عثمان محمد الشامي
بعد أيام قليلة، أي في 17/03/91، يجري الاستفتاء في الاتحاد السوفياتي على المعاهدة الاتحادية التي وضعها غورباتشوف لإيجاد التماسك بين جمهوريات الاتحاد. فإذا سقطت هذه المعاهدة فمن المتوقع أن يسقط معها غورباتشوف. وهذا الاستفتاء سيلقي الضوء على من يمسك بالقرار عند السوفيات. وفيما يلي أضواء على الصراعات هناك.
مما لا شك فيه أن الخطوات التي اتخذها غورباتشوف تحت دعوة البرسترويكا قد ذهبت الساعة إلى الوراء. ومع هذا فلا زالت في الاتحاد السوفياتي قوى محافظة متشددة تصارع من أجل إنقاذ الماركسية كمبدأ والمحافظة على الاتحاد السوفياتي كدولة عظمى في العالم.
فعلى أثر استلام غورباتشيف للسلطة وقعت الأيديولوجية الشيوعية في غيبوبة لمدة ست سنين. غير أن الأحداث في الأشهر الأخيرة نفخت فيها الروح من جديد.
وقد كانت بداية هذه الأحداث عندما شرع غورباتشوف بوضع برنامج اقتصادي طموح لتحويل الاقتصاد السوفياتي إلى اقتصاد السوق. إذ طلب غورباتشوف من البروفيسور شاتالين وضع برنامج لهذا الغرض، وهو البرنامج الذي عرف لاحقاً ببرنامج الـ 500 يوم، أي أنه خلال 500 يوم يتحول الاقتصاد السوفياتي من كونه خاضعاً للتخطيط المركزي الحكومي إلى الاقتصاد الحر الذي يعتمد على باعث الربح المادي والذي هو ركيزة الاقتصاد الرأسمالي.
ولما كانت تبني هذا البرنامج يعني القضاء على السلطة الحقيقية والامتيازات التي يتمتع بها المجمع الصناعي العسكري فقد رفع هذا البرنامج تلك القوى المتضررة إلى مجابهته. وقد كان غورباتشوف يميل إلى تبني برنامج الـ 500 يوم. ولكن في اجتماع مصيري عقد في 29 ـ 30 أيلول 1990 وجه مكتب البوليتبيروا تحذيراً شديداً غلىغورباتشوف برفض البرنامج. وهكذا كان، إذ ظهر غورباتشوف أمام مجلس السوفيات الأعلى وطلب من المستشارين إجراء تعديلات جديدة على البرنامج مما أدى عملياً إلى إلغائه. وفي هذا يقول نيقولاي بتراكوف، المستشار السابق للشؤون الاقتصادية لغورباتشوف: عندما وجهت القوى الديمقراطية الإصلاحية تحذيرات سابقاً لغورباتشوف كانت هذه التحذيرات مدعومة بالهواء فقط أما المحافظون فعندما أعطوا تحذيراً فإن ذلك كان مدعوماً بالمدافع والقوى العسكرية والزعماء الحمر والمجمعات الصناعية العسكرية.
نجاح الخطوة بالتصدي لمشروع الـ 500 يوم دفع المحافظين إلى متابعة هجومهم فاستهدفوا في خطوتهم التالية إصلاحات غورباتشوف الساعية إلى تعديل البنية السياسية. وهكذا ففي اجتماع عقد في الكرملين في 16 تشرين الثاني حضره غورباتشوف، مكتب البوليتبيرو، مدراء المصانع العسكرية وكبار الجنرالات، قام هؤلاء بوضع خط للتخلص من شخصيات تسعى بزعمهم إلى تفكيك الاتحاد السوفياتي، ثم تم الاتفاق على أن يُمنح غورباتشوف صلاحيات رئاسية واسعة تتيح له فرض الحكم الرئاسي المباشر على أي منطقة تحدث فيها اضطرابات ووضعها تحت الحكم العسكري (الأحكام العرفية). وفي غضون أيام طلب غورباتشوف من مجلس السوفيات الأعلى صلاحيات رئاسية واسعة فأعطيت له.
