السياسة بين الفهم والممارسة
2011/08/12م
المقالات
1,564 زيارة
السياسة بين الفهم والممارسة
حسن الحسن
يتميز العمل السياسي في كونه يتعلق بالشأن العام المرتبط بالمجتمع والدولة وفي كل ما يؤثر فيهما من عوامل داخلية وخارجية. ولذلك فإن السياسي يجدّ ويجتهد في فهم هذه العوامل وكل ما يرتبط بها من وقائع وأحداث لاستخلاص ما يمكن أن يفيده في إنجاز مشاريعه وتحقيق أهدافه، على خلاف المحلل السياسي الذي تقتصر مهمته على محاولة فهم الأحداث وتحليلها وعرضها من غير عازة لبلورة موقف أو اتخاذ إجراء ما استنادًا إلى استنتاجاته.
ويُعد التحليل السياسي عملًا مطلوبًا لدى كل من هو مهتم بالشأن العام، سواء أكان أكاديميًا أم صحفيًا أم سياسيًا، إلا أن الاقتصار عليه بشكل نظري مجرد وجعله مركز التنبه ومدار البحث والغاية بحد ذاته يصرف أصحاب المشروع السياسي عن التركيز فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات للتعامل مع الواقع ومع التحديات والمعوقات الماثلة أمام إنجاز مشروعهم،وبالتالي فسرعان ما يتحول التحليل من محاولة للفهم إلى عبء ثقيل على أصحابه يجر عليهم جدلًا لا يكاد ينتهي.
ومن هنا تأتي أهمية التنبه إلى أن قيمة التحليل لدى السياسي تكمن في مدى مساهمته في تحصيل فهم أفضل لتوضيح صورة الواقع لبناء ما يلزم من أعمال استنادًا إلى ذلك الفهم لتحقيق الغاية المنشودة. لذلك كان لا بد من التأكيد على أن محاكمة أي حدث يجب أن يستند ابتداء إلى زاوية خاصة تضع لصاحبها معايير الفهم، وانتهاء باستيعاب تأثير الحدث في الواقع للتعامل معه ومع تداعياته من خلال متابعة السياسات التي مورست باسمه أو بجريرته أو في سياقه. ولبلورة الفكرة التي قدمنا لها نتوقف أمام حدثين بارزين يعدان نموذجين مثاليين لاستعراض ما نهدف إلى توضيحه.
النموذج الأول: أحداث 11 سبتمبر
جرى جدل طويل حول أحداث 11 سبتمبر 2001م، وما زال النقاش قائمًا ومثارًا حولها رغم مرور عقد من الزمن عليها، ولا عجب أن يستمر أكثر من ذلك. حيث يجزم فريق من المحللين والباحثين بأن عملية خطف الطائرات وما ارتبط بها وبني عليها مجرد نسيج متقن من قبل المخابرات المركزية الأمريكية جاء في سياق خطة معدة سلفًا. فيما يذهب آخرون إلى أن العملية هي صنيعة تنظيم القاعدة فعلاً، تلك التي استغلت حالة الاسترخاء الأمني لحكومة الولايات المتحدة والثغرات العديدة في الإجراءات المتبعة في مطاراتها، فاختطفت الطائرات بيسر وسهولة وضربت البرجين الشهيرين ومبنى البنتاغون، فهزت هيبة أمريكا وانتقمت منها بسبب جرائمها بحق المسلمين. وثمة تحليل آخر يعتبر أن المسألة خليط بين الأمرين، أي أن تنظيم القاعدة خطط ودبر وأمريكا سهلت أو مررت تلك العملية – أي تغاضت عنها – بدل إفشالها، وذلك لاستغلالها لاحقًا.
