“حزب التحرير”.. العنوان الأبرز في المرحلة المقبلة
2011/08/05م
المقالات
1,843 زيارة
“حزب التحرير”.. العنوان الأبرز في المرحلة المقبلة
(إن شاء الله تعالى)
عصام الشيخ غانم
يعتبر السباق أو النتافس بين الأمم عملية طبيعية بسبب الاختلاف في الفكر الذي ينظم حياة الأمم المختلفة. فعندما يطول اعتناق أمة لفكرة ما فليس من السهل أن تتخلى عنها بمجرد ظهور فكرة أخرى في أمة أخرى تطرق أبوابها. وإذا تثبتت أمة ما كالأمة الإسلامية بصواب الفكرة التي تحملها فإنها ستضحي بالغالي والنفيس من أجل نقلها للأمم الأخرى ناهيك عن الدفاع عنها. وعند ظهوره فقد استطاع الإسلام الذي انصهرت به أمة جديدة أن ينافس الأفكار الأخرى ويصرعها، وظلت الأمة الإسلامية تتوسع بالدعوة والجيوش حتى استوقفتها البحار والمحيطات، وكان توسعها في فترة زمنية وجيزة للغاية، ودانت الشعوب والأمم المفتوحة للإسلام وأصبحت جزءً من الأمة الإسلامية العظيمة. وبهذا الاتساع في اعتناق الأمم والشعوب للعقيدة الإسلامية لم يكن هناك أي منافس بالمعنى الدولي للفكر الإسلامي، وظل الإسلام مسيطرًا دوليًا ما يزيد عن عشرة قرون. وأثناء تلك القرون ورغم مرور حقب عجاف على الأمة الإسلامية كالغزوات العسكرية للتتار والصليبيين فإن الأمة لم تكن أبدًا مهددة في فكرها وعقيدتها، بل إن بعض أعدائها المنتصرين كانوا يعتنقون دينها كما حصل مع التتار.
ظهور الرأسمالية
تزامن ظهور الرأسمالية مع تخلف طويل عبر أجيال في الأمة الإسلامية كان قد أفقدها اتصالها بالمنبع، فشكل بذلك وللمرة الأولى خطرًا فكريًا من الناحية الدولية. ولما كانت الدولة الإسلامية العثمانية هي وحدها التي تطرق أبواب أوروبا في تلك الفترة للفتح ولنشر دين الإسلام، كان من الطبيعي أن تتجه الدول الأوروبية حديثة النهضة صوب الأمة الإسلامية. ولما كانت الرأسمالية كمبدأ ترسخ المطامع الاستعمارية عند معتنقيها وكانت البلاد الإسلامية بلاد الخيرات والدفء فقد اشتدت الحملات الأوروبية على الإسلام وأمته. وفي النتيجة تمكنت الدول الأوروبية من بسط نفوذها بمختلف الأشكال على الأمة الإسلامية، وهنا أصبح الإسلام في خطر شديد. تراجع الإسلام عن الحكم واشتدت الهجمات على أفكاره ومن موقع قوة. وفي النتيجة دفع الإسلام بالكلية عن الحياة العامة، لكنه تمترس بقوة تضرب جذورها بعمق شديد في أفراد المسلمين.
