بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30(.
وقال: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40(.
وقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ) (محمد: 13(.
ليثبتوك: أي ليقيّدوك ويحبسوك. نقل ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ) الآية. قال تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطْلَعَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات عليٌّ رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره. فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسيج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاث ليال. وعن عروة بن الزبير في قوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
وقال ابن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ) أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده كافيه وحافظه كما تولى نصره (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ) أي عام الهجرة لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم بصحبة صديقه وصاحبه أبي بكر فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم حتى يسيروا نحو المدينة. فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما» أخرجاه في الصحيحين. (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم في اشهر القولين.
وقيل عن أبي بكر، وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة. وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال.
هذه الآية الكريمة نص في الثناء على أبي بكر رضي الله عنه سواء فسرناها بنزل السكينة عليه أو بنزولها على الرسول صلى الله عليه وسلم. إذ أن الآية وصفته بصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي ليست مجرد صحبة جسد وصحبة مكان كما يحرفها بعضهم بل هي صحبة إيمان وصحبة اتباع للرسول على دين الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لصاحبه أبي بكر: (لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) وهذا نص قطعي على أن أبا بكر مع رسول الله وأن الله معهما. ومعيّة الله لهما هنا تعني التأييد والحفظ وليس معنا أي مطلع علينا.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) أي مكة (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) وهذا يشير إلى أنهم هم الذين أخرجوه. والآية الأولى تقول: (أَوْ يُخْرِجُوكَ) والثانية تقول: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) روى ابن حاتم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا خرج من مكة إلى الغار وأتاه فالتفت إلى مكة وقال: «أنتِ أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحب بلاد الله إليَّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك»¨