هل حقًّا (كما تكونون يولَّى عليكم)؟
2018/11/27م
المقالات
7,198 زيارة
هل حقًّا (كما تكونون يولَّى عليكم)؟
أبو نزار الشامي
من المفاهيم المضلِّلة التي سعت عمائم الطاغوت إلى زرعها في عقول الناس هو أن المسؤول عن فساد الحكام هو الأمة!! فإنْ ظلمَ الحاكم وجار، صوَّبنا أصابع الاتهام إلى المظلوم وقمنا عليه نجلد ظهره!! ولا يقتصر أثر هذا المفهوم المضلِّل على مجرد إخراج الطاغوت من قفص الاتهام ووضع الأمة مكانه، بل هو يحميه من أية مساءلة مستقبلية، ويُبقي ظلمه ساريًا مستشريًا؛ إذ يطرح هذا المفهوم حلًا واحدًا لإزالة ظلم الظالمين، وهو أن نوطد علاقتنا مع الله وننتظر… فإن بقي حكامنا في غيهم أو ازداد؛ فإنها إشارة على أن عبادتنا الفردية ليست كافية، وفساد طويتنا لم تتغير بدليل بقاء هؤلاء!!… وعليه، فمقياس صلاح الأمة عند هؤلاء هو صلاح الحكّام، ودلالة ظلم الحكّام هو ظلم الرعية…
هكذا، وبمنتهى البساطة، تُكفُّ كل يد تمتد إلى الحكّام بالتغيير، ويُقطع كل إصبع يشير إليهم بالاتهام، بل توجَّه كل السِّهام إلى صدر المـُعتدى عليه حصرًا.
فهل حقًّا كما نكون يولَّى علينا؟
إن كان الأمر كذلك، لماذا قام الأنبياء في وجه فرعون والنمرود وأبي جهل؟!
لماذا لم يتهم عبد الله بن الزبير مسلمي الحجاز في علاقتهم مع الله عندما وقف في وجه يزيد؟
لماذا لم يقل الحسين لأهل مكة والكوفة (كما تكونون يُوَلَّى عليكم) بدل أن يقوم لمواجهة ظلم حكامهم…؟
والحقيقة هي أن هذا النص الضعيف ما كان ليشتهر هذا الاشتهار لولا الأيادي السوداء التي تعبث بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وتكذب عليه جهارًا نهارًا.
فهذا الحديث قد ضعفه غير واحد من أهل العلم، منهم من المتقدمين الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، ومن المتأخرين الشيخ الألباني رحمه الله، فقد جمع طرقه في سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/490، وحكم عليه بالضعف. ثم قال: “والواقع يكذبه، فإن التاريخ حدثنا عن تولي حكام أخيار بعد حكام أشرار والشعب هو هو”. بل قال الشوكاني (في إسناده وضَّاع، وفيه انقطاع).
أما من ناحية المعنى فيناقض هذا الفهم صريحُ القرآن وصحيحُ السنة وثابتُ نهج سلف الأمة وخلفها، هذا بالإضافة إلى الواقع المشاهد والتاريخ الذي يقرر بأن الفساد يضرب الرأس ثم يسري إلى الأطراف فيفسدها عضوًا عضوًا، ولا يشفى الجسد بمعالجة الأطراف ما لم يعالج الرأس ابتداء.