عندها بدأ غورباتشيف، بضغط من المتشددين، بالتخلص من المسؤولين المعتدلين، فاستبدل قائد قوات الميليشا الوطنية (وهو معتدل) باثنين متشددين من الـ كي جي بي والجيش. ثم تمكن من وزير الدفاع ديميتري يازوف ورئيس الـ كي جي بي فلاديمير كريشكوف من بسط وتأكيد سلطتهما بشكل قوي ملف للنظر. وبذات الوقت فإن كثيرين ممن عرفوا بآرائهم الإصلاحية المعتدلة تركوا مناصبهم أو أجبروا على تركها. وعُين مكانهم آخرون متشددون منهم الرئيس الجديد للحكومة الجديدة فالانتين بافولف. وقدعين يوري ما سليوكوف كنائب لبافلوف. وما سليوكوف هذا معروف بأنه كان في الهيئة العليا التي تضع سياسة التصنيع العسكري.
ولقد كان الفضل الكبير لظهور نفوذ المحافظين بقوة يعود إلى الحركات الانفصالية التي شهدتها جمهوريات البلطيق. فقد اتخذ المتشددون من تلك الأحداث ذريعة للقفز تلامساك بزمام الأمور قبل أن تنفلت وتؤدي إلى تفكك الوطن الأم. حتى أن المارشال سيرجي اكرومييف، المستشار العسكري لغورباتشوف، تساءل في خطاب له «هل سنخسر وطننا الأم» وهذا الشعار كان قد استغل بصورة بشعة من قبل ستالين أثناء تصديه للغزو النازي لأحكام قبضته الحديدية على الاتحاد السوفياتي. وأبدى اكرومييف خشيته من أن الاتحاد السوفياتي قد يتجزأ إلى دويلات تكون تحت رحمة الاعتماد على الحكومات الغربية.
ثم جاءت أحداث القمع في البلطيق والتي أدت إلى قتل 15 مدنياً في ليتوانيا وخمسة آخرين في لاتفيا، جاءت لتؤكد القبضة الحديدية التي يحاول المتشددون إحكامها.
وقد كان القصد من حملة القمع تلك إعطاء درس لكل الحركات الانفصالية (كجورجيا وغيرها) بأن من يعمل على تفكيك الوطن فإن مصيره لن يختلف عن مصير جمهوريات البلطيق.
هذه الأحداث بالذات كشفت حقيقة الصراع الداخلي في الاتحاد السوفياتي. فقد رسم المتشددون خطة تؤدي إلى تكريس نفوذهم. فأوعزوا بإنشاء اللجنة الوطنية للإنقاذ في ليتوانيا على أن تقوم بمظاهرات وإحداث قلاقل مما سيدفع غورباتشوف إلى إعلان حل جمهورية ليتوانيا ووضعها تحت الحكم الرئاسي المباشر مما يعني عملياً وضعها تحت حكم العسكر.
وفعلاً كانت اللجنة الوطنية بما عهد إليها وتحت حجة عدم الثقة بحكومة ليتوانيا طلبت الاستغاثة من الحكومة الفيدرالية إلا أن غورباشوف أبى أن ينفذ ما عليه، فسارع العسكريون إلى التدخل مباشرة. ويدور جدل كبير بأن تدخلهم جاء تلقائياً ودون أمر من غورباتشوف بالخيانة. فقد كشف الناطق باسمهم الكولونيل فيكتور الكيسنيس تفصيل خطتهم واتهم غورباتشوف بالخيانة. وجاء في كلامه أن غورباتشوف كان كالجراح الذي أحدث جرحاً في جسم المريض ثم غادر غرفة العمليات (أي لم يستعمل الصلاحيات الرئاسية الممنوحة له فإنه قد يواجه تمرداً في الجيش.
