مع القرآن الكريم
(لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ لِلۡفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ لَا يَسَۡٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ ٢٧٣ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٢٧٤ ).
جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه
عطاء بن خليل أبو الرشته
أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:
1. تستمر الآيات في الإنفاق ولكن الله سبحانه يذكر خلالها جزءًا من الآية كأنه في ظاهره لا علاقة له بالإنفاق.
والمعروف في لغة العرب أن العربي الفصيح لا يكون كلامه على غير نسق، فإن بدأ في كلامه جزءًا على غير اتصال بالسابق واللاحق فإنه يكون مقصودًا، ويكون المتكلم قد أخفى الصلة بين هذا الجزء وباقي الكلام ولم يجعلها صريحة الظهور لتكون مدعـاة للوقـوف عندها للتعـمـق في اكتشافها ولفت النظر إليها بهذا الأسلوب من النظم البديع. وهذه الآية الكريمة، كذلك فإن ما سبقها كان في الإنفاق وما تبعها في الإنفاق، وظاهر مدلول ألفاظها على غير ذلك؛ فيكون التركيز عليها والوقوف عندها لاكتشاف هذه الصلة وتدبرها بعمق مقصودًا لله سبحانه. وبتدبر هذه الآية الكريمة يتبين أننا غير مكلفين بإجبار الناس على الهداية والدخول في الإسلام فليس في مقدورنا ذلك، بل الله يهدي من يشاء. أما نحن فندعو للإسلام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، فإن استجابوا فذلك الفضل من الله، فالله وحده القادر على هداية الناس أجمعين ( وَلَوۡ شِئۡنَا لَأٓتَيۡنَا كُلَّ نَفۡسٍ هُدَىٰهَا ).
وبتدبر هذا المعنى نتساءل الآن عن صلة هذا الجزء من الآية الكريمة مع ما قبلها، مما هو خاصّ بالإنفاق وما بعدها مما هو خاصّ بالإنفاق كذلك.
إن حرص الإنسان على هداية من يحب وإسلامه من قريب أو صديق قد تدفعه للضغط عليه ليكرهه على الدخول في الإسلام، ومن هذه الأساليب استعمال المال في ذلك، فإن كان ينفق عليه قد يمنع عنه النفقة كي يسلم أو يشترط إسلامه للنفقة عليه، فمنع الله المسلمين من استعمال النفقة أسلوبًا لإكراه أقربائهم أو من لهم بهم علاقة للدخول في الإسلام. فتدبر الآية الكريمة والوقوف عندها يفيد أمرين:
الأول: أنَّ الدخول في الإسلام أو الهدى يحتاج إلى قناعةٍ ورضًى واختيارٍ وليس بالإكراه والإجبار.
الثاني: أن لا تستغل النفقة على الأقارب أو من لهم علاقة لإكراه الناس على اعتناق الإسلام. ويؤكد ذلك ما رواه بعض الصحابة في سبب نزول هذه الآية: أخرج ابن جرير عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: “كانوا – أي المسلمون – لا يرضخون لقراباتهم من المشركين فنزلت (لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ )” يرضخون: يعطون شيئًا من أموالهم، أي كانوا لا ينفقون على قراباتهم لأنهم مشركون حتى يسلموا. وفي رواية أخرى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: “كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير وكانوا يتقون أن يتصدقوا ويريدونهم أن يسلموا فنزلت: (لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ )”.
و(يتصدقوا) الواردة في هذه الرواية بمعنى الصلة والنفقة لأن الصدقة قربة إلى الله ولا تجوز لغير المسلم.
وأخرج ابن جرير كذلك عن سعيد بن جبير: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين حتى نزلت: ( ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ ).
وقد ذكر القرطبي عن بعض المفسرين أن أسماء ابنة أبي بكر الصديق أرادت أن تصل جدها أبا قحافة ثم امتنعت عن ذلك لكونه كافرًا فنزلت الآية في ذلك؛وعليه فإن سياق الآيات مستمر بنسق واحد مع التركيز على عدم استعمال النفقة أو منعها لإجبار الناس على الدخول في الإسلام. ومن الجدير ذكره أن عدم إجبار الناس على الدخول في الإسلام لا يعني عدم إجبارهم على النزول عند أحكام الشرع وتطبيق أحكام الشرع عليهم من قبل الدولة الإسلامية، فذلك فرض.
