الحراك في لبنان: ما بين أسبابه الظاهرة وأسبابه الحقيقية الكامنة وراءه
2019/12/24م
المقالات
12,385 زيارة
الحراك في لبنان:
ما بين أسبابه الظاهرة وأسبابه الحقيقية الكامنة وراءه
تفجرت (الثورة) في لبنان لتنضم إلى شقيقاتها من (الثورات) في المنطقة، معلنة رفض الناس للواقع السياسي والمعيشي الذي يُتهم الحكام بتسببه، وكان شعارها الأبرز الذي أعلنته «كلن يعني كلن» ويعني أن الشعب يريد إسقاط السلطة الحاكمة كلها من أولها إلى آخرها، لا فرق بين من هو في المعارضة أو في الحكم، واستعادة الأموال المنهوبة منهم. وهو شعار يوازي الشعار الذي رفعته الثورات الأولى التي انطلقت سنة 2011م وهو (الشعب يريد إسقاط النظام) ولا يختلف عن سائر الشعارات التي أطلقت مؤخرًا في السودان والجزائر والعراق من مثل: (تسقط بس) أي تسقط الحكومة فقط، و(سلمية سلمية ضد الحرامية) و(الشعب يريد إسقاط الأحزاب) أي الأحزاب التي تتداول الحكم في العراق، و(اتفقنا على أن لا نتفق معكم) أي الحكام والأحزاب الحاكمة.
ما بين تسميتها (ثورة) أو (حَراكًا)، فقد كان الحراك في لبنان عابرًا للطوائف، جمع الناس من كل طيف ليثوروا على حكامهم من كل طيف. وهو قام ضد طبقة الحكم السياسية كلها (معارضة وموالاة) لتعبر عن معاناة الجميع معاناة حقيقية في المعيشة وعلى كل صعيد، وتكشف تقصيرًا للدولة فاضحًا في تقديم الخدمات، واستهتارًا بتأمين أقل ضرورات الحياة، وتحمِّل حكام البلد مسؤولية ذلك متهمة إياهم بالتصرف في البلد وكأنه مزرعة لهم، وأن اعتداءهم على مصالح الناس واستهانتهم بكراماتهم قد طغا حتى طفح الكيل ولم يستطيعوا معها أن يتحملوا المزيد، وقد اتهموا الطبقة الحاكمة بالفساد واختلاس المليارات من المال العام ونهبه، وإيصال البلد إلى الإفلاس طالبة بمحاكمتهم واسترجاعه…
وهذه الكلمة لن تركز على التحليل السياسي لواقع هذا الحراك ومجرياته، وإنما ستركز على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى اندلاعه. وهذه الأسباب إذا لم تدرك فسيضيع هذا الحراك، وسيتلقف ثمارَه أعداؤه، وستراوح الأوضاع المعيشية السيئة مكانها، أي سيسقط في اليد الأخرى للذين قام الحراك ضدهم، وبالتالي لن يغير من الواقع السيئ شيئًا. فإدراك هذه الأسباب وأخذها بعين الاعتبار في التحرك هو الذي سيجنبه الوقوع في هذا الزلل.. فهذا الحَراك ابتدأ مخلصًا، وهذا أمر يحسب له؛ ولكن كما درجت العادة، فهناك من سيحاول خطفه، وهؤلاء يمتلكون باعًا طويلًا من المكر والكيد، وقد نجحوا من قبل في إجهاض الثورات عن طريق ما سمي بـ (الثورات المضادة)، وكانوا مما تسمَّوا به خداعًا (أصدقاء الثورات). فتدرع القائمين على الحَراك بالوعي الحقيقي سيمكنهم من معرفة العدو من الصديق. وسيجعلهم يعلمون ويتعاملون مع حقائق الأمور لا مع ظواهرها، ومع لبِّها لا مع قشرتها. وسنتناول في هذه الكلمة ثلاثة أسباب هي:
أولًا: إن من يقوم بمثل هذا الحراك رافضًا للواقع السياسي الذي يعيشه وللسياسيين الذين يحكمونه، لا بد له من أن يكون في رأس سلم مطالبه البحث عن النظام الصالح الذي يستطيع تأمين حياة جميع الناس بشكل صحيح. فلا يجب أن يأخذه استشراء ظلم السياسيين عن التفكير في سوء النظام الذي يحتكم إليه. فالمطلوب الأول من الناس هو البحث في هذه النقطة الأساسية، وأن لا يشغلهم الواقع السيئ الذي يعيشونه عما يمكن أن يكون هو سبب إيجاده. فهو إن انشغل بمعالجة الواقع السيئ فقط، يكون قد انشغل بمعالجة النتيجة دون معالجة السبب، وإن انتبه إلى وجود المشكلة بالنظام يكون قد تعامل مع السبب الذي أوجد هذا الواقع السيئ الذي ثار عليه؛ وعليه فيجب أولًا البحث في النظام الدستوري هل هو صحيح أم لا.