ومن المؤشرات الأخرى التي تكشف حقيقة الصراع القائم أن سياسية غلاسنوست (حرية التعبير والمصارحة) تبدو سائرة إلى نهايتها. فقد رافقت أحداث البلطيق حملة إعلامية واسعة نشرت روايات رسمية تزور حقيقة الأحداث في ليتوانيا.
فقد زعمت وسائل الإعلام أن الجيش الأحمر أخطر للدفاع عن نفسه بعد أن هوجم من قبل وطنيين انفصاليين متعصبين. وأن الـ 15 قتيلاً كانوا ضحية حوادث سيارات ونوبات قلبية فقط.
وهذا هو الهدف الآخر للمتشددين أي الغلاسنوست. وقد عمدوا إلى وضع مسؤولين متشددين للسيطرة على وسائل الإعلام كالصحافة والتلفزيون والإذاعة ومهمة هؤلاء هي حماية الوطن من الحملات المغرضة أو المعلومات التي تساهم في ضرب وحدة الوطن الأم. وتحت هذه الراية تعود الرقابة إلى ما كانت عليه سابقاً. حتى أن غورباتشوف أراد أن يجمد القوانين التي تسمح بحرية التعبير والتي سنّت قبل ستة أشهر.
وفي اجتماع هام للجنة المركزية للحزب الشيوعي في 31 تشرين الثاني 1991 تعرضت البرسترويكا إلى هجوم لاذع من المتشددين الذين وصفوها بالفشل الذريع كما هاجموا حرية الصحافة وأيضاً تخلي الكرملين عن المبادئ الماركسية لصالح القيم البورجوازية. وقد أوضح هؤلاء الشيوعيين أنهم لن يتخلوا عن حكم الحزب الواحد. وقد كانت لهجة الاجتماع كمجلس حرب ولم يسجل أي اعتراض من غورباتشوف. ومما جاء في كلمة بولوزكوف رئيس الحزب الشيوعي في جمهورية روسيا:
1- من الواضح أن إصلاحات برستيرويكا قد فشلت.
2- لسنا مستعدين لقبول أي نظام تعددي سياسي.
3- أيضاً لسنا عندنا غلاسنوست.
4- لم يدرك الحزب أنه انحرف عن مهمته التاريخية.
وبعد عدة أيام ظهر غورباتشوف فجأة على شاشة التلفزيون ليلقي خطاباً قومياً هاماً بدا فيه الإعياء واضحاً على وجهه حتى أن شفتيه كانتا ترتجفان أحيانا. ووجه في خطابه نداء من أجل الوحدة الوطنية محذراً من الحركات الانفصالية والانشقاق السياسي. ومما جاء في خطابه: «أن الاتحاد السوفياتي قوة عظمة وقد بذلت جهود جبارة لجعله كذلك، وقد نخسر هذه القوة بسرعة» ثم دعا إلى تأييد المعاهدة الاتحادية الجديدة التي اقترحها هو.
ومما يزيد في حيرة المراقبين أنه بعد أن ظهرت دلائل ومؤشرات على هدوء الوضع في البلطيق (من ذلك أن القوات التي أرسلت سحبت وأن غورباتشوف عين لجاناً خاصة من اللامعين لإجراء مباحثات ومفاوضات مع جمهوريات البلطيق وكذلك حل اللجنة الوطنية للإنقاذ) صدر القرار الأخير القاضي بنشر وحدات الجيش مرافقة لدوريات الشرطة في المدن وذلك تحت زعم محاربة الفساد الاقتصادي كالسوق السوداء، وغيرها من المخالفات.
ورغم أن بوريس بوغو (وزير الداخلية والذي أصدر القرار بالاتفاق مع وزير الدفاع ديمتري يازوف) نفى أن يكون الغرض من تلك الدوريات قمع المعارضة، إلا أن أحداث ليتوانيا أوجدت عدم ثقة بالقوات المسلحة. فقد دخلت تلك الوحدات إلى ليتوانيا في بادئ الأمر للقبض على الفارين من الخدمة العسكرية ولكن ظهر هدفها الحقيقي عندما قمعت الانفصاليين. وهكذا فإن ظهور هذه الدوريات المسلحة مع ما سبقها ورافقها من خطوات أخرى لا يشير إلى خير بالنسبة للقوى الإصلاحية.