الصحوة الإسلامية
طبقت أحكام الرأسمالية بكافة أشكالها على شعوب الأمة الإسلامية بعد أن مزقت، لكن أمة الإسلام لم تتفاعل مع النظام الجديد الذي وجدته يتناقض مع عقيدتها، وأدى عدم التفاعل هذا إلى مزيد من تخلف الأمة الإسلامية، لمّا أحست الأمة بواقعها الجديد ووقوعها تحت نير الاستعمار، وظهرت حركات تدعو إلى الإسلام والى إعادة استئناف الخلافة الإسلامية، كان الوعي مختلفًا بين تلك الحركات والأحزاب التي تبنت الإسلام من جديد بعد عقود من سقوط الخلافة العثمانية. وإننا إذ لا نريد أن نسهب في تلك الفترة إلا أننا نشير بشكل خاص إلى أن الوعي على الإسلام وأفكاره قد صار ينمو في الأمة الإسلامية وأخذ يقلب المظهر العام في الشارع الإسلامي من تنامي مظاهر الحجاب واللحى وارتياد المساجد، وكان ذلك ردة فعل على عدم رضا الأمة عن الرأسمالية المطبقة عليها بالقوة. وأخذ الغرب المستعمر يستشعر الخطر القادم، لكنه يراه بعيدًا. وقد كتب المفكر الأمريكي سنة 1992م الذي أمضى وقتًا طويلاً في القاهرة وكراتشي وغيرهما من المدن الإسلامية مراقبًا هذه المظاهر في المجتمع، كتب كتابًا «التهديد الإسلامي: حقيقة أم خرافة؟» وهو يحلل فيما إذا كانت هذه المظاهر ترتقي لأن تشكل خطرًا سياسيًا على الغرب أم لا؟
وبسقوط الشيوعية في أوروبا الشرقية تعاظمت مشاهد التزام الأمة الإسلامية بالإسلام، وتعاظمت معها الحركات الإسلامية، وعلت المطالبات الحزبية والشعبية في أوزبكستان وربوع آسيا الوسطى المنحلة عن الاتحاد السوفياتي مطالبةً بالخلافة الإسلامية، فأصبحت الحركات الإسلامية بكل ذلك تشكل خطرًا سياسيًا ملموسًا يعترف به الغرب. فكان عقد التسعينات من القرن الفائت قد تعاظمت فيه الثقة بأفكار الإسلام وقويت الحركات الإسلامية وقابله انحلال من أحزاب اليسار التي تفككت بفعل انهيار الكتلة الشرقية وسقوط الشيوعية المدوي. وعلى الجانب الغربي فقد كان ذلك العقد حاسمًا في ترسيخ القناعة الدولية بأن الإسلام ومعه الحركات الإسلامية قد أضحى خطرًا دوليًا من الطراز الأول، وهنا بدأت المكائد العظمى ترسم ومن العيار الثقيل للإيقاع بالإسلام وأهله.
وكان العنوان الأبرز لتلك المكائد أن النفوذ الغربي في العالم الإسلامي الذي يبسطه الغرب عبر عملائه الحكام لم يعد بقادر على الوقوف في وجه المد الإسلامي المتعاظم داخليًا في العالم الإسلامي، وأن هؤلاء الحكام يزداد ضعفهم داخليًا بسبب شدة الخيانة لشعوبهم وعمق تعاونهم مع الغرب للقضاء على أمتهم.
كانت الصورة الحقيقية في العالم الإسلامي على عتبة القرن الحادي والعشرين أن مشروع الإسلام الذي تحمله الجماعات والأحزاب الإسلامية المخلصة قد اكتسح المجتمع بشكل شبه كامل، وأن العقبة الوحيدة أمام سيطرة الإسلام تتمثل في الحكومات العميلة للغرب، وهذا وضع بالغ الخطورة، فقد خلت الساحة الفكرية من أي مشروع غير مشروع الإسلام في العالم الإسلامي برمته، فانتهى اليسار وانتهت الأحزاب الشيوعية، وتمترست باقي القوى الحزبية خلف الحاكم العميل دونما رصيد في الأمة. وعلى الرغم من أن الغرب قد أبدع في تحصين أنظمة الحكم رغم اهترائها ونجح في منع اتصال العسكريين ذوي القوة بالمجتمع والحركات الفاعلة فيه، حتى إن أفراد الجيش المالكين لزمام القوة كانوا يعيشون في عصر آخر ولا يعلمون ما يدور حولهم من أحداث، فكان إدخال جريدة ولو رسمية إلى ثكنة الجيش عملاً يحاسب عليه القانون العسكري بصرامة شديدة، ودخل الجيش المصري للجزيرة العربية في حرب الكويت التي قادتها أمريكا تحت إيهامه بأن الكعبة مهددة من أبرهة الأشرم، وكان الأمن السوري يلاحق كل من يركب على منزله أدوات لالتقاط قنوات تلفزيونية من الدول المجاورة.