أما بالنسبة لنظام الحكم في لبنان هو نظام ديمقراطي ويراعي التوزيع الطائفي، وهذا النظام فاسد من هاتين الجهتين:
جهة كونه ديمقراطيًا وهذا يتطلب البحث في فساد فكرة الديمقراطية على الصعيد الفكري، وفشلها على صعيد تطبيقها في العالم. فالديمقراطية هي سبب، ليس فشل الحكم في لبنان فقط بل في العالم أجمع، والفكر الديمقراطي الذي يحكم العالم اليوم، هو المسؤول عن كل المآسي التي تطال العالم، وهو المسبب لشقاء البشرية ولانتشار الحروب والفقر والظلم وتحكم الغني بالفقير وإفراز طبقة حكم فاسدة متغوِّلة في كل بلد من بلاد العالم وليس في منطقتنا فقط، وطبقة رأسمالية تتحكم بمفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تبدأ من حكام الدول الرأسمالية نفسها وتمتد إلى حكام منطقتنا عبر عمالتهم لحكام الغرب واتخاذهم أسلوب الاستعمار المقنع. وسنأتي لاحقًا على ذكر تأثير هذا الجانب على حياة الناس في لبنان…
جهة كونه يراعي التوزيع الطائفي في الحكم والمحاصصة، وهذا ما زاد الأمر سوءًا؛ إذ إنه، فوق كون نظامه نظامًا ديمقراطيًا فاسدًا، جعل من لبنان بلد محاصصة طائفية بامتياز، وزاده سوءًا كذلك أنه بدل أن تتوزع الحصص على الكفاءات في الطوائف، توزعت على المحسوبيات التابعة لزعماء كل طائفة، واختصرت الطائفة بزعيمها ومن هو تابع له نهبًا ومحسوبيات، وحصرت المنافع بهم مع حرمان باقي أفراد الطائفة منها…
وهنا لا بد من التذكير بأن النظام الطوائفي في لبنان هذا اصطنعته دولة فرنسا الديمقراطية الرأسمالية من أجل أن تضمن مصالحها في المنطقة، وهنا نذكر الناس بما قاله غورو في فترة تأسيس لبنان من أن فرنسا وجدت طوائف في لبنان وهي التي أوجدت دولة لهم. فالطائفية صناعة غربية بامتياز، وها هو العراق مثل حي أمامنا؛ إذ يعيش اليوم في نظام طائفي اصطنعته أميركا لتضمن تقسيمه متى أرادت والتحكم فيه وإبقائه ضعيفًا، وإثارة المذهبيات بين فئاته بشكل دائم لتمنع وحدتهم على أساس الإسلام. وكلنا يقرأ كيف أن كلًا من بريطانيا وفرنسا هما من بثتا الفتن الطائفية في أركان الدولة الإسلامية زمن العثمانيين فيما سمي بالمسألة الشرقية والمسألة البلقانية، ثم دخلت على هذا الخط سائر الدول لتضرب فكرة الرعاية والرعايا التي كانت هي المنتشرة في أرجاء الدولة الإسلامية. فالدولة الإسلامية كانت متخطية لهذا الجانب وكانت تتعامل مع المحكومين منها على أنهم رعايا كاملو الحقوق في الحياة العامة.