أدلة القرآن:
يوضِّح القرآن هذا المعنى بشكل بَيِّن في قوله تعالى: ﴿ وَأَضَلَّ فِرۡعَوۡنُ قَوۡمَهُۥ وَمَا هَدَىٰ ٧٩﴾، وفي قوله سبحانه: ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعۡنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلَا۠ ٦٧ رَبَّنَآ ءَاتِهِمۡ ضِعۡفَيۡنِ مِنَ ٱلۡعَذَابِ وَٱلۡعَنۡهُمۡ لَعۡنٗا كَبِيرٗا ٦٨﴾، وفي قوله جلَّ ثناؤه: ﴿ يَقۡدُمُ قَوۡمَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَأَوۡرَدَهُمُ ٱلنَّارَۖ وَبِئۡسَ ٱلۡوِرۡدُ ٱلۡمَوۡرُودُ ٩٨﴾؛ ولذلك نجد تركيز القرآن على اللقطات التي تسطر وقوف الأنبياء وأتباعهم في وجه ملوك السوء تحديدًا، فتبرز مناظرة سيدنا موسى لفرعون وسحرته، ومجادلة إبراهيم للنمرود وآله، وتحدي شباب الكهف للملك دقيانوس وجنده… ولم يقل أحد هؤلاء الأخيار لقومه إننا بُلينا بالفراعنة بسبب معاصينا، والسبيل الوحيد للتخلص منهم هو أن نغلق علينا أبواب بيوتنا، ونعبد الله في خاصة أنفسنا!!… وبالطبع فإن أصحاب هذا الطرح عندما يتكلمون عن عبادة الله فهم لا يعنون إلا العبادة الفردية في البيت أو المسجد، فلا يتكلمون عن أوامر الله التي توجب محاسبة أمراء السوء، ولا عبادة تحكيم شرائعه… وكأن هذه الأمور مستثناة من العبادة المطلوبة في مواجهة ظلم الحكام.
أدلة السُّنَّة:
أما السنة، فذاخرةٌ سيرةُ النبي صلى الله عليه وسلم بمواقف العزة التي توجب الخروج على الظلم ومحاسبة أهله، قال صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيت أمتي تهاب، فلا تقول للظالم يا ظالم، فقد تودع منهم” رواه الحاكم في المستدرك. كما تشير الأحاديث الصحيحة إلى أن جور الحاكم ينسحب على سائر واجبات الدين فيحلها وينقض عراها. وقال صلى الله عليه وسلم: “لتنقضنَّ عُرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة” أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعجم الكبير وابن حبان في صحيحه.
وكان صلى الله عليه وسلم يكثر في رسائله إلى الملوك من قول: “أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإنما عليك إثم الأريسيين… أو إثم القبط…أو إثم القوم الذين يحكمهم هذا الملك” وفي هذا بيان لا يبقي شبهة لمشتبه بأن إسلام الملك سيؤدي إلى إسلام قومه فينال الأجر مرتين (أجره وأجر قومه الذين أسلموا بإسلامه)، وبأن ضلاله سيضل قومه أيضًا فينال إثمه وإثمهم.
ولعل الواقع المــُشاهَد، والذي لا يكاد يحتاج إلى تدليل هو أن الحاكم إذا كان فاسدًا فإنه لن يقرب إلى بلاطه الفقهاء ولا الأتقياء، إنما سيتخذ من أهل الجور والهوى وعبدة المال وزراء وقرَّاء ومستشارين، أما إعلامه فبداهة لن يسلط الأضواء على الدعاة والمجاهدين ولا أهل القرآن، بل سيعلي شأن الماجنين والماجنات، الأحياء منهم والأموات…! وسيُظهر الشعب كأنه شعب راقص فاجر مهما كان فيهم صالحون مصلحون.
ولنأخذ مصر مثلًا، فقد كانت بلدًا نصرانيًا، فتحها عمرو بن العاص فصارت إحدى أبرز حواضر الإسلام، وبعد تولي العلمانيين حكمها غدت بلدًا علمانيًا بالرغم من ملايين المسلمين فيها. والحال نفسه ينطبق على تركيا، البلد الذي انتقل من النصرانية إبان القسطنطينيين، إلى أن أصبح عاصمة دولة الخلافة في حكم الخلفاء، واليوم هو رمز من رموز العلمانية بعد أن غير حكمه أتاتورك وأتباعه!!!
أدلة من عهد الراشدين:
هذا وقد فهم أعظم تلامذة الرسول صلى الله عليه وسلم منه هذا الأمر جيدًا؛ فسطروه في أجمل مواعظهم وأجلِّ دروسهم.
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه:
من ذلك ما رواه البخاري عن قصة المرأة الأحمسية التي التقت الخليفة أبا بكر رضي الله عنه فقالت “ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم..) وقد شرح ابن حجر هذا الأثر عن أبي بكر فقال: قوله: “أئمتكم” أي لأن الناس على دين ملوكهم، فمن حاد من الأئمة عن الحال مال وأمال.
الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه:
أما الفاروق عمر فقد أوضح هذا المعنى في عدد من النصوص، نقتطف أهمها:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “توشك القرى أن تخرب وهي عامرة، قالوا: كيف تخرب وهي عامرة ؟ قال: إذا علا فجَّارُها أبرارَها، وساد القبيلةَ منافقوها”.
وقال أيضًا “إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا مُسْتَقِيمِينَ مَا اسْتَقَامَتْ لَهُمْ أَئِمَّتُهُمْ وَهُدَاتُهُمْ”.
علي رضي الله عنه:
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أيضًا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدما أن أرسل إليه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غنائم الفرس على كثرتها وعظمتها: “إن عمر لما نظر إلى ذلك قال: إن قوماً أدوا هذا لأمناء. فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعت”.
هذا كان فهم الراشدين السابقين من سلف الأمة المبارك الذي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنتهم، وأن نعضَّ عليها بالنواجذ، فما بال أدعياء اتباع هذا النهج اليوم قد غيَّروا وبدَّلوا وحادوا عن النهج؟!! أما فهم اللاحقين فلم يختلف عن جادة السلف في شيء:
يروي الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية مقطعًا يُبرز تأثر الشعب بحاكمه خيرًا إن كان من أهل الخير، أو غير ذلك إن كان غير ذلك. يروي عن حكام بني أمية فيقول: “وكانت همة الوليد في البناء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول :ماذا بنيت؟ ماذا عمرت؟. وكانت همة أخيه سليمان في النساء، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول: كم تزوجت؟ ماذا عندك من السراري؟. وكانت همة عمر بن عبد العزيز في قراءة القرآن وفي الصلاة والعبادة، وكان الناس كذلك يلقى الرجل الرجل فيقول:كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم ؟ماذا صليت البارحة؟…”.
الشعب نفسه يتغير بتغير همم حكامه!! ومما تقدم يتبين كم للراعي من تأثير على الرعية، فالدولة تهيمن بمفاهيمها ونظمها على جميع مرافق الحياة فيصطبغ الناس بصبغتها أو يُجبرون…
وأخيرًا ينتصب الإمام ابن تيمية رحمه الله ليؤكد نفس الفهم الذي حفظه من سلف أمته فيقول في مجموع فتاويه: “ومعلوم أنه إذا استقام “ولاة الأمور” الذين يحكمون في النفوس والأموال استقام عامة الناس.
كل ما سبق يوضح جلية الأمر، ويبين أن أصل فساد الأمم هو حكامها وسادتها، وهم مصدر صلاحها إن صلحوا. وإن تحميل بعض الخطباء والدعاة والمصلحين المسؤولية على الناس بأنهم هم سبب ما بهم من شقاء وظلم وبعد عن دين الله، فيه ظلمٌ وتجنٍّ كبيرٌ على الناس لصالح هؤلاء الحكام الذين يندر أن يمسهم أحد بكلمة أو نصح وتوجيه، ولعلَّ ما صح عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، يحسم الأمر
هذا ولا تعارض البتة بين هذا الهدي النبوي وبين قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعۡضَ ٱلظَّٰلِمِينَ بَعۡضَۢا بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ ١٢٩ ﴾ فالله سبحانه يقرر واقعًا ثابتًا، وهو أن الظالمين أمة من بعض، لا يتولى الظالم إلا ظالم مثله، ولكن ما شأن المظلوم الذي يكتوي بنار هذا الظالم وأوليائه وأعوانه؟!! هل نحكم عليه أم نعينه على رفع الظلم وتغيير الطغمة التي تأكل حقه، وتعطِّل شرع ربه، كما هو توجيه الرسول صلَّى الله عليه وسلم، ودأب أعلام الأمة ورجالها؟!
ما أكثر الشبهات التي يُلقي بها الطغاة فيزرعها علماؤهم عراقيل في طريق الأمة للتغيير!!
اللهم عليك وحدك التكلان، وأنت وحدك المستعان، اللهم لا تدع عقبة في طريق أمتنا إلا ذلَّلتها، ولا شبهة في عقول قومنا إلا انتزعتها برحمتك ومَنِّك يا حنَّان يا منَّان.
2018-11-27