ولقد ذكرنا ذلك في تفسير الآية ( لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ ) فارجع إليه.
ثم يكمل الله سبحانه آياته في الإنفاق فيبين في هذه الآية الكريمة أحكامًا أخرى للإنفاق، فقد سبق أن بيَّن الله أن الإنفاق يجب أن يكون خاليًا من المن والأذى ولا يكون رياء ولا يكون من الرديء من المال. وفي هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه أن من ينفق نفقة فخيرها له فهو الذي سيثاب عليها وتوفى إليه في الدنيا والآخرة وبخاصة وهو ينفقها ابتغاء وجه الله.
( ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ ) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو خطاب لأمته كذلك، والمعنى: لست مكلفًا بإجبارهم على الهدى. ومعنى التكليف آتٍ من ( عَلَيۡكَ ) والهدى: الإسلام.
(وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۗ )أي أن الله سبحانه هو القادر على هداية الناس أجمعين؛ ولكن حكمته سبحانه اقتضت أن يتركهم يختارون ( فَمِنۡهُم مَّنۡ ءَامَنَ وَمِنۡهُم مَّن كَفَرَۚ ) ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ ) ( مَا ) شرطية (مِنۡ ) تبعيضية، أي جزء من خير ( خَيۡرٖ )مال؛ لأن الخير إذا اقترن بالإنفاق فإنه يعني المال، فإن لم يقترن فليس بالضرورة المال بل قد يأتي في غيرها ( فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ ).
( فَلِأَنفُسِكُمۡۚ ) أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم، والفاء داخلة على جواب الشرط.
( وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ ) أي يكون ثوابه لأنفسكم في حال كونكم تنفقونه ابتغاء وجه الله.
( وَمَا تُنفِقُونَ ) لا تنفقون والواو للحال والجملة حال. ( ٱبۡتِغَآءَ ) مفعول لأجله.
( وَجۡهِ ٱللَّهِۚ ) كناية عن ذات الله سبحانه، وفي هذا الاستعمال الإخلاص الخالص لله فإن قولك: فعلت هذا لأجل زيد يحتمل أنك فعلته له وحده أو فعلته له ولغيره، أي فيه معنى الشراكة، فإن قلت: فعلته لوجه زيد كان خالصًا لزيد وحده.
وبذلك ( ٱبۡتِغَآءَ وَجۡهِ ٱللَّهِۚ) أي خالصا لله وحده.
( وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ ) بيان للجملة الشرطية ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَلِأَنفُسِكُمۡۚ ) أي بيان (لأنفسكم) أنه يوفى إليكم في الدنيا والآخرة دون أن تظلموا، أي دون أن تبخسوا من الوفاء شيئًا، فالله هو الموفي وهو خير الحاكمين، في الدنيا بمباركة المال وفي الآخرة بالأجر العظيم: “اللهم اجعل لمنفق خلفًا ولممسك تلفًا“[1] كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2. ثم يبين الله سبحانه أن الأولوية في الصدقات للمنقطعين للجهاد الذين ينشغلون به عن السعي في الأرض طلبًا للرزق، والذين لا يلحون في سؤال الناس حتى لكأنهم أغنياء لتعففهم في السؤال، ولولا ما يظهر عليهم من أثر الجوع في الجسم ورثاثة اللباس لما عرف حاجتهم أحد. فهؤلاء أجر النفقة إليهم عظيم، والله سبحانه بخالص النية في الصدقة عليم.
( لِلۡفُقَرَآءِ ) خبر لمبتدأ محذوف أي صدقاتكم للفقراء، واللام للتعدية أي أن يحرص المتصدق أن تعطى صدقته للفقراء ( ٱلَّذِينَ أُحۡصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ) الذين انقطعوا للجهاد، أي أَحْصَرَهم الجهاد في سبيل الله.