ثانيًا: إن بلاد المسلمين، ولبنان جزء منها، هي تابعة في سياستها العامة لإحدى الدول الكبرى التي تتحكم بسياستها وبسياسييها الذين تأتي بهم إلى الحكم ليحققوا لها مصالحها ويسيروا بحسب سياستها العامة في المنطقة، فهؤلاء هم واجهة تتخفى وراءهم دول الغرب المتحكمة على المسرح الدولي، فبحسب الرائي يبدو الحكام وكأنهم هم المسؤولون الوحيدون عما يقع به البلد من أزمات سياسية واقتصادية من دون أن ينتبه لوجود آمرٍ ناهٍ لهم، لا يخرجون عن إرادته أبدًا. وهذا الآمر الناهي متمثل بالدول الغربية الرأسمالية المستعمرة، وهذه تعتبر في الحقيقة هي المسؤول الأول عن تسبب هذه الأزمات. هذا الأمر يجب أن يعي عليه الناس حتى لا يغشوا بمواقف بلاد الغرب التي تظهر الحرص على مصالح الناس، وحتى لا يصدقوا دعواهم أنهم يريدون إنقاذ البلد، وأنهم يريدون تقديم المساعدات له عن طريق (سيدر) وغيرها من الطرق الاستغلالية وليس الإنقاذية، فهؤلاء هم من صنعوا الأزمات في العالم، ومنها الأزمات التي يعيش فيها لبنان. ومن العجيب المضحك هو ما نراه في فرنسا التي تدعي النجدة، فهي نفسها تقوم فيها حركات احتجاجات معيشية مقلقة لها، وهي احتجاجات ما يسمى بأصحاب السترات الصفراء. إن النظام الرأسمالي هو نظام أفراد وشركات رأسمالية غربية فاحشة الثراء تتحكم بطبقة الحكم في الغرب، وهذان مع بعضهما يتحكمان بمصائر الدول والشعوب الأخرى بمن فيهم شعوبهم. ولو علمت الشعوب الغربية ذلك لثارت على حكامها ونظامها الرأسمالي المتغوِّل، وهي قد فعلت ذلك بعد اندلاع ثورات ما يسمى «الربيع العربي» التي انطلقت سنة 2011م، إذ قامت فيها تظاهرات احتجاجية عمت حوالى ألف مدينة في أميركا وأوروبا؛ ولكن سرعان ما أطفؤوها.
وفي هذا المجال يذكر أن هناك سياسة عامة لدى الدول الغربية الرأسمالية المتحكمة بدول العالم، وهي أن تقوم بإغراق هذه الدول وشعوبها بالديون. وعليه، فإن ما يوقِع به حكام المنطقة شعوبهم من أزمات اقتصادية وديون بعشرات المليارات… هذا كله خاضع لسياسة ثابتة لدول الغرب المتحكمة من وراء حجاب بهؤلاء الحكام، إنه استعمار مقنَّع. ولبنان بدوره هو خاضع لهذا مثله مثل غيره من بلاد المسلمين… فقد جاء في تقرير المؤسسة العربية «ضمان» أن حجم الديون الخارجية لعشرين دولة عربية تجاوز عتبة التريليون دولار حاليًا بزيادة قدرها 134.5% عن معدلات ديون بلغت 426 مليار دولار عام 2006، وجاء في التقرير «أن لبنان يأتي ضمن الدول الأكثر مديونية في العالم بتوقعات أن تصل نسبة الدين هذا العام إلى 152% من حجم الناتج المحلي الإجمالي وفقًا لصندوق النقد الدول. فبالله عليكم، هل يعقل أن يبلغ نصف الدين العام في لبنان هو بسبب تأمين، أو قل عدم تأمين الكهرباء في لبنان، وهو بلد لا تبلغ مساحته مساحة محافظة من محافظات الدول المجاورة له؟ إن هذا ليس له إلا تفسير واحد، وهو أنه يصب في خانة سياسة إثقال الشعوب بالديون، ومصرف لبنان وحاكمه هو جزء من هذه السياسة.