كان ذلك إبداعًا كبيرًا عملت عليه الدول الغربية وأجهزة مخابراتها ليلاً ونهارًا مع أجهزة الحكم الرخيصة القائمة في العالم الإسلامي، وقد نجحت في ذلك، أي تمكنت من منع الإسلام من الوصول إلى الحكم. لكنها كانت ترى أن الوضع القائم يمثل خطرًا جسيمًا من الناحية الإستراتيجية، إذ إن مثل هذا الوضع مبني على استحالة الخطأ، ولما كان العقلاء عندهم يعرفون بأن الخطأ دائمًا ممكن، ولكن في هذه الحالة فإن خطأ التحصين قد يؤدي إلى سقوط نظام حكم دون أن يجد من يدافع عنه في الأمة، فقد كانت الرؤية الغربية لا سيما الأمريكية بأن الغرب لا بد أن يتدخل بنفسه لمنع بروز القوة الإسلامية. وفي هذا السياق فقد كشفت مذكرات قائد الجيوش الأمريكية ضد العراق في حرب 2003م الجنرال مايرز هذه الخطط حيث كتب “كنا ونحن نحضر للحرب على العراق ندرك بأن الشرق الأوسط على حافة بركان، وإن القوات الأمريكية لا بد وأن تكون موجودة في الشرق الأوسط للدفاع عن المصالح الأمريكية بشكل مباشر أمام الانفجار القريب” وقدر مايرز في تلك المذكرات المنشورة بعد الحرب “بأن منطقة الشرق الأوسط ستكون خارجة عن السيطرة تمامًا بحلول سنة 2020م حتى مع وجود الجيش الأمريكي فيها” وبنوايا الغرب للتدخل المباشر فإن السباق بين مشروع الإسلام ومشروع الغرب قد تحول إلى صراع على عتبة الدار، ودخل بذلك مرحلة جديدة فيها مخاطر جسيمة على الإسلام، لكنها تكتنفها فرص ثمينة من زاوية أخرى.
مرحلة 11 سبتمبر
على أثر الهجوم على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2011م تنادت الجيوش الغربية كافة تحت القيادة الأمريكية للقضاء على التطرف الإسلامي وأعلنها الرئيس الأمريكي بوش الصغير حربًا صليبية. واندفعت الجيوش الغربية بعدتها وعديدها في مشاهد تذكر بالحروب العالمية لغزو أفغانستان واحتلته سنة 2011م، ثم تجمعت من جديد سنة 2003م وقامت باحتلال العراق، وتناغمت مع الغرب الحملات (الإسرائيلية) لتصفية المقاومة الفلسطينية في تلك الفترة والمقاومة اللبنانية سنة 2006م تحت نفس المعزوفة الغربية بالقضاء على الإرهاب والتطرف الإسلامي. وهنا اشتد الكرب على الأمة الإسلامية التي شعرت بالاختناق وجيوش الغرب تتكالب عليها تكالب الوحوش على فريسة ضعيفة لا تملك من السلاح ما يمكنها من الدفاع عن نفسها. وهنا تعاظم الوجود الأمريكي والغربي العسكري وغير العسكري في المنطقة الإسلامية في حرب سافرة معلنة ضد ما أسمته بالتشدد الإسلامي والحركات الإسلامية، وتعالت التصريحات الغربية ومن أعلى المستويات ضد الإسلام والمسلمين، تارة بوصم المسلمين بالإرهاب، وتارة بوصم القرآن الكريم بالكتاب الإرهابي، وتارة بمنع المسلمين من إقامة خلافة إسلامية تمتد من إندونيسيا إلى إسبانيا حسب وصف الرئيس الأمريكي بوش الصغير. ولم تستطع أمريكا ومعها الغرب من إخفاء هذه الأهداف محذرةً من أن المتشددين الإسلاميين يريدون السيطرة على منطقة ما لتطوير أسلحة دمار شامل، بل وحذر وزير الداخلية البريطانية المسلمين في بلاده بأن الشريعة الإسلامية لن يتم تطبيقها في بريطانيا.