إلا أنه بغض النظر عن تفاصيل ذلك الجدل، الذي قد لا يحسم اليوم أو غدًا، فإن إبداع السياسي يتجلى في تحسسه مدى تأثير تلك الأحداث على مشروعه وعلى خططه وأهدافه وفي مدى منافرته أو موافقته لوجهة نظره التي يسعى إلى تجسيدها في الواقع؛ ولذلك كان لزامًا عليه أن ينأى بنفسه عن الاستغراق في التحاليل المجردة، وأن يهتم بفهم الحدث ليستخلص منه كل ما يمكن أن يؤثر على مشروعه. فطالما بقيت هذه هي بوصلة الاهتمام والمعرفة لديه، فإنه يكون بمأمن من الانفصال عن الواقع المراد التأثير فيه. في هذا الإطار – وبغض النظر عمن يقف وراء أحداث 11 سبتمبر- نلاحظ أن الحدث قد أنتج الوقائع التالية:
رسم صورة قاتمة عن الإسلام في العالم. فقد راج عالميًا بموجب هذا الحدث، وما تبعه من هجمة دعائية دولية مركزة ومكثفة، في كونه دين خطف وقتل وتدمير وبث للكراهية بين الناس. وبنيت بمقتضى هذا سياسات بشعة تجلت في محاولات للنيل من الإسلام وكافة مقدساته ورموزه (الرسوم الكارتونية المسيئة، تمزيق القرآن الكريم وإحراقه، الاستهزاء بالحجاب الشرعي وحظره الخ).
فرض أمريكا إعادة صياغة الإسلام بحسب مصالحها (إسلام ديمقراطي وطني ليبرالي مدني على نسق النموذج التركي – الأردوغاني)، حيث يتم تفريغه من عوامل تهديد النفوذ والهيمنة الغربية وتجريده من ميزة كونه يمثل نمط حياة خاصة ويشتمل على نظام حكم يتباين مع كل ما هو سائد شكلًا ومضمونًا.
سعي أمريكا بجد لتغيير شكل العالم سياسيًا بذريعة تلك الهجمات وبحجة القضاء على ”الإرهاب العالمي“ وللمحافظة على الأمن والسلام الدوليين. كما برزت الرغبة لديها من خلال محاولات أولية لتغيير النظام السياسي الدولي الذي أفرزته موازين القوى عقب الحرب العالمية الثانية ليتواءم مع ما استجد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما جاء في تصريحات لشخصيات بارزة في الإدارة الأمريكية حينها، وفي إجراءات احتلال العراق التي ضربت عرض الحائط بقرارات مجلس الأمن.
استشراس أمريكا في محاولة إقصاء القوى الكبرى الأخرى عن الساحة الدولية من خلال (1) محاولة توسيع نفوذها على حساب بريطانيا وفرنسا في دول الخليج العربية والقرن الأفريقي وخليج عدن (2) مد نفوها إلى جمهوريات آسيا الوسطى وجورجيا ودول شرق أوروبا لتحجيم روسيا (3) إتباعها سياسة الاحتواء مع الصين من خلال العلاقات الاقتصادية، أو من خلال نشر مزيد من القواعد العسكرية الأمريكية في دول الجوار، أو من خلال بناء علاقات متميزة مع الهند لخلق منافس إقليمي لها في المنطقة.
إعادة صياغة العالم الإسلامي وترتيب أوضاعه بحسب مصالحها. فقد تغولت الولايات المتحدة في عدوانها على العالم الإسلامي، فاحتلت مع حلفائها ثلاثة بلاد إسلامية هي أفغانستان والعراق والصومال. وأشعلت العديد من الحروب والصراعات الداخلية الحادة في عدد من الأقطار الإسلامية، كاليمن وباكستان والسودان ولبنان.
النموذج الثاني: ثورات الشعوب العربية
ينطبق على هذه الثورات ما انطبق على أحداث 11 سبتمبر من حيث الجدل الدائر حول كيفية ما جرى. فتنوعت الآراء بخصوص ذلك، بوصفها ثورات تلقائية شاملة على الظلم والطغيان بعد عقود من الظلم والقهر والفساد، أو أنها مدفوعة بمخطط غربي لإعادة صياغة المنطقة سياسيًا وثقافيًا وفكريًا ومشاعريًا من جديد بما ينسجم مع إبقاء هيمنة الغرب عليها، سيما بعد انتهاء صلاحية الأنظمة الحاكمة القائمة، أو أنها مجرد صدى لصراع دولي شرس على المنطقة بين القوى الفاعلة في أوروبا من جهة وأمريكا من جهة أخرى، أم أن لكل بلد ثورته وتحكمه عوامل خاصة به، أم أنها خليط بين هذا وذاك، بمعنى أن هذه الثورات (بعضها أو كلها) بدأت تلقائية ومن ثم تمت محاولة احتوائها وإعادة توجيهها بحسب مخططات الدول الكبرى وصراعاتها ومصالحها.