ومن هذه الخطوات الأخرى أن غورباتشوف منح الـ كي جي بي صلاحيات واسعة للقيام بمداهمات وتفتيش الدور والمؤسسات بحثاً عن الفساد الاقتصادي.
يبقى، بعد كل هذا، السؤال عمن يمسك بالقرار في الاتحاد السوفياتي وحقيقة قدرة غورباتشوف على الإمساك بدفة القيادة.
لقد كان هذا السؤال هو القصد من وراء هذا المقال، والآن فإن الأنظار كلها تتجه إلى 17 آذار 1991 موعد إجراء الاستفتاء على المعاهدة الاتحادية التي اقترحها غورباتشوف، والذي من الواضح أنه سيكون استفتاء ثقة في غورباتشوف. فإذا رفضت المعاهدة فقد يكون ذلك نهاية غورباتشوف. ويرى محافظ لينغراد أن على غورباتشوف أن يتنحى إذا رفضت المعاهدة ويبدوا أن المتشددين مستعدون لهذا الأمر. إذ يرى أحد قادتهم: الكسندر بروكانوف أن الأمة (الروسية) عندها مهمة تاريخية ويقول: «إن الناس قد ملوا من البرلمانات بل حتى البرلمانات ذاتها قد ملت» ويقول: «يتوجب على غورباتشوف أن يخلي سبيل الحزب، والتي سدها بنفسه. وإلا فإن الحزب سيزيل غورباتشوف من سبيله».
ومع هذا فإن الخطوات التي تمت حتى الآن تحت راية البرسترويكا قد ذهبت شوطاً بعيداً في تفكيك البنية السابقة للنظام السوفياتي ومن المستبعد أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، إلا أن المتشددين، بذات الوقت، لا زالت لديهم قوى كثيرة للامساك بزمام الأمور. إذ لا يزالون يسيطرون على كثير من المؤسسات والأجهزة والمصانع الصناعية العسكرية وقطاعات واسعة من الجيش. وهؤلاء المتشددون مصممون على إجهاض الديمقراطية وإنهاء المحاولات الهادفة لإلغاء الاقتصاد المركزي.
وأيضاً فإن الغربيين لا زالوا يتوجسون خيفة من العسكريين في الاتحاد السوفياتي. فقد ثبت أنهم زودوا غورباتشوف وشيفارنادزة بمعلومات غير دقيقة عن عدد القوات السوفياتية التي تشملها المعاهدة الأمنية الجديدة لوسط أوروبا، إذ قاموا بتحويل ثلاث فرق من الجيش الروسي ووضعوها تحت سلاح البحرية (وهو مستثنى من المعاهدة)، وكذلك لم يكشفوا حقيقة القوى السوفياتية الموجودة بأن أرسلوا بعضها إلى وراء جبال الأورال. ومن ناحية أخرى فإن معاهدة ستارت لم توقع حتى الآن.
بالإضافة إلى ذلك، يحذر الخبراء الأميركيون، بأن الاتحاد السوفياتي يبقى الدولة الوحيدة القادرة على تدمير أميركا في أقل من نصف ساعة.
وأيضاً فرغم محاولات ألمانيا بسحب الجيش الروسي مبكراً فإن القيادة العسكرية الروسية تصر على أن يتم ذلك في موعده أي 1994. ورغم حل الجناح العسكري لحلف وارسوا إلا أن هناك قلقاً في دول أوروبا الشرقية من عودة الهيمنة الروسية. حتى أن تشيكوسلوفاكيا نشرت مؤخراً 20 ألف جندياً على حدودها لمنع اجتياح روسي.
وكذلك فإن بولندا قلقة من استمرار وجود القوات الروسية على أراضيها، ولما طلبت سحب ثلث القوات بنهاية هذا العام كان الجواب أنها ستبقى حتى تنسحب القوات الروسية من ألمانيا إلى سنة 1994¨