كان هذا الهجوم الغربي هجومًا عسكريًا بالدرجة الأولى يراد منه إيجاد الرعب لدى الحركات الإسلامية من المطالبة بتطبيق الإسلام، وكانت العقلية الأمريكية تحلم باستئصال الإسلام والعاملين له استئصالاً ساخنًا. وكان الرد الإسلامي ردًا أصيلاً من فكر الإسلام، فقد انبرى المجاهدون يصدون الغزوات الأمريكية والغربية في كل من العراق وأفغانستان، وشعرت أمريكا بأنها تقاتل عدوًا لا تعرفه، وأن هذا العدو يمثل مفاجأة كبرى للجيش الأمريكي والجيوش المتحالفة معه. فقد ظنت أمريكا أنها بنجاحها في احتلال العراق وأفغانستان فقد استقرت لها الأمور لاتخاذ هذين البلدين المسلمين منطلقًا للهجوم على بلدان أخرى، وكان المحللون السياسيون يرصدون الأهداف القادمة للجيش الأمريكي والجيوش الغربية. لكن العراق وأفغانستان كانت مقبرة الطموحات الأمريكية، وكانت الجبل الذي سقط من عليائه المحافظون الجدد في واشنطن، وتحطمت معهم أحلام أمريكا في العالم الإسلامي.
ولأن هذه المرحلة قد انقضت، ودخلت الأمة الإسلامية مرحلة أخرى فإن أبرز نتائج هذه المرحلة أي الغزو العسكري كانت كما يلي:
1- سقوط هالة القوة والتفوق الحاسم التي تمتعت بها الجيوش الأمريكية والغربية على مدار قرن على أثر فشلها في العراق وأفغانستان رغم فارق القوة والتسليح. يقول أحد الكتاب اليهود تعليقًا على الثورة في العراق “إن أسوأ ما نتج عن الغزو الأمريكي للعراق أن المقاتلين المسلمين لم يعودوا يخشون الجيش الأمريكي” وعلى ذلك قس الفشل (الإسرائيلي) العسكري وللمرة الأولى في غزو لبنان سنة 2006م أمام مئات المقاتلين في الجهة اللبنانية.
2- سياسيًا، انكشفت المشاريع الاستعمارية الغربية بشكل غير مسبوق، وأضحت أهداف السياسة الغربية جليةً في عدائها للإسلام والمسلمين مما يصعب من مهمتها في إيجاد الحلفاء المحليين حتى على مستوى الحكومات العميلة، وجليةً كذلك في سيرها خلف المنافع كالبترول، وأما دوليًا فقد ظهر استياء دولي كبير من طريقة القيادة الأمريكية للدول الكبرى، وتخوفت دول كثيرة بأنها ستكون عرضة للانتقام لا سيما من طرف المسلمين بسبب السياسة الأمريكية الصلفة والمشاريع الأمريكية المتهورة.
3- تعرت السياسات الغربية عن أي غطاء أخلاقي أو مبدئي، فسجون أبو غريب وغوانتنامو وقلعة جانغي قد كشفت بشكل لا لبس فيه أكاذيب السياسات الغربية في مسائل حقوق الإنسان والعدالة. وبذلك تكون قد سقطت العصا الناعمة والقوية من أيدي القادة الغربيين، تلك العصا التي كانت تستخدم بنجاعة لتبرير التدخلات الأمريكية والأوروبية حول العالم. ولم تستطع تلك الدول الدفاع عن نفسها حتى أمام شعوبها بسبب هول وصدمة الفضائح الأمريكية والبريطانية في العراق وأفغانستان، وظهر الغرب فجأةً على حقيقته كخزان شرور وفراخة جرائم لا حدود لها ضد الإنسانية.
4- أما على الصعيد الإسلامي فقد ترسخ الاعتزاز بالإسلام كمبدأ يمكنه إنقاذ البشرية جمعاء من إجرام الدول الغربية المتوحشة بما فيه من أحكام التسامح والرحمة، وأصبح المسلمون وللمرة الأولى لا يقيمون وزنًا للقوة العسكرية للغرب، فسقطت قيمة القواعد العسكرية التي زرعتها أمريكا والدول الأوروبية في قلب العالم الإسلامي، وزادت الأمة وبشكل جماعي في استقباح كل من يسير في ركب الغرب وسياساته، وتعاظمت الردة عن الغرب حتى إن حركة الطلاب المسلمين باتجاه الجامعات الغربية قد خفت بشكل ملموس، بل وأصبحت الجالية الإسلامية في الغرب مصدرًا مرعبًا له بما كشفته عن انتماء خالص لدينها وأمتها، حتى فاقت المحاذير الغربية من زيادة التطرف وما يسمونه بالأصولية الإسلامية في الغرب عنها في العالم الإسلامي، وبالمجمل فقد اكتست الأمة الإسلامية لونًا إسلاميًا أشد نصاعةً من ذي قبل، وظهر ذلك بشكل جماعي في الأمة.