إن سياسة الإقراض هذه التي تتبعها الدول الغربية الغنية الاستعمارية مع كل الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل هي سياسة تؤدي إلى إفقار الشعوب، ورهن مقدرات البلاد لسنوات طويلة وممتدة للجهات الدائنة، وتؤدي إلى إنهاك ميزانية الدول المــَدينة، والقضاء على كل تنمية فيها بحيث تنشغل بإيفاء الديون ذات الفوائد التي تتحول إلى فوائد مركبة نتيجة العجز؛ ما يؤدي إلى دفع الدين أضعافًا مضاعفة مع بقاء أصل الدين، وهذا ما يقضي على كل تنمية فيها حين تذهب معظم هذه الميزانية إلى نادي الدول الدائنة… فتصوروا كم هي نسبة الفوائد الربوية لمبلغ التريليون الدولار التي على المسلمين أن يدفعوها كل عام! وتصوروا كم تساهم هذه الفوائد في تأزيم أوضاعهم الاقتصادية. وعندما نرى كم يحمل تدخل البنك الدولي من أجل تحصيل الديون، أو إعادة جدولتها في حال عجز هذه الدول عن هذا الإيفاء، من أثر سلبي على الدول المــَدينة الواقعة تحت عجز الإيفاء؛ ما يجعل الأوضاع تتفاقم وخاصة لجهة رفع الدعم عن المواد والخدمات التي تستفيد منها الفئات الفقيرة، وهذا من أكبر الدوافع التي تدفع إلى إشعال الثورات. وعليه فالمتسبب الأول لهذه الثورات هو دول الغرب، وما حكام المنطقة إلا أدوات قذرة بين يديه الآثمتين. وكلامنا هذا يؤيده ما نشره موقع (أوريان21) مؤخرًا من مقال لكاتبين فرنسيين خبيرين في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهما آلان غريش وجان بيير سيريني، فقد جاء في مقال مشترك لهما بعنوان: «الثورات العربية… ما العقبات التي تعترض تطلعاتها؟ وماذا يقول التاريخ عن مآلاتها؟» فقد جاء فيها تحت عنوان جزئي «تأثير العولمة والمؤسسات الاقتصادية الدولية» ما يلي: «وعلى الصعيد الدولي، كان تأثير العولمة وانتصار الليبرالية الاقتصادية الجديدة (النيوليبرالية) قد فرضا «إجماع واشنطن» وخطط صندوق النقد الدولي طريقًا وحيدًا للتنمية» وعبارة: «ما من بديل آخر!»، هو ما كانت تعلنه رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر على الملأ. وباتت الخطط المعدة في مطبخ صندوق النقد الدولي التي يصدق عليها كل من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي تُفرض على البلدان دون أية شفقة، كما باتت النخب [الحاكمة] توجّه أنظارها باتجاه واشنطن، فتخلّت عن المطالب القومية «التي عفا عليها الزمن» من قبيل دعمها للقضية الفلسطينية، ولم تصبح الحريات العامة أفضل حالًا من ذي قبل؛ لأن الشرطة السياسية ظلت تتحكم بكل الأنشطة السياسية» هذا بحسب الكاتبين. وهنا يقول غريش وسيريني إن «هذا النموذج النيوليبرالي المرتكز على التجارة الحرة كان له أثر فادح على الشعوب، إذ لم يضطلع القطاع الخاص بمهام القطاع العام، بل استثمر كل ما نهبه في الملاذات الضريبية، ما جعل الملايين من الشباب من ذوي المؤهلات المهنية والذين لم يجدوا فرص عمل لائقة في بلادهم يهاجرون مجازفين بحياتهم أحيانًا». إنه كلام ينطبق على الواقع تمام الانطباق، محملًا الغرب مسؤولية نشوب الثورات.
