الاشتغال بالسياسة فرض كالجهاد
1988/02/22م
المقالات, كلمات الأعداد
2,752 زيارة
المسلمون في مكة وأنباء الدول
قال الله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ).
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغَنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قيل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: (الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبتهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أُنزل على نبيِّكم. فكيف غلب المجوس الروم وهم أهل كتاب؟ فستغلبكم كما غلب فارس الروم. فأنزل الله تعالى: (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ) الآية.
ويروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه عند نزول هذه الآية راهن المشركين على أن الروم سيَغلِبون، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فأقرَّه على هذا، وطلب منه أن يمدِّد الأجل، وأنه شريكه في الرهان، (وكان ذلك قبل أن ينزل الأمر بتحريم الرهان).
فهذا يدل على أن المسلمين في مكة، حتى قبل إقامة الدولة الإسلامية، كانوا يجادلون الكفَّار في أنباء العلاقات الدولية، وأخبار الدول، وخصوصاً الدولتين العظيمتين: فارس والروم. والعلم بحال دول العصر وما بينها من علاقات اهتمَّ بها المسلمون واشتغلوا فيه، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم. بل قد بلغ من اهتمامهم بهذا الأمر أنهم كانوا يجادلون المشركين ويناقشونهم فيه، ورهان أبي بكر رضي الله عنه يدلّ على مدى اهتمامهم وهم في مكة وقبل إقامة الدولة الإسلامية بالأمور الدوليَّة والعلاقات بين الدول.
حمل الدعوة إلى العالم
على أن الله تعالى أمر المسلمين بتبليغ دعوته، وإيصالها إلى العالم. قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ). وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدولة الإسلامية إنما سياستها الخارجية هي حمل الدعوة إلى الإسلام.
والأمّة التي تحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم لا يتسنىّ لها ذلك إلا إذا كانت عارفة بسياسة العالم، مدركة للواقع الدولي والقوى التي تسيّره. ولا يتيسرّ حمل الدعوة إلى أمة معينة أو إلى شعب معيّن إذا لم تكن الأمّة الإسلامية عارفة بسياسة حكومة الدولة التي تحكم هذا الشعب. ولذلك كانت معرفة سياسة العالم بشكل عام. وسياسة كل دولة تحمل دعوة الإسلام إليه فرض كفاية على المسلمين، وكذلك معرفة سياسة الدول التي يردّ كيدها عن المسلمين فرض كفاية على المسلمين أيضاً.
فحمل الدعوة الإسلامية فرض، ودفع كيد الأعداء عن الأمة كذلك فرض، وهذان الفرضان لا يمكن الوصول إليهما إلا بمعرفة الواقع الدولي. وبمعرفة الواقع الإقليمي للدولة المقصودة، وبواقعها الداخلي. إذ كيف يمكن التأثير على الرأي العام فيها، وإيجاد أثر الإسلام في تلك الدولة، أو إشغال أو منع هذه الدولة من تهديد المسلمين، كيف يتأتّى ذلك من دون إلمام كامل بأحوال تلك الدولة السياسية.
وبما أن القاعدة الشرعية «ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب»، فإن الاشتغال بالسياسة الدولية فرض على المسلمين لحمل الدعوة ولردّ كيد الكفّار.
أجدر الناس بالسياسة الدولية
فعلى الأمّة الإسلامية الاتصال بالعالم اتصالاً واعياً مدركاً لمشاكله، عارفاً بدوافع دوله وشعوبه، متتبّعاً الأعمال السياسية التي تجري فيه، ملاحظاً الخطط السياسية للدول في أساليب تنفيذها وأهدافها القريبة والبعيدة، وفي كيفية علاقة بعضها ببعض، وفي المناورات السياسية التي تقوم بها هذه الدول.
فإذا كانت الدول الأمم الاستعمارية تشتغل بالسياسة الدولية، وتدرك الوقع الدولي وتؤثِّر فيه، فإن الأمّة الإسلامية أجدر بالاشتغال بالسياسة الدولية، والتأثير فيها، حتى تسترجع هيبتها ومكانتها بين الأمم، ولكي تنتشر الدعوة إلى الإسلام في أرجاء العالم. وهذا يتطلّب أن يشتغل المسلم بالسياسة، فيهتمّ بالواقع الدولي، ويلمَّ بسياسة الدول المؤثرة، ويعي على مناوراتها وخططها السياسية، وعندما تقوم الدولة الإسلامية، فإن كيد هذه الدول لا يمكن أن يصيب الأمة لوعيها، بل الأمة تفرض الإسلام في الساحة الدولية.