5- وأمام كل ذلك فقد اتسعت الشقة وبشكل صارخ بين الأمة وحكامها التابعين للغرب وأصبحت الأمة تعد العدة للانقضاض على هؤلاء الحكام.
انسحبت معظم الجيوش الأمريكية من العراق وها هي تنسحب من أفغانستان، وقد بدأ بركان العالم الإسلامي ينفث لهيبه في وجه الحكام عملاء أمريكا وأوروبا دون أن تتمكن تلك الدول الغربية من ترسيخ أقدامها عسكريًا في المنطقة للدفاع عن مصالحها أمام هذا الانفجار، وتركت ذلك لما هو دون التدخل العسكري المباشر والفاعل متخلية بذلك، وتحت وطأة القوة الإسلامية عن فكرة مايرز والمحافظين الجدد في أمريكا في استخدام الجيوش الغربية للحفاظ على مصالحها في المنطقة. فتركت تلك المصالح لرياح التغيير التي هبت على المنطقة تعصف بآخر معاقلها- الحكام- ليصبح العالم الإسلامي عمومًا والمنطقة العربية خصوصًا عامل أرقٍ يتعاظم ويقض مضاجع القادة الغربيين على طرفي الأطلسي.
رياح التغيير في المنطقة العربية
وهنا إذ لا يتسع المقام لقول الكثير، إلا أننا سنركز على أثر الانتفاضات أو الثورات العربية في رفع المشروع الإسلامي والحط من المشروع الغربي بانتظار الحسم. فقد كسرت الشعوب العربية حاجز الهيبة والخوف من أنظمتها وأجهزة أمنها وأعلنتها مدويةً “الشعب يريد إسقاط النظام” وقدمت التضحيات تلو التضحيات ولا تزال في سبيل الوصول إلى هذا الهدف. كان الغرب يرسم الطريق للصراعات في المنطقة، فلم تكن تخرج مشكلة عن كونها أمريكية أو أوروبية المصدر، فكانت أمريكا وأوروبا هي المخطط والمدير والمستفيد من كل تلك الصراعات التي دفع فيه المسلمون دماءهم وأرضهم وهدرت فيها ثرواتهم، أما في عصر الثورة فقد أخذت الأمة تقول كلمتها، وأصبحت المبادر إلى صنع الاحتجاجات والثورات، ودخل الحكام في عصر الرعب الذي عاشته الأمة لعقود طويلة، ووقف الغرب موقف رد الفعل وللمرة الأولى بهذا الشكل الشامل في سياسات غربية منسقة تمامًا مع الحكام في محاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من النفوذ الغربي في المنطقة. وفي مؤشر على هشاشة النفوذ الغربي في المنطقة بعد أن زمجرت الأمة في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا وكثير غيرهما فقد استمرت الثورات “بعد النصر” في كل من تونس ومصر، وأصبح الذعر من الإسلام هو سيد الموقف غربيًا فيما يمكن أن تؤول إليه أحوال البلدان العربية بعد عصر الثورة.