مرة أخرى، فإنه فيما يَجدُّ المحلل في محاولة البحث عن ترجيح رأي على آخر وإثبات وجهة نظره، يحاول السياسي فهم الحدث للاستفادة منه بما يؤثر على مشروعه. في هذه الحالة لا بد أن يتوقف المرء أمام الأمور التالية:
انتقال الأمة من حالة الصمت والعزلة إلى حالة الفعل، حيث أدركت قيمة وزنها بعدما ظهر تأثير تحركاتها قولًا وفعلًا في قلب العالم الإسلامي – قلبها النابض الناطق بالعربية – فشكلت كتلة هائلة متحركة اندفعت نحو إسقاط الأنظمة بعد أن كسرت حاجز الخوف وتمردت على الواقع وبدأت تطالب بحقوقها في السلطة والثروة والعيش الكريم. وهكذا فإن خروج الناس من حالة اليأس والإحباط والعزلة وانخراطهم في العمل السياسي والاهتمام بالشأن العام وإحساسهم بأنهم قوة لها وزن سيكون له وقعًا مميزًا في الحياة السياسية.
تجاوز الأمة للنخب التي تم فرضها عليها لتوجيهها بعيدا عن الجادة، من مشايخ سوء ومثقفين ومفكرين مزعومين ممن نَظّر لاستمرار الطواغيت في مناصبهم وأفتى بعدم الخروج عليهم أو جادل طويلاً في عدم إمكان التخلص منهم.
-
افتضاح أمر المتاجرين بقضايا الأمة من أبطال وهميين أو مقاومين وممانعين مزعومين أشبعوا الأمة حديثًا عن مقاومة القوى الكبرى الباغية وعن الاستكبار العالمي وغيره، فإذا بهم يساندون طغاة نهبوا الأمة وقضوا على مقدراتها وأوغلوا في دماء أبنائها.
-
بروز وسائل وأساليب جديدة في تنظيم وإدارة الأعمال السياسية، من خلال وسائل الإعلام الحديثة المعولمة، وتكنولوجيا الإنترنت وشبكة المعلومات، والتي كان له أثرها الفاعل في توجيه الناس للتفاعل مع الأحداث والتعاطي مع المستجدات.
إلا أن التعامل مع هذه العناصر التي برز دورها مؤخرًا بشكل واضح يجب أن يكون بقدره، إذ إنها لم تلغ بحال العناصر الأخرى التي يجب أخذها بعين الاعتبار في الواقع السياسي. فالجيش كجهاز أو مؤسسة مازال صاحب الشوكة والعامل الحاسم في أي معادلة سياسية في المنطقة (كان ذلك واضحا في مصر وتونس). كما بقيت القوى الاستعمارية الكبرى وعملاؤها من الأنظمة الحاكمة قادرة على التأثير بشكل فعال في الأحداث الجارية، عبر التدخل العسكري المباشر (ليبيا مثلا) أو من خلال القنوات الأخرى كالمؤسسات الدولية والقرارات الدولية، أو عبر تمويل جهات ومؤتمرات وأوساط سياسية وثقافية بعينها لتتصدر المشهد السياسي والفكري.
خلاصة
إن الهدف من العمل السياسي هو تحقيق غاية ملموسة في الواقع، وإنّ على من يخوض هذا المجال إتباع منهج عملي واضح المعالم، يلمس من خلاله قدرته على تحقيق غايته تلك – مع إيماننا المطلق بأن تحقيق النتائج مرجعه إلى الله، وإنما نتحدث هنا عن المسؤولية الملقاة على عاتق السياسي وفي كيفية تدبرها. وعليه فإنه يجب أن يكون الفهم السياسي وسيلة لتوضيح الرؤية لاتخاذ ما يتوجب من إجراءات، أي يجب أن يكون منصبًا في الأساس على استيعاب المستجدات لمواجهة المخاطر والتحديات، وإجراء المراجعات المطلوبة في كل مرحلة، لرسم الخطط واعتماد الوسائل والأساليب الناجعة التي ينتظر منها تحقيق الأهداف الموضوعة للوصول إلى الغاية المرجوة بإذن الله تعالى.
2011-08-12