والسؤال الذي يطرح هنا بشكل تلقائي وهو: إن دفع عشرات بلاد المسلمين لعشرات مليارات الدولارات كل سنة خدمة لديونها، ألا يأتي ذلك على حساب تدني معيشة الناس، وقطع كل تنمية في البلد، وتأخر الخدمات، وتعقيد الحياة على كل الصعد؟ ألا يشكل هذا دافعًا لثورة الناس على أوضاعهم السياسية المفروضة عليهم. هذا ما يجب أن يعلمه الناس حين يثورون، وإذا غفلوا عنه وصدقوا أن الغرب بريء من هذا الإجرام وراحوا يطلبون مساعداته؛ فهذا لا يعني إلا أن الغرب سيبقى قابضًا على الأوضاع التي صنعها، بل ستزيد قبضته. ولعل هذا ما أشارت إليه بعض شعارات المتظاهرين الثائرين على هذه الأوضاع في الجزائر من مثل قولهم: (لا واشنطن ولا باريس، الشعب يخيّر الرئيس) أي يختار الرئيس. و(العالم يتساءل: ماذا يحدث في الجزائر؟ الشعب يرد: إننا ننظف قمامة فرنسا من بلدنا).
ثالثًا: ثم يأتي دافع آخر لحدوث الثورات ليكمل المشهد بشكل مشمئز ومستفز غاية الاشمئزاز والاستفزاز، وهو عامل الحكام السيئين غاية السوء الذين لم يكتفوا بوضع أيديهم على أموال شعوبهم يسرقونها، بل مكَّنوا حتى أقاربهم منها؛ فأوقعوا البلاد في ديون مضاعفة، وكلنا شاهد صور الثروات الخيالية للحكام الذين تمت إزالتهم عن عروشهم (زين العابدين بن علي، وعلي صالح، وعمر البشير) من الذهب والأموال السائلة؛ حيث تم عرضها بعدما تم وضع اليد عليها مخبأة في قصورهم، هذا مع العلم أن ما عرضوه هو قليل من كثيرٍ مودعٍ في البنوك الخارجية تحت حسابات مصرفية سرية، وحسابات مشفَّرة، باسمهم واسم أقاربهم. وما يجدر ذكره في هذا المجال هو أن هذه الأموال مودعة في البنوك الغربية ومحمية منها، وهي بعلم الدول الغربية ومسكوت عنها من قبلها ما يجعلها شريكة في جريمة السكوت عن سرقة الحكام لشعوبهم، وحتى ما تدعيه فرنسا من نيتها مساعدة لبنان عبر مؤتمر سيدر فإنما هذه المساعدة هي لزيادة إغراق لبنان في الديون. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا يسكت حكام الغرب عن جرائم سرقة عملائهم من حكام المنطقة لشعوبهم ولا يفضحونهم إن كانوا صادقين.
وهناك أمر لافت كثيرًا، وهو أن أزمة لبنان تنشأ في الوقت الذي يعلن فيه أنه عما قريب سيكون بلدًا نفطيًا بامتياز؛ ما يعني أنه لا داع لكل هذا الهلع والتهديد بإعلان إفلاسه؛ ولكن يبدو أن دول الغرب، وتحديدًا أميركا، تريد إغراق لبنان بديون خيالية لتتم سرقته من أموال النفط. وهذا ينسجم مع سياسة الغرب المتبعة بإفقار المنطقة وإشغالها بنفسها عن التنمية والنهوض المادي. ولو أخذنا العراق مثلًا على ما نقول لوجدنا أنه من أغنى البلدان النفطية، ومع ذلك هو يقبع بديون مقدارها عشرات المليارات، وحكامه يرتعون بعشرات المليارات المنهوبة، بل إن بعضهم يرتع كل واحد منهم بنهب عشرات المليارات. ألا يلفت هذا نظر الناس إلى أن الغرب هو السبب الأساس في مآسينا؟ أليس هؤلاء الحكام هم من فرضهم الغرب علينا؟ انظروا إلى حكام العراق، من أتى بهم إلا أميركا؟ وحكام سوريا من منع سقوطهم إلا أميركا؟ وحاكم مصر السيئ الذكر ألم يصرح ترامب أنه ديكتاتوره المفضل؟ وحاكم السعودية ابن سلمان من حماه ومنع إثارة قتله لجمال خاشقجي على مسرح القضاء الدولي، أليس ترامب؟ وها هي إيران من مكَّنها في العراق وسوريا ولبنان إلا أميركا، صحيح أنها اليوم تفرض عقوبات عليها؛ ولكن ليس من أجل إسقاطها بل فقط من أجل تعديل سلوكها، وهذا ما يصرح به مسؤولوها، وهذا إن دل فإنما يدل على تبعية النظام الإيراني لأميركا؛ إذ هي تريده أن يبقى في الحكم لأنه تابع لها.