لم تبرز كثيرًا مؤشرات الإسلام في انتفاضتي تونس ومصر واليمن رغم الجهود الإعلامية المضنية التي تقوم بها الفضائيات العربية لا سيما الجزيرة القطرية في الحد ما أمكن من أي طابع إسلامي للاحتجاجات الشعبية ومحاولاتها ترسيخ قناعات علمانية بالدولة المدنية وتداول السلطة بين العلمانيين و “الإسلاميين المعتدلين” وإبرازها لمخاطر المناداة بالإسلام وشدة رفض الغرب لذلك، لكنها عجزت عن إخفاء الطابع الإسلامي للثورة في ليبيا. وعلى أي حال، وفي كل تلك البلدان فقد أخذت الأمة تطالب بحقوقها في الحكم وبشكل لا رجعة فيه، فدحرت حكام تلك البلدان عن مناصبهم واستمرت مهددة بالإطاحة بحكام الصف الثاني التابع للغرب الذي قفز إلى كراسي الحكم ملتفًا على الثورات في تونس ومصر. وإذا كانت تلك الثورات قد عملت على تراجع رصيد بعض الجماعات الإسلامية والتي توصف بالاعتدال بسبب عدم وضوح رؤية تلك الحركات للإسلام ومجاراتها للحكام الجدد، فإنها – أي الثورات- قد عاظمت كثيرًا من رصيد الجماعات المخلصة والواعية في كل من مصر وتونس. ويكاد يتفق الجميع على أن العصر الجبري قد أخذ بالتكسر والانحسار وإن لم يكن ذلك كاملاً، وأن العصر القادم هو بلا شك عصر الخلافة على منهاج النبوة حسب ما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
كشفت الثورات العربية المستور من عمق الكراهية بين الشعوب الإسلامية وبين حكامها، وكشفت عن وعي الحكام لكراهية شعوبهم لهم، فكان الأمن لهم بالمرصاد، بل تبين أن تلك الدول –الحكام- وعبر عقود لم تقم ببناء أي جيوش لتذود بها عن أراضيها وشعوبها، بل كان جل ما قامت به هو تحصين أنظمة الحكم عن طريق تقوية الأمن الداخلي في تونس على حساب الجيش، وكتائب أمنية في ليبيا للاستعمال الداخلي فقط، وبلطجية النظام المصري وبلاطجة النظام اليمني وشبيحة النظام السوري وزعران النظام الأردني. وبانكسار حاجز الخوف أصبحت الأمة تقاتل عند عنق الزجاجة ضد المشروع الغربي الذي يخنقها ومنذ عقود، وأصبح المشروع الغربي بذلك في أضعف حالاته عبر التاريخ، بل إن خطًا واحدًا منهم أو من الحكام – وهو حاصل بإذن الله- سيودي بالمشروع الغربي أرضًا ويقوم مارد الإسلام العظيم بدفنه دائرة دائرة، وقد لا تكون روما أو باريس أو لندن آخر تلك الدوائر.
إننا نستطيع الجزم بأن مشروع الإسلام العظيم والمتمثل بحكم الإسلام للعالم الإسلامي قد اقترب ليصل أول محطاته، وذلك لسببين:
الأول: إن الأمة إذا ملكت الحكم فلن تقبل غير الإسلام دينًا لها، وحتى لو نجحت مؤقتًا السياسات الغربية التي تتكالب للالتفاف على الثورات في إيصال عملائها من الصف الثاني إلى الحكم بديلاً عن الصف الأول، كما هو حاصل الآن في تونس من تسليم رفاق بن علي كالمبزع الحكم، وكتسليم المجلس العسكري الذي نصبه مبارك للحكم بعد مبارك، أو تسليم أحزاب اللقاء المشترك في اليمن للحكم خلفًا لصالح، أو تسليم المجلس الانتقالي السائر في ركاب الناتو في ليبيا للحكم بديلاً عن القذافي. كل ذلك لن يجدي نفعًا، فهيجان الأمة لم يتوقف في كل تلك البلدان، والأمة لا تزال تطالب بإسقاط الحكام الجدد أو بقايا النظام البائد، وحتى لو تدحرج الغرب باتجاه تنصيب أزلامه من رجالات الصف الثالث، فإن ذلك أيضًا ليس نهاية المطاف أمام أمة أبدت إصرارًا مصحوبًا بالدم لأن تمتلك زمام أمرها. وناهيك عن أن رجالات الصفين الثاني والثالث غير قادرين على خدمة الغرب في منع الإسلام من الظهور كما كان يفعل أسلافهم من عملاء الصف الأول، إلا أن حركة الأمة ستجبرهم على الانصياع في النهاية للمطالبات القوية في الأمة بتحكيم الإسلام رغم جهود وسائل الإعلام لمنع ظهور ذلك.