المسلم كيّس فطن، وليس ساذجاً أو (درويشاً)، ولقد انتشر بين المسلمين رأي يقول بعدم التعاطي بالسياسة مطلقاً. وعدم الاهتمام بها، وهذا لا يليق بمسلم فضلاً عن أنه رأي مخالف للشرع الذي يوجب على المسلم عكس ذلك. وهذا يؤدي إلى أن نترك الاشتغال بالسياسة للكفّار الذين يكيلون لنا وللفقراء من الشعوب، ونطلق أيديهم في العالم.
فرض على الكفاية
إن الاشتغال بالسياسة الدولية، وإدراك حقيقة الموقف في العالم الإسلامي على ضوء فهم الواقع الدولي فرض كفاية على المسلمين، ليتسنى لهم أن يتبيّنوا أسلوب العمل لإقامة دولتهم وسط هذا الواقع الدولي الصاخب، وليتمكنوا من حمل دعوتهم إلى العالم. ولذلك كان من فروض الكفاية كذالك على المسلمين معرفة الموقف الدولي معرفة تامة متلاحقة، ومعرفة التفاصيل المتعلقة به معرفة يومية بتتبع واهتمام، والإحاطة بموقف الدول التي لها شأن يذكر في الموقف الدولي العام، مثل أميركا والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وغيرها. فإذا خلت بلاد المسلمين ممن يشتغل بالسياسة الدولية ويعرف بالسياسة العالمية والمحليّة أثموا جميعاً، تماماً كما إذا خلا المسلمون من الجهاد. فالاشتغال بالسياسة الدولية كالجهاد سواء بسواء.
أفضل الجهاد
هذا بالنسبة للسياسة الدولية، أما بالنسبة للسياسة المحليّة، فإن الاشتغال بالسياسة يعني الاشتغال بأمور المسلمين العامة، والاهتمام بحالة المسلمين من حيث إدارة الحكم والسلطان لهم. وهذا أمر فرضه الله عليهم، وحرَّم عليهم تركه.
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أصبح ولم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم». وأخرج ابن ماجة عن أبي أمامة قال: عرض لرسول الله صلى الله علية وسلم رجل عند الجمرة الأولى فقال: يا رسول الله، أيّ الجهاد أفضل، فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله فسكت عنه. فلما رمى جمرة العقبة ووضع رجله في المغرز ليركب قال: «أين السائل»، قال: أنا يا رسول الله، قال: «كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر». وفي رواية أبي داود عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ »أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر» أو «أمير جائر».
فقد بلغ من حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على الاهتمام بأمر المسلمين أنه اعتبر من لم يقم به كأن ليس منهم، وقد جعل كلمة الحق لدى الحاكم الجائر أفضل الجهاد. وكلمة الحق هذه تعني الاشتغال بأمور المسلمين العامّة والاهتمام بشؤونهم. ولذلك جاء في الحديث الشريف: «من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، عاملاً بعباد الله بالإثم والعدوان ولم يغيِّر عليه بقول أو فعل كان على الله أن يدخله مُدْخَله». والتغيير عليه بقول هو الاشتغال بالسياسة المحلية. ومنه يتبين فرضية الاشتغال بالسياسة المحلية.
ومن ذلك كله يتبينّ أن السياسة فرض كفاية على المسلمين، سواء السياسة الدولية أو السياسة المحلية، لأن السياسة هي رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً، فيجب على المسلمين ولا سيما منهم الأتقياء العاملون للإسلام والمخلصون له أن يشتغلوا بالسياسة الدولية والمحلية، فيكونوا قادة لهذه الأمة وأهل حلٍّ وعقد فيها، وبدون ذلك لا يمكن رد كيد الكفار المستعمرين، ولا يتأتى حمل الدعوة إلى العالم.1
أسرة التحرير
1988-02-22