( لَا يَسۡتَطِيعُونَ ضَرۡبٗا فِي ٱلۡأَرۡضِ) أي لا يستطيعون تنقلًا في الأرض للسعي لطلب الرزق لانشغالهم بالجهاد. (فالحصر) هو المنع، فكلّ من شغله الجهاد عن السعي لطلب الرزق أو كلّ من أصيب بجراح في الجهاد جعله لا يقدر على السعي لطلب الرزق تنطبق عليه هذه الآية، ففي الإنفاق عليه أجر عظيم. وهي تنطبق كذلك على من كانوا يسمون (أهل الصُّفَّة) في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانت العلة والجهاد يحبسهم عن طلب الرزق ويخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس – رضي الله عنهما -. فهؤلاء وأولئك لهم الأولوية في النفقة من الفقراء الآخرين الذين لا يحبسهم الجهاد وهم يستطيعون أن يسعوا في الأرض لطلب الرزق.
( يَحۡسَبُهُمُ ٱلۡجَاهِلُ أَغۡنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ ) أي من أجل تعففهم عن المسألة فـ(مِنَ) للتعليل والتعفف ترك الشيء والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه.
(تَعۡرِفُهُم بِسِيمَٰهُمۡ) أي أثر الجوع على الأبدان ورثاثة الحال.
(لَا يَسَۡٔلُونَ ٱلنَّاسَ إِلۡحَافٗاۗ ) أي إلحاحًا، وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطاه، من قولهم: لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده. وأصل اشتقاق الإلحاف من اللحاف، سمي بذلك لاشتماله على وجوه الطلب في المسألة كاشتمال اللحاف في التغطية، أي هذا السائل يعم الناس بسؤاله ويلازمهم حتى يعطوه فكأنه ألحفهم بذلك.
(وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌ) أي يجازيكم به خيرًا، وهو ترغيب في الإنفاق.
3. بعد ذلك يبين الله سبحانه الأجر العظيم والمنزلة الرفيعة لأولئك الذين لا يبخلون بأموالهم في سبيل الله في جميع الأوقات وجميع الأحوال فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ ) أي في جميع الأوقات والأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإشارة إلى مزية الإخفاء على الإظهار.
( فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٢٧٤ ) سبق شرحها.
ذكر ابن سعد في الطبقات أن هذه الآية نزلت في علف الخيل المربوطة في سبيل الله.
وأخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جده عن عريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى:
(ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُم بِٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّٗا وَعَلَانِيَةٗ ) الآية، قال: “هم أصحاب الخيل“[2].
وكلمة أخيرة في هذا الموضوع: إن الله سبحانه بيَّن في الآيات السابقة أجر النفقة في سبيل الله وأنها إلى سبعمائة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم. ثم يبيِّن الله سبحانه شروط النفقة المقبولة عند الله:
= فأن تكون بدون منٍّ ولا أذى: ( لَا تُبۡطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ).
= وأن لا تكون رياء ( كَٱلَّذِي يُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَيۡهِ تُرَابٞ فَأَصَابَهُۥ وَابِلٞ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدٗاۖ لَّا يَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَيۡءٖ مِّمَّا كَسَبُواْۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ ٢٦٤ ).
= وأن لا تكون من الخبيث ( وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ ).
ثم بيَّن الله سبحانه عدم استغلال النفقة والصلة للأقارب وذوي العلاقة لإكراههم على الدخول في الإسلام بل بالإقناع والاختيار ( ۞لَّيۡسَ عَلَيۡكَ هُدَىٰهُمۡ ).
وكذلك بيَّن سبحانه أن النفقة تعود على صاحبها بالخير إذا كانت خالصة لله فليكثر منها لينال الجزاء الأوفى ( وَمَا تُنفِقُواْ مِنۡ خَيۡرٖ يُوَفَّ إِلَيۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ ٢٧٢ ).
ويختم الله سبحانه الآيات في النفقة الطيبة في سبيل الله في جميع الحالات والأوقـات؛ ليحـصـل المرء على الأجر العظيم عند رب العالمين وليكون آمنًا على مستقبله إلى يوم القيامة ومطمئنًا بمغفرة الله له على ما مضى من أيامه، فيكون في فوز الدارين، وذلك الفوز العظيم
( فَلَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ٢٧٤ ).
كل ذلك في النفقة في سبيل الله الحلال الطيبة الخالصة لوجهه سبحانه.
[1] البخاري: 1374، مسلم: 1010
[2] الدر المنثور: 2/100، ابن سعد: 7/433 عن يزيد بن عبد الله بن عريب عن أبيه عن جده عريب.