والثاني: أن خطًا استراتيجيًا واحدًا وفي بلد واحدٍ كسوريا مثلاً كفيل بقلب كفة الميزان، أي بإخراج الأمة من عنق الزجاجة لتتنفس إسلامًا، وتسقي أمتها بالإسلام وتحمله إلى جوارها فاتحةً. والمسألة ليست محصورة في سوريا، بل وفي كل البلدان المنتفضة. وذلك أن رياح التغيير قد عصفت بالجدر المنيعة التي بناها الغرب والحكام حول أهل القوة والمنعة القادرين على التغيير، وبانهيار هذه الجدر
أصبح حديث العسكر كما حديث الشارع عن التغيير، وسهل اتصال المخلصين بأهل القوة. والمقصود بالخطأ هنا هو في الثغرات الناجمة عن طريقة التخبط التي يحاول فيها الغرب إدارة سياسة الحكام تجاه الثورات. وفي ذلك التخبط قد تكمن فرص ثمينة يمكن للمخلصين أن ينفذوا منها لتسديد الهدف الموعود. وهذا واضح في سوريا، فمشاعر الشارع إسلامية ملتهبة، وأي نصيحة بالتنازل يمكن لأمريكا أن تسديها للنظام وهو يثق بنصائحها يمكن أن تخلف فراغًا في البنية الأمنية للنظام السوري، ويمكن منها أن يتسلم المخلصون المسلمون زمام المبادرة لإعلان نصر المشروع الإسلامي ودحر المشروع الغربي كليًا عن المجتمع في سوريا. وأما في البلدان الأخرى فإن نصائح أمريكا للنظام الحالي في مصر بتحييد الجيش، فإن هذه الحالة تتشكل فيها منافذ كثيرة للنفاذ إلى أهل القوة، وهذه المنافذ غير قابلة للإغلاق الآن، لأن وضع الجيش في مواجهة الشارع الذي لا يزال ملتهبًا في مصر قد يجر إلى العمل المسلح فيها وتحويلها إلى دولة فاشلة وفق المصطلحات الغربية، الأمر الذي تخشاه أمريكا و(إسرائيل) كثيرًا. وفي ليبيا أيضًا فإن ولاء الجيش الجديد الذي يتشكل في الثورة الليبية غير محسوم، ولن يكون الأمر مستتبًا للغرب بعد رحيل القذافي حتى وإن توجت اتصالاتهم بالمجلس الانتقالي بالنجاح.
وبصورة عامة فإن ضربات الثورات العربية قد أخذت تكسر فعلاً نظام الحكم الجبري وإن لم تكسره بالكلية، وما دامت الأمة لا تزال في حالة من اليقظة فإن القيادات الحالية التي تدير الفترات الانتقالية في تونس ومصر وما سيكون شبيهًا بهما في البلدان الأخرى بعد رحيل رؤوس تلك الأنظمة وأهم أركانها، لن تكون تلك القيادات بقادرة على الحفاظ على النفوذ الغربي ومشروعه العلماني للمنطقة. وما دامت حالة الثورة مستمرة وإن في بلدان أخرى فإن حالة اليقظة الشعبية ستستمر، فمثلاً مشاهد الدماء الزكية التي تسيل على الأراضي السورية تشحن الهمم في مصر وتونس أيضًا. وإذا كان الغرب يهدف من المراوغة الطويلة في ليبيا واليمن إلى تثبيط الشارع الثائر في البلدان العربية فإن ذلك الهدف غير قابل للتحقيق في ظل اشتعال المناطق الجديدة.
وترصد الدوائر الغربية برعب كبير المؤتمرات التي تسميها عابرة للقارات التي يقيمها حزب التحرير في ربوع العالم الإسلامي وأوروبا وأمريكا وبشكل متزامن، ترصد ذلك بذعر كبير. ولا شك أن أمريكا والغرب يرون أن عصر الثورة في هذه المنطقة يقوم فعلاً بإعادة تشكيل خريطة جديدة للقوى السياسية في الأمة، فالأحزاب الحاكمة ستحل كما حلت في مصر وتونس، وكما هو الآن متداول حل حزب البعث في سوريا، فهذه كلها ليست أحزابًا بالمعنى الحقيقي وإنما هي عصابات حكم. وإذا كانت أمريكا تحاول إعادة تشكيلها بمسميات أخرى فإن فرصة نجاح ذلك تكاد تكون منعدمة، فرجالات تلك الأحزاب منبوذين بالكلية من الأمة على كافة المستويات، ولعل في المطالبات الشعبية الصاخبة في مصر وتونس بإزاحة كافة رموز النظام السابق من كافة مستويات الحكم، ومحاكمة المتورطين بأعمال القتل من ضباط الأجهزة الأمنية ما يربك كثيرًا كافة الخطط الأمريكية والأوروبية لمحاولة إنعاش نفوذها ورجالاتها في الأنظمة التي تنهار.