هذه أسباب حقيقية لا بد من النظر من خلالها لفهم ما يجري على الساحة اللبنانية وبالتالي معالجته. وباختصار إن الغرب هو القابض على الأوضاع في دول المنطقة، وهو يأتي بالحكام، وهو والحكام هم المسبِّبون لكل ما وصل إليه مستوى حياة الناس من انحدار. وإن النظام العالمي الرأسمالي الذي يحكم الغرب به دول المنطقة، بل دول العالم، قد ترجمه في كل دولة بدستور علماني يخضع للقوانين الدولية والمؤسسات الدولية من مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، التي يستعملها الغرب من أجل فرض سياساته على دول العالم. وهذا الدستور لا يصلح لأن يوجد الحياة المطمئنة والمستقرة والهانئة والمتنعمة، بل يؤمن مصالح الأغنياء الأقوياء على حساب الفقراء الضعفاء، وما قيام الثورات إلا رجع للأوضاع المأساوية التي خلفتها هذه السياسة الغربية في المنطقة. إنها منظومة الشر التي تتحكم بدول العالم اليوم.
في مقابل كل ذلك، نقول إن العلاج يكون بنظام عالمي إنساني صالح، فيه معالجات لكل مشاكل الإنسان، ويكون غير النظام الرأسمالي الفاشل والظالم. إنه النظام الإسلامي الرباني المجرب سابقًا، والقادر وحده حاضرًا على معالجة كل مشاكل البشر عبر دولة إسلامية هي دولة الخلافة، التي تجمع دول المنطقة في دولة واحدة وينعم بحكمها الراشد وبعدالتها المسلم وغير المسلم سواء بسواء، والتي تومن الحياة الكريمة لجميع رعاياها من دون استثناء، والتي لا تعترف بما يسمى الأقليات.
إن أهل هذه المنطقة، مسلمين وغير مسلمين، كما شعوب العالم، أمام نظام عالمي ظالم فاجر متغوِّل متوحش… ويجب أن يزول، وفي حاجة إلى نظام عالمي جديد بديل صالح، يرفع من قيمة الإنسان كإنسان، ويؤمن له حقوقه بشكل عادل. ولو نظرنا إلى الواقع، فليس سوى الإسلام من يملك هذه المقومات الحضارية، وعلى المسلمين أن ينطلقوا بالدعوة إلى هذا بكل قوة وجرأة وصراحة، وبالحكمة وبالموعظة الحسنة… فهذا هو السبيل الوحيد للخلاص.
وفي نهاية هذه الكلمة لا بد من ذكر أنه يلاحظ أنه في الموجة الثانية من الثورات تحرص كل من أميركا ودول أوروبا على استبعاد الطرح الإسلامي بعد ما تعتبره نجاحًا لها في تشويه الإسلام عبر ما عرف بتنظيم الدولة ومهاجمة إسلام الحكم ومحاربته عبر ما يطلقون عليه من مصطلح (الإسلاموية)…
إننا نعلن أن لا حل إلا بالإسلام كدين عقيدته سياسية ينبثق عنها نظام، دين حضارته إنسانية يعالج مشاكل البشرية كلها وينهي أزماتها التي خلفتها لهم تلك الرأسمالية البغيضة التي لا ترحم أحدًا، حتى ولو كان من أهلها… فالإسلام هو كلمة الصدق الذي يجب أن يؤوب الناس إليها، مسلمون وغير مسلمين، وأن تلتقي عفويتهم معها، لا مع ما يطرح على أرض الواقع من حلول ترقيعية، ولا مع ما يُلجأ به إلى الغرب الذي هو سبب الداء وعن سابق تصور وتخطيط وليس هو الطبيب المداوي… نعم الإسلام هو السبيل الوحيد للخلاص ولا سبيل غيره. قال تعالى: (قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) .
2019-12-24