هو الحال في أفغانستان وباكستان والعراق ومصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا ولبنان… أي في المنطقة التي تعتبر ضمن مجال المخططات الغربية ومناطق النفوذ والنزاع بين دوله؛ ما يعني أن سياسات تلك الدول ومخططاتها هي السبب الرئيس لإنتاج هذه الظواهر، بغض النظر عما إذا كان هو الذي قام بتصنيعها وتنظيمها وتمويلها وتوجيهها.
نعم، إن الإرهاب المفترض محاربته هو نتاج سياسة المبدأ الرأسمالي المادي الفاشل الذي لا يعطي الحلول الصادقة أو المعالجات الصحيحة لإشباع حاجات الإنسان، فدول الغرب هي التي قطعت آلاف الأميال لاحتلال بلاد المسلمين، وهي التي أسقطت دولة الخلافة، وهي التي مزقت بلاد المسلمين، وهي التي زرعت (إسرائيل)، وهي التي تنهب ثروات الأمة، وهي التي تفرض حُكَّامًا جلاوزة ظلمة لئام يسومونها سوء العذاب. فالغرب هو الآثم، وسياساته المتوحشة هي رمز الإرهاب الدولي الظلامي الفاحش والقبيح. أما الممارسات الشائنة لتنظيم الدولة وكل من ماثَله واتبع خطاه من قتل وخطف وتفجير وحرق وسبي وتهجير وتشريد أهوج باسم الخلافة فهو تقزيم وتشويه لتطبيق الإسلام، ويخدم سياسات الغرب أيما خدمة، إذ يستخدمها لتبرير سياساته البشعة أمام شعوبه، ليخرس كل الألسنة التي تنتقد تدخله وتسلطه على المسلمين، كما يمنحه فرصة تشريع القوانين المحلية والدولية لتجريم دعاة الخلافة وتقديمهم كشذاذ آفاق.
وأيضًا في عهد أوباما، وعندما قامت في بلاد المسلمين ثوراتٌ تطالبُ بإسقاط الأنظمة، نظرتْ أميركا، ومعها دولُ أوروبا، إليها من هذه الزاوية، زاويةِ أن الأمةَ تريدُ إسقاطَ صنائعِها من الأنظمةِ وإقامةَ الخلافة. وتعاملوا معها على هذا الأساس، تحت شعار (الحرب على الإرهاب) الذي كان معمولًا به من قبل في عهد بوش. وقد برزَ أكثرَ ما برزَ هذا الصراعُ الحضاريُّ في سوريا؛ حيث وُجد توجهٌ واضحٌ لدى المسلمين هناك لإقامة دولة إسلامية، والخلافةِ تحديدًا، وهذا هو الذي يتحسَّبُ منه الغربُ كلَّ التحسب؛ لذلك التقتْ دولُ العالم جميعُها بقيادة أميركا، على ضرب هذا التوجهِ من غير رحمة، وبشكل إجراميٍّ حيوانيٍّ خلا من كل قيمة إنسانيةٍ أو خلقيةٍ، ومن كل منطق، فأيُّ منطقٍ هذا الذي يحكُمُ الغربَ عندما يؤيِّدُ بشار أسد قاتلَ شعبه، ويعملُ على عدم إسقاطه وبقائه في الحكم؟! وأي منهما يستحق أن نطلق عليه أنه إرهاب أهل سوريا الذين خرجوا بثورة سلمية يطالبون بتغيير النظام، أم بشار الذي باشرهم بالكيماوي والبراميل المتفجرة، ما لكم كيف تحكمون؟! وهذا لا يعني إلا مزيدًا في سقوط حضارة الغرب وإفلاسه فكريًا وحضاريًا. وفي المقابل، هل استطاع الغربُ فيما يرتكبُه من إجرامٍ بحق المسلمين ودينهم، أن يجعلَهم يستسلمون له؟ إنه لم يستطعْه من قبل، ولن يستطيعَه بعدُ، بإذن الله. فالأمةُ حيةٌ، ودينُها حي، والضربات تُقويها ولا تثنيها، وممارساتُه المفلسةُ تزيدُها إصرارًا على التغيير، وتزيده سقوطًا.
المفاوضات السياسية و سياسة الاحتواء.
وتجلَّى هذا عيانًا عندما انطلقت الثورات في الربيع العربي حيث فاجأت الجميع، وخلطت الأوراق، وفرضت على الغرب حلولًا هو لها كاره، وهدمت ما بناه في عقود طويلة، فأخذ الغرب الكافر المستعمر يدافع عن نفسه ومبدئه ومصالحه، وأخذ يتآمر على الثورات بمحاولة احتوائها؛ لحرف مسارها بعملائه وأوساطه السياسية كما حدث في تونس وفي مصر، وأحيانًا بالتدخل العسكري المشروط وسياسة الابتزاز كما حصل في ليبيا، وأحيانًا عن طريق المفاوضات وإطلاق المبادرات والمؤتمرات كما هو في اليمن وغيرها، وأحيانًا بالصمت وإعطاء الضوء الأخضر لقتلة حزب البعث في سوريا لحل الأمر حلًا عسكريًا مليئًا بالمكر والإجرام.
الحرب الغربية الإعلامية والنفسية على الإسلام
تلك الحرب التي مازالت تتوالى فيها إصدارات الكتب والمقالات وأبحاث مراكز الفكر ونشاطاتها، والتي تهدف إلى التيئيس والترويض القسري للشعوب على الشعور بالهزيمة والاعتراف بأنها هزيمة نهائية، ومن الأمثلة على ذلك:
الترويج لكتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير لفرنسيس فوكوياما، ومن الأدلة أيضًا على هذه المؤامرة هي الأعمال التي يُقام بها لأجلها، وهي كتب ودراسات ومؤتمرات وندوات ومقالات تتدفق بلا حصر، وتتمحور كلها حول فكرة فشل الإسلام أو الإسلاموية بحسب تعبير الناعقين بهذه الضلالة، وحول أن البديل هو العلمانية كما يزعمون، ويروج لها باحثون وكُتَّاب كثيرون في صحف وفي مراكز دراسات مشهورة كمؤسسة راند وغيرها، وفي مراكز دراسات عربية، وكذلك فضائيات مشهورة يتابعها عشرات الملايين كالجزيرة والعربية… وكلهم يقدمون برامج في ذلك وينشرون كتبًا ومقالات وأبحاثًا. ومن الجدير ذكره أن الترويج لهذه المغالطات والضلالات يجري بجدية وبشكل مكثف في معظم بل كل بلاد المسلمين، في البلاد العربية، وفي إندونسيا وماليزيا وباكستان وتركيا وإيران.
إن كل هذه الحروب بشتى أصنافها العسكرية والفكرية والاقتصادية وغيرها، وما يتخذ لها من وسائل وأساليب خبيثة مما يقوم بها الغرب الكافر المستعمر، وفي مقدمته أميركا، وأتباعهم من الحكام المجرمين الخونة، الهدف منها إنما هو محاربة الإسلام السياسي والعاملين له بجد وإخلاص.
إن الحرب على الإسلام عالمية وشاملة ويقودها محترفون. وهذا يقتضي مواجهة شاملة يستثمر فيها كل ما يمكن من طاقات. وهذا يوجب كشف هذه الحرب للمسلمين كافة بجبهاتها وخططها.
صحيح أن الغربَ في ميزانِ الحروبِ العسكرية والمادية يكسب، أما في مجال الصراع الفكري الحضاري فإن الإسلام هو الذي يتقدمُ، والغربُ يزيدُ سقوطًا وإفلاسًا. ويخطئُ من يظنُّ أن الغربَ قد انتصر، هو فقط يؤخرُ ظهورَ الإسلام، ولن تتوقفَ حروبُه العسكريةُ ضد المسلمين حتى تُحسَمَ الحربُ الفكرية الحضاريةُ لمصلحة هذا الدين العظيم. ومن هنا فإن الغربَ عندما يهاجمُ المسلمين والإسلام إنما يهاجِمهم وهو في موقف الضعفِ والخوفِ من سقوط حضارته، وليس كما يحاولُ أن يزيفَ الحقائقَ ويصورَ نفسَه أنه المنتصر، والخطرُ، كلُّ الخطر، أن يصدقَّه المسلمون. إذًا فالحرب مفتوحةٌ بينه وبين المسلمين في مشروعِهم الإسلامي، وهو إقامة الخلافة.
وهنا لا بد من لفتِ النظرِ صراحة، إلى أن ما يقومُ به الغربُ من عملٍ دؤوبٍ وجادٍّ ومجرمٍ لمنع قيامِ الخلافةِ إنما المعنيُّ الأولُّ منه هو العاملون لإقامة الخلافة، وحزب التحرير تحديدًا باعتبارِ أنه الوحيدُ القائمُ على هذا الهدف. وفي المقابلِ، فإن على الحزبِ قيادة هذه المواجهة، وجعل الأمة تنقاد له في هذه المواجهة، فمشروعُ إقامة الخلافة هو مشروعٌ حصريٌّ للحزب، وفي هذا فضل وإكرام من الله سبحنه وتعالى.