وأما أحزاب المعارضة الأخرى علمانية الطابع، فقد تعرت هي الأخرى بفعل الثورات. فإذا كانت الأحزاب العلمانية الفلسطينية خارج السلطة قد عرتها الانتخابات سنة 2006م وتبين أن وجودها قد أضحى صوريًا، فإن الشعب المصري لا يفرق بين الحزب الوطني الذي كان في الحكم قبل حله وبين حزب الوفد مثلاً، وفي الشارع اليمني تنتفض الأمة ضد الحزب الحاكم ولا يقبل الثوار في الشارع أبدًا بأن تمثلهم أحزاب اللقاء المشترك المتهالكة على مفاوضة علي عبدالله صالح، وفي سوريا تبين بأن ما يسمى معارضة ليس له من رصيد فعلي في الشارع السوري.
وأما الحركات الإسلامية الموصوفة بالاعتدال فإنها وإن كانت لا تزال تملك رصيدًا في الشارع بفعل تهميشها سابقًا من أنظمة الحكم البائدة، إلا أن ذلك الرصيد قد أصبح في تناقص مستمر، وذلك ناجم عن عدم وضوح طروحاتها، فهي من ناحية تسمى إسلامية، ومن ناحية أخرى تقبل بالعلمانية وأحيانًا تنادي بها، وهذا الواقع في ظروف الانكشاف يعمل على تحلل المخلصين من أبنائها وتسربهم إلى أحزاب إسلامية حقيقية. ففي مصر مثلاً كان الشارع المصري أكثر جرأة في طرحه إسقاط النظام من طرح “الإخوان المسلمون” إصلاح النظام والحوار معه قبل أن يسقط رأسه، ولا تزال أعمال المراوغة ودعم المجلس العسكري في مصر تعمل على تفكيك ناعم لقواعد الحركة عنها، وقس نفس الشيء مع حزب النهضة في تونس. بل إن أحزابًا بعيدة قد أصابها لظى الثورات العربية مثل حزب الله في لبنان، فوقوفه ضد الثورة في سوريا ومناصرته لنظام الأسد يعمل على تآكل شعبيته في المنطقة وفي لبنان، ولعل ذلك اللظى أيضًا قد أصاب وإن بدرجة أقل حركات إسلامية فلسطينية تتخذ من دمشق مقرًا لقياداتها، وقد أمرها النظام بإعلان بعض المواقف المؤيدة له أو مواقف تصب الماء على الثورة السورية فتبردها.
وبالمجمل فإن خريطة القوى السياسية في المنطقة العربية تشهد تغييرًا دراماتيكيًا يقلب الطاولة رأسًا على عقب. وأمام ارتفاع الأصوات الشعبية في المسيرات والمظاهرات التي ينظمها حزب التحرير في تونس وفلسطين وغيرها والمنادية بإقامة الخلافة الإسلامية ما يبشر بأن فكرة الخلافة ستصير مطلبًا شعبيًا عارمًا في الفترة القصيرة القادمة وأن حزب التحرير سيكون إن شاء الله تعالى العنوان الأبرز للمرحلة القادمة في المنطقة الإسلامية باعتبار أن ما يطرحه يمثل البديل الحقيقي للمشروع الغربي الذي تحمله أنظمة الحكم ولا تجد الحركات المعتدلة له بديلاً. وأمام هذه الاندفاعة لسيادة فكرة استئناف الحياة الإسلامية والمطالبات بالخلافة تنبري ألسن جديدة للوقوف ضدها كما حصل في المؤتمر الذي عقده ناصر الدين الشاعر – الوزير السابق في حكومة حماس- في نابلس ضد الخلافة، فهذا سيحط من قيمته وسيعمل على تآكل أرصدة الحركة التي يمثلها في الشارع الذي تتعاظم فيه الأصوات التي لا ترى للخلافة بديلاً، بل تؤكد أن الثورات العربية لا تنتصر إلا بإقامة الخلافة الإسلامية الثانية كما هو في نص حديث الرسول عليه السلام والذي آخره «ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ».
